مكونات الإبداع في القصّة القصيرة جداً

 

مكونات الإبداع في القصّة القصيرة جداً

د مسلك ميمون
د مسلك ميمون

القصّة القصيرة جداً very short story بدعة فنية في إطار فنّ القصّة. و أقول بدعة ، لأنّها شيء مستحدث . إذ لم تظهر في عالمنا العربي كفن و كتابة إلا في تسعينيات القرن الماضي . و لكن استطاعت بسرعة أن تجد لها مكاناً تحت الشّمس، و وسط الزّحام . بل استطاعت أن تملك مريدين و مريدات ، و معجبين ومعجبات. و قد تكون الفنّ الوحيد الذي لم يجد معارضة من المحافظين ، إلا ما لا يكاد يذكر .

ربّما لأنّها وُلدت مكتملة ، و إن كان البعض يحاول أن يجد لها مسوغاً للوجود في العصرالحاضر و متطلباته : من سرعة و ضيق للوقت، و كثرة الهموم اليومية التي تصرف الإنسان عن مطالعة النّصوص الطويلة …. و يحاول البعض الآخر أن يبحث عن جذورها في التّراث العربي سواء منه المعاصر أوالقديم . بغية إثبات شرعيتها في الوجود . كاعتبارها امتداداً طبيعياً لبعض كتابات رواد السّرد العرب، و بخاصّة كتاب (المستطرف في كلّ فن مسظرف) للأبشهي ، و كتابات نعيمة ، و جبران خليل جبران في كتابه (المجنون) و بعض كتابات نجيب محفوظ في سنواته الأخيرة … تماماً كما حدث في الشّعر الحديث في الأربعينيات و الخمسينيات حين رُفِض من طرف شعراء الكلاسيكية . فمال الطرف المدافع لإثبات وجود جذور الشّعر الحديث في الموشحات، و البند، و النثرالشّعري لجبران ، و الشّعر المنثورلأمين الريحاني، و توشيحات المهجريين والشّعرالمرسل لعبد الرحمــن شكري…

و لكن ـ عموماً ـ القصّة القصيرة جداً وجدتْ لها مكاناً في الكتابة السّردية . وأصبحت تستقطب رواداً في الكتابة القصصية . و مهتمين دارسين في مجال السّرديات و التّحليل و النّقد رغم قلّتهم ، في العالم العربي .

و تبعاً لذلك ، ينبغي أن نتعرف أولا على هذا النّوع من الفن السّردي ، من خلال خصائصه . و نتساءل عن مبدعيه و مميزاتهم .
فالقصّة القصيرة جداً عمل إبداعيّ فنيّ . يعتمد دقّة اللّغة ، و حسن التّعبير الموجز ، و اختيار الّلّفظة الدّالة ، التي تتّسم بالـدّور الوظيفيّ fonctionnel و التّركيز الشّديد في المعنى . و التّكثيف اللّغوي الذي يحيل و لا يُخبر . و لا يقبل الشّطط ، و لا الإسهاب ، و لا الاستطراد، و لا التّرادف ، و لا الجمل الاعتراضية ، و لا الجمل التّفسيرية …. و يستهدف المضمون الذي يقبل التّأويل ، و لا يستقر على دلالة واحدة . بمعنى يسمح بتعدّد القراءات …و وجهات النّظر المختلفة …

إذاكانت القصّة القصيرة جداً بهذه المواصفات، فحتماً لن يكتبها غير متمرس خبير باللّغة . قاص بارع في البلاغة : متقن للّغـة المجازية langage figuré متنبه لكمياء الألفاظ ، و فلسفة المعنى ، و عمق الدّلالة . قاص لا تتحكم فيه حلاوة الألفاظ ؛ فيقتنصها لحلاوتها ، بل لما يمكن أن تخدم به السّياق المقتضب . قاصّ لا يغتر بالقصر المجمل لقصره . أو الإسهاب المطول لإسهابه ، و لكن يهتمّ بالمعنى على أن يقدَّم بنسق لغوي فنيّ في غاية من الاقتصاد . ليمكن القارئ الشّغوف بفنّ القصّ القصير، أن يقرأ داخل اللّغة intra – linguistique لأنّ القراءة السّطحية، لا تجدي نفعاً إزاء هذا النّوع من القصّ .إذ لا بد من قراءة ما بين السّطور القليلة . و خلف الكلمات المعدودة . فهناك لغة التّضمين homonymique

و إذا كانت القصّة القصيرة جداً و صاحبها كما رأينا ، يبقى من الضّروري أن نقول صراحة ، إنّ هذا الفنّ ليس من السّهولــة في شيء. لكن كم هو سهل على من يستسهله ، فيكتب جملا تدخل في إطار ما يعرف بالكتابة البيضاء écriture blanche التي لا تدل إلا على اللاشيئية nullité ويعتقد أنّه دخل صرح القصّة القصيرة جداً من بابها الواسع . إلا أنّه ينبغي أن نقول :إنّ رواد هذا الفنّ في عالمنا العربي قلّة قليلة . أمّا الكثرة الكثيرة ، فهي من تكتب خارج دائرة هذا الفنّ . و تعتقد نفسها ـ في غياب النّقد و المتابعة ـ أنّها داخل الدّائرة .

أعتقد ـ جازماً ـ أنّ الذي لم يزاول كتابة القصّة القصيرة والقصّة ، و الذي لم تتوفر فيه بعض من الصّفات الآنفة الذّكر . فهو كاتب يبحث له عن اسم في فنّ لا يعرفه. و في لغة لا يحسن سبكها ، و صياغتها، لأنّها لغة السنتمتر وأقل .و لغة التّكثيف الفنّي . و هذا يدعونا لنوضح ذلك قليلا :
 ــ التّكثيف: عملية ضرورية في مجال القصّة القصيرة جداً . و لا أكتم أنّني ؛ حين أقرأ نصاً : منفرجاً ،منفتحاً،بلغة إنشائية بسيطة وعادية …ما يعرف بالإنجليزية natural langage أو حين أجد الفائض اللّغوي الذي لا يخدم النّص في شيء ما يعرف l’inguistic redundancy أتضايق ، وأشعر أنّني أقرأ كلاماً عادياً ،لا صلة له بالفن ، فبالأحرى القصّة القصيرة جداً. و هذا لا يعني أنّ التّكثيف وحده يضمن نجاح القصّة ، بل هناك عناصر أخرى لا بدّ منها . و إن كان ليس من الضّروري أن تكون كلّها موجودة في النّص . بل ظروف الكتابة ، و معطيات النّص، و الحالة النّفسية للمبدع …. كلّ ذلك يساهم في إظهار عناصر، و احتجاب أخرى… .

2 ــ الرّمـــز : الرّمز أداة و وسيلة و ليس غاية . و هو يوظف بعناية في كلّ عمل فني : في الشّعر، في القصّة ، في الرواية، في الرّسم التّشكيلي ، في النّحث ،في المعمار، في الرّقص …. أستطيع أن أعمّم و أقول: الرّمز يسكن الحياة كلّ الحياة .
و الرّمز كوسيلة حين يوظف فنياً ، يغني النّص ، و يحمله على الاختزال . و يلعب دوراً جليلا في منحه بعداً ، ما كان ليتأتى بلغة واصفة مباشرة … و لكن له ضريبته الباهظة ،إذ يجعل النّص للخاصّة بل أحياناً لخاصّة الخاصّة ، فماذا سيفهم القارئ العادي البسيط، أو المحدود الثقافة إذا وجد في قصيدة أوقصّة … رموزاً كالتّالي : تموز tammuz أدونيسAdonis عشتار Ishtar الفنيق phoenix سيزيف Sisyphus إيزريس Isis أوزريس Osiris….و القائمة طويلة من الرموز الإغريقية و الفرعونية و الإنسانيــــة عموماً …لاشك أنّ هذه لا تقول شيئاً حتّى ـ ربّما لبعض المثقفين ـ و من تمَّ كانت الرّمزية كتابة نخبوية ، أو تجعل النّص نخبوياً .
و لتبسيط الرّمز و جعله في المتناول . ترك بعض الأدباء الرموز العالمية ، و لجؤوا إلى ابتداع رموز لغوية اجتماعية معروفة أو قد تعرف من سياق النّص ، سواء كان شعـــــراً أو قصّة .و لكن الرّمز الذي يوظف توظيفاً فنياً : يرفع قيمة النّص إبداعياً ، و يثريه دلالياً ، و يحمل القارئ بعيداً ، إلى فضاءات لا يمكن أن تحددها الكلمات العادية ، أو التّراكيب الواصفة البسيطة …

3 ـ الحجــــــــم : أمّا من حيث الحجم ، فهناك خلاف كبير.
فحين أقرأ ما كتبته نتالي ساروت من قصص قصيرة جداً في كتاب بعنوان (انفعالات)،أجد القصة عندها طويلة نسبياً دون أن أقــول : ورقة.و لكن حين أقرأ للقاص و الروائي الكبير ارنست همنغواي، أجده قد كتب يوما ً قصّة قصيرة جداً في خمس كلمات و هي : (للبيع، حذاء أطفال، غير مستهلك )، وأنّ بعض المواقع الأدبية أعلنت عن مسابقات للقصّة القصيرة جداً بشرط أن تكون كلماتها محصورة بين كلمتين إلى ثلاثمائة كلمة . بل و أجد رأياً آخر يحصر القصّة القصيرة جداً في 60 كلمة و ينصح الكاتبَ لكي يحافظ على المجموع (60) كلمة أو أقل، ينبغي أن يضع (60) سطراً مرقماً على أساس أن يتضمن ـ أثناء الكتابة ـ كلّ سطر كلمة . و في هذا خلاف كبير…..
فالقصّة القصيرة جداً إن جاءت في نصف صفحة.أو في فقرتين من ثلاث مائة كلمة، أوأقل كمائة كلمة ، أو ستين و بدون شطط و لا زيادة غير مرغوب فيها؛ فهذا جميل . و عموماً التّكثيف و الإيجاز و اللّغة الشّعرية … كلّ ذلك لا يسمح بالاستطراد و الشّطط والإطناب . و من تمّ أجد مبدع القصّة القصيرة جداً؛ من المبدعين البلغاء . فهو إن لم يكن بليغاً و متمكناً من ضروب البلاغة، لا يمكنه أن يأتي بالحدث في إيجاز بليغ فنيّ ، و إن حاول ذلك مــراراً.

4 ـ الراوي العليم أوالرؤية من خلف . فهي من أخطر الرؤى الممكنة . كيف ذلك ؟ فالراوي الذي يعرف كلّ شيء؛ يبَسط النّسيج الفنيّ ، و يحلّ عقد البناء القصصيّ، و يكشف كلّ الأوراق … ما يجعل النّص؛ نصاً عادياً خال من المتعة و التّشويق …ما لم يتحكم الكاتب في السّارد بذكاء و تبصّر، فينطقه حيث ينبغي له النّطق . و يسكته حيث ينبغي السّكوت ، ويجعله يتجاهل و يتغاضى ما ينبغي له فعل ذلك …و لكن مع الأسف هذا لا يحدث دائماً . فسرعان ما ينساق الكاتب نفسه ،خلف سارده المفترض، فيرخي الحبل على الغارب دون شعور. فتكون النتيجة نصاً مباشراَ و كأنّه تقرير مفتش شرطة ، أو ضابطة قضائية ، أو كاتب ضبط في محكمة …

5 ـ القفلــــة Résolution: القفلة هي جملة الختم شكلا ، ولكنها مناط السّرد عملا، فمنها ينطلق التّأويل ، و إليها يستند الـتّعليل ، و عليها يندرج التّحليل …
فهي ذات أهمية قصوى. حتّى أنّ البعض لا يرى قصّة قصيرة جداً بدون قفلة . و إن كان لي رأي مخالف . فالقفلة ـ على ما هي عليه من أهمية ـ فقد يحدث ألا يأتي بها القاصّ شريطة أن تكون القصّـة على درجة عالية من التّكثيف ، أو الرّمز ، أوالحذف والإضمار .. فنسقية النّص، و سياقهénonciation وتصويره البلاغي ….كلّ ذلك يجعل القفلــة استثنائية ، لأنّ ما سبقها ـ إن وجد ـ سيغطى على دلالتها و تأثيــرها .

و من خصائصها الملازمـــة التّالي :

1 ـ قفلة مفاجئة . غير متوقعة من قبل المتلقي . و لكن لها صلة بالموضوع .
2 ـ تحدث توثراً و انفعالا ، لنسقها الدّلالي و الصّدامي .
3 ـ تبعث على التّأمل و التّساؤل .
4 ـ تفتح آفاق التّأويل و التّحرّر من تخوم النّص .
5 ـ تأتي عفوية مع سياق الكتابة .
6 ـ لا تُصنّع ،و لا تعـدّ ، سواء من قبل أو من بعـد ، ففي ذلك تكلف .
7 ـ تضفي جمالية دلالية على النّص ، لما تكتنزه من معنى.
8 ـ تأتي على نسق بلاغي forme rhétorique يضفي مسحة فنية على النص .
9 ـ تتّسم بطابعها الوظيفي fonctionnel في النّص.
10 ـ تتّسم بالميزة الجوهرانية essencialiste في النّص.

أمام هذه الخصائص كلّها ، متجمّعة أو في معظمها ، يتبن مقدار الأهمية القصوى التي تحتلّها القفلـة . بل كثير من القصص القصيرة جداً تفقد دلالتها و متعتها و قيمتهـا فقط ، لأنّ القفلة اصطناعية artificiel خالية من العفوية الفنّية .

6 ــ التّيمة أو الموضوع : القصّة القصيرة جداً تتسع لكلّ الأفكار الممكنة . لكن ما ينعكس على مرآة النقد أن بعض كتاب القصة القصيرة قد يكررون أنفسهم ـ لا شعوريا ـ و لذلك أسباب ذاتية و نفسية .
فأمّا الذّاتية: فتعود للقاص نفسه . فقد يكتب مجموعة من القصص في فترة زمنية متقاربة . و ذلك استجابة لداعي الإبداع . و تدفق الإلهام ، أو لدافع تجاري يتعلق بالنّشر … فلا يمكن للقاص غير المتمرس ، إحداث تميز كبير بين نسيج العمل الأوّل وما يليه . بل الأدهى إن أعجب بعمله الأوّل ، أو كان ممن يسحرهم الثّناء و كلمات المجاملة الكاذبة . .. فسيتخذ من عمله نموذجاً ينسج على منواله . و مع توالي الأعمال و قلة النقد و التّوجيه . يتعمّق الخطأ و يتجذّر ،. فيصبح الإبداع في تعدد النّمط الواحد ، لا في ابتكار الجديد .. وهذا يوجد في السينما مثلا . إذ يحدث لبعض المخرجين أن تلاقي أفلامهم استحساناً فيتبعون نفس النّهج في الإخراج . إلى أن ينتشلهم النّقد و التّقويم من دائرة النّمطية والتّكرار ….

أمّا ما هو نفسيّ : فهو الأصعب . لأنّ القاص يجد لذّة لا تعادلها لذّة في اجترار تيماتthèmes تسكنه و تسيطر على إحساسه وقدرة تمييزه ،فلا يكتب إلاوفق السمة المميزة trait distinctif في لا شعوره، فيمنعه ذلك من التّفكير في التّحولات transformations الممكنة .فيكون في ذلك كجمل الطاحونه المعصوب العينين يدور و يدير الطاحونة . و لربّما يعتقد أنّه قطع مسافة طويلة ، حتّى إذا أميط الغطاء عن عينيه ، و جد نفسه مشدوداً إلى عمود الطاحونة و لم يبرحه قطعاً … و هذا ما توضحه بجلاء الأسلوبية التّعبيرية stylistique de l’expression
و للتّخلص من النّمطية و التّكرار . يصبح من الضّروري على القاصّ الإكثار من مطالعة القصص،في تنوع …مع الاهتمام بالتنظير، و النّقد القصصيّ . فهناك من لا يقرأ إلا إنتاجه فقط . و هذا مؤسف جداً !! كما يجب عدم الشّعور ـ مجرد الشّعور ـ بالوصول، و النّضج الفنيّ .فذاك مدعاة للتّقوقع و الانكفاء حول الذّات . و على العكس من ذلك ينبغي للقاص الحلم دائماً بالقصّة التي لم يكتبها بعد. و أن يكتب القصّة فلا يعقبها بأخرى ، إلا بعد فترة يخصصها للمطالعة فحسب . و لا يغتر بالثّناء المجاني الخادع . الذي لا يستند على برهان أو دليل. بل عليه أن يبتهج لأيّ عملية نقدية تقويمية ، تكشف بعض عيوب نصّه . و ليكن ناقد أعماله . فيكفي أن يترك العمل فترة ثمّ يعود إليه، متفحصاً متمعناً . فإنّه ولاشك سيجد ما يرضيه و ما لا يرضيه . و عموماً قد يكرر القاص نفسه . سواء في موضوعاته ، أو طرائق الكتابة ، و نمطية الأسلوب . و لن يخرج عن هذا المسار . إلا من كان يؤمن بالتّجديد أسلوباً و نهجاً .

بين أيدينا الآن مجموعة من إنتاجات مختلفة في القصّة القصيرة جداً .سواء التي صدرت في مجموعات ، أو التي نثرت في مواقع إلكترونية ، و منتديات ثقافية و أدبية … كلّها تشهد أنّ هذا الجنس الأدبي الجميل وُلد مكتملا ، نتيجة تجربة القصّة القصيرة ، و القصّة عموماً .
كما هناك ما أصبح يعرف بالومضة. و الومضة أصغر وحدة قصصية سردية، قد لا تتعدى السطرين أو ثلاثة، تتميزعن غيرها، أنّ الحدث يأتي كاملا لا يقبل تطوراً. و تعتمد الدّهشة ، و المفاجأة ، و الدّعوة إلى التّأمل فقط .
و في هذه المضمومة الكبيرة ، و الباقة الممتعة من الق ق ج… يبقى الاختلاف في الرؤية،والكتابة، والأسلوب، والديباجة ..وارداً…. و لكنّها تعطي صورة بانورامية عن هذه الكتابة الفنّية الرّائعة ، في عالمنا العربي . و إن كانت كلّها في حاجة إلى متابعة نقدية منهجية …تحدّد خصائصها ، و تبرز محاسنها ، و تقف على نقائصها …

د مسلك ميمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.