مجموعة ” قوارير ” للقاصّة شيرين طلعت / البنية الفنّية

شرين طلعت                                                القاصة :شيرين طلعت

      قبل أن تكون شيرين طلعت قاصة، كانت قارئة نهمة، و مطلعة شغوفة بالقراءة، وهذه ميزة المثقف، و خاصية كلّ مبدع في مجال الأدب. لهذا حين عمدت إلى كتابة القصّة ، و القصة القصيرة جداً بالتّحديد، كانت على بينة من ضروب السّرد و حيثياته .. و سماته و طرائقه..لهذا صدّرت مجموعتها بالتّالي:« القصّة القصيرة جدًا جنسُ أدبيّ دقيق جدًا، فهو كما يعطيك الدّهشة في .القفلة ملتزم بالتكثيف والسّرد واللّغة الشّعرية والصّور، فإذا أعطاك النّص عدّة تآويل فقد نجح في مهمته المؤلف.»

 

    إذاً، ليس من السّهل أن تغامر في فن مستحدث، بَعدُ لم يكتسب رواده بكثرة في مصر، دون أن تكون لها دراية بذلك ، ساعدتها على التّأليف بعزم واطمئنان رغم وعيها التّام بما للرواية من قصب سبقٍ في كلّ ما يُكتب من سرديات، و ما للقصّة القصيرة جداً من غرابة، و تخوّف لأنّها مازالت جنسا سرديا ، تلفّه هيبة و توجس ، و إقدام و إحجام . و لم يقبل به و يغامر إلا ثلّة قليلة، مافتئت تشق طريقها الصّعب بجهد و معاناة، و لكنّها تكبر و تتعدد . لهذا حين أقدمت القاصّة شيريـن طلعـت على كتابة القصّة القصيرة جداً، و اعتـزمت أن تمضي قدماًفي كتابتها. وجدت من بعض النقاد الذين ألفوا القصة القصيرة، و الرواية ، و القصيدة.. من راجعها في قرارها ، إلا أنّ هدفها كان أولا أن تساهم في النشر و التّعريف بهذا الجنس المستحدث، و ثانيا لأنّها كتبت عدّة نصوص ، فاكتسبت رصيداً و تجربة ..عزّ عليها التّخلي عنها. فمن أجل هذا كانت مجموعة ” قوارير”
و العنوان “قوارير” كناية عن النساء استلهاماً من الحديث الشّريف:(رفقا بالقوارير) (1)
و لقد أجابت عن ذلك القاصّة نفسها حين سُئلت في حوار حول المجموعة :
«ــ ما دلالة عنوان كتابك “ قوارير” ؟
ــ الإحساس في تعاملك مع القصص، بالإضافةِ لقصصٍ نِسائية فيه. » (2)
“قوارير “، صدرت عن دار ليليت للنّشر والتّوزيع، وتعدّ أوّل مجموعة للمؤلفة، بعد مجموعة كتب جماعية، صدرت بالتّعاون مع فريق القلم الحر ،منها : ” ألم الإشتياق ” و “فلاش باك “، وتحتوي المجموعة على أكثر من 150 قصة متنوعة بين رومانسية، وإجتماعية، وسياسية .
فماذا عن قصص المجموعة ؟ إنّها نصوص قصصية قصيرة جداً، حبلى بقضايا المعيش اليومي ،الذي يخصّ في الاعتبار العام المرآة ، كفاعلة إجتماعية ، و أسّ هام من أسس الأسرة . نحاول أن نبين بنيتها الفنية من خلال الخصائص النّالية :

1 ــ اللّغة العاطفية Emotional language
المجموعة حافلة بنصوص وجدانية، رومنسية متشنّجة، و الموضوع يتطلب لغة ملائمة، تخدم الفكرة و تؤطرها، و تقدمها في نسقٍ متجانس ، كما هو الشّأن في النّصوص التاليــة : (فصول، صولو، نظرات، جرح ناطق، سوء نية، إنفصال، صيد، أمومة، مكابرة،أشعار..)
ففي نص فصول، ترجمة فنّية للعلاقة التي تبوء بالفشل، فهي أقرب ما تكون لفصول السّنة على اختلافها، و تباينها..
” التقيا في الرّبيع، تفتحتْ براعمُ حبِّهما. أتي الصيفُ زَادَ من حرارة غرامهما، حلَّ الشتاءُ انهمرت دموعُها، وسقطت الأوراقُ في الخريف.”
نص تؤسسه أفعال أربعة : [ تفتحت، زاد ،انهمرت ، سقطت ] يقابلها أسماء أربعة [ ربيع ،صيف شتاء، خريف ] و تهيمن اللّغة العاطفية على النّص : [التقيا في الربيع، تفتحتْ براعمُ حبِّهما. أتي الصّيفُ زَادَ من حرارة غرامهما..] كما تتجلى روح المأساة العاطفية كأي صدمة بالغة، تفت عرى العلاقة التي بُنيت على أساسٍ من الآمال، والأحلام الجميلة :[حلّ الشتاء انهمرت دموعها، وسقطت الأوراقُ في الخريف ] و ليس بعدَ السّقوط إلا الخيبة و الانتهاء .,

2 ــ التّضاد الوجداني Ambivalance

في إطار اللّغة العاطفية ، كثير من نصوص المجموعة جاءت دلاليا في نسق من التّضاد الوجداني، كخطاب اجتماعي و نفسي ، أنّ العلاقات و إن بدأت بإعجاب و مــودة .. فإنَّ العِشرة و دوامها منوطة بالتّكافوء الوجداني، و العقلي، و النّفسي إلى حدٍّ ما .. فكلّما اختلَّت كثيراً هذه الخصائص،لا يُجدي إعجاب البداية شيئاً يستحق الذكر،فسرعان ما يدبّ الخلاف، و تنشأ الأزمات، و تتغير الرّؤية و يُصبح ما كان مثار السّعد و اللألفة و الاطمئنان ، سبب الخلاف و الشّنآن.. كالذي نجده في نص ” جرح ناطق ” :
” قام بطرق الباب ، سمع صوتا يشبه صوتها يخبره بالذهاب،اتصل بها يسألها عمّن بالبيت، أخبرته بأنّها وحدها، قال: إنّ أخرى تشبه صوتك قالت لي : ارحل .
قالت : لست أنا من تكلم إنّما جرحي .”
عنصر التضاد الوجداني القائم بين البطلين يُجسده المقطع التالي :
قال: إنّ أخرى تشبه صوتك قالت لي : ارحل .
قالت : لست أنا من تكلم إنما جرحي .
بدون تفاصيل، و لا إسهاب و لا حشو، ولا فائض لغوي L’inguistic redundangy نشعر أنّ العلاقة فقدت طعمها، و أنّ الخلاف تعمّق نتيجة التّضاد الوجداني ، و أصبح أكثر عمقا ، حين أمسى الأول لا يشعر بما يشعر به الثاني. و هذا إحساس يتكرر بفنية قصصية في نصوص منها : (سوء نية ، انفصال ، صيد، أمومة ، مكابرة ، أشعار ، مشهور ، صدى الجرائم، أوزار..)

3 ــ تقنية الكتابة Writing technique
لعلّ أبلغ ما يشد المتلقي في القصة القصيرة جداً صياغتها و نسقية تركيبها.. فالحجم الصّغير، كلّ ما فيه يتطلب الدّقة ، و حسن الاختيار اللّفظي، و بلاغة التّركيب.. و القاصة شيرين طلعت واعية بهذا كما أسلفنا آنفا..و تظهرملامح تقنية الكتابة في نصوص المجموعة لكلّ متأمّلٍ حريص على الفعل القصصي و تركيبه :

أ ــ البداية بالأزمة Crisis
و في ذلك نصوص كثيرة، و هي طريقة متداولة في القصة القصيرة و الرّواية أيضاً ، و منها في هذه المجموعة : [أوزار ،صورة، حرية، بين فكيـن، أحجية…] و عامل المتعـة القرائية في مثل هذه النّصوص ، أنّ المتلقي يُصدم بالحدث و قد وقع، و من ذات نفسه يهتمُّ بالدّواعي التي على إثرها تشكّلت الأزمة، فيكون ذلك محفزاً على القراءة بشوق، و لهفة، و فضول،و تحرٍّ..إلى أن ينتهي إلى نتيجة ..

ب ــ السّبب و النّتيجة cause and effect و هي تقنية متداولة ، و قـــد تكون من أقدم تقنيات القص، في اتباعها البناء التّراتبي الذي له بداية و نهاية ، سبب و نتيجة،و لكن الجديد عند القاصة شيرين طلعت أنّها تُجيد إعداد القفلة ، فكلّ التّرتبات /الأسباب،التي توهم المتلقي بشيء ما ، تجعله يشعر بالدّهشة و الصّدمة، لأنَّ السّابق لم يأت باللاحق المنتظر في الذّهن و إن كان في حدِّ ذاته يشكّل نتيجة.و هذا ما يعرف بالقصة الصّدمة Sudden story و في هذا مجموعة من النّصوص التي تنحو هذا المنحى ..

ج ــ التخيلية Fictionality
و هي هنا وليدة الحذف و الإضمار ، أشياء كثيرة تبدو للمتلقي محذوفة ، دلّ عليها السّياق العام ، و أشياء كثبرة، سكت عنها السّارد، لكن المكون العام للنّص يوحي بها الشيء الذي يفتح المجال خصباً للتّخييل و بالتّالي للتّأويل ، و تلك من فنية القص القصير جداً . لنتأمــل ذلك في النّص السّياسي ” لأجل الوطن ” ص/44

” أصابته طعنةٌ من أخٍ له، اتّجه ناحيةَ البحر ليُخفيَ أثا رَها، طَفت جثتُه! “

فعلى المتلقي أن يتخيل أبعاد النص التي تعود به إلى محنة اللاجئين، و كيف فرّوا بأنفسهم من الظلم السّياسي ، و القتل الهمجي ، و الإهانة و الحصار و الجوع ..يلتمسون النّجاة خلف أمواج البحر، فلا هم نجوا ، و لا أحلامهم تحققت ، و كأنّي بهم : فروا من الموت إلى الموت .

د ــ نظام التّرميز Symbolie system
و يأخذ طابعاً لغويا أحيانا،و أحيانا أخرى يأتي نتيجة ضروب بلاغية كالكنابة و الاستعارة . ما يفيد أنّ القاصة ــ ربّما لم تعمد إليه قصداً ــ و لكنّه جاء نتيجة عوامل أخرى ترتبت عن السّياق..ونظام التّرميز، الذي انتهجته القاصة شيرين طلعت في بعض نصوص المجموعة فبحكم تركيبه، لم يأت بالعمق الذي هو مألوف في الرّمزالأسطوري أوالتراثي أوالتّاريخي..
و لكن رغم ذلك فسح المجال للتّأويل، و القراءة ..كما هو في [ أنثى متمردة،ملكية، خدعة، التيار، انفصال، زير نساء، رجل .. ]

هـ ــ المفارقة Paradox
قد تكون المفارقة على تباينها، و تنوعها أساس بناء هذا الجنس السّردي، و إن كانت لا تخصّه دون غيره من الأجناس الأدبية ، فإنّنا نجدها في الشّعر أيضاً ، و لكنّها و كما يقول توماس مان: (هي ذرّة الملح التي تجعل الطبق شهياً). و أهمها : المفارقة اللفظية Verbal Irony و مفارقة الموقف Situational Irony و هي تعني الاختلاف و التباين ، و التعارض و التناقض الشديد،على مستوى النص القصصي.و دورها الأساس لفت الانتباه بطريقة ذكية وفنية لما ترمي إليه فكرة النّص، بعيداً عن التّقريرية الساذجة، و تلميحــاً لجادة الصّواب ، في الأفكار، والمبادئ ، و الأخلاق، و السّلوكات الفردية ، و الجماعية.. و في محموعـــة ” قوارير” اعتمدت النّصوص أسلـوب المفارقـة . ففي نص ” مِلكيـة ” ص/48 و هو مــن نصوص المجموعة القصيرة والقصيرة جداً، هذه المفارقة السّاخرة اللّفظية :

” سألها: هل تكتبينَ الشّعرَ؟ قالت: لا، ولكن لي قصائدُ با سمي . “

فكيف لا تكتب الشّعر؟ و كيف تكون لها قصائد باسمها ؟
المهم هنا ، ليس هو السّؤال في حدِّ ذاته ، و لكن ما يوحي به طرحه ، و ما يفيده من حيرة و تعجب..و إدراك للمسكوت عنه .
و كذلك في نص ” التيار ” ص/50 مفارقة موقفية :

” قرّر الخروج ،تمرّد عليهم ، دهسته أفكارُهم، تعافى ، سخروا منه ، و حاولوا قتله ،التقى بظله و أقنعه أنّ أفكاره بمأمنٍ داخل الصّندوق .”

الأفكار و المبادئ ، و القيم.. للتّطبيق و التّنفيذ ، فلا هي كانت و لا كان صاحبها إن لم يكن لهـا وجود فعلي ..فما بالك إن كانت مع صاحبها جثة هامدة في صنـــدوق ؟ !

في غير هذا تبقى مجموعة” قوارير” نابضة فنيا بأساليب مختلفــة أهمّها: الحذف و الإضمار ، و هذا شائع في كلّ النّصوص، ما أضفى عليها سمة من الاختزال و التّكثيف، و ميلا للتّلميح و الإشارة. مع اعتماد القفلة المفاجئة و الصّادمة .. التي كثيراً لا تخطــر على ذهن المتلقي، و كأنّ السّياق أعدّ بطريقة مخادعة، و لكن السرّ في ذلك و كما رأينــا يعود لاعتماد القاصّة شيرين طلعت على توظيف المفارقة المناسبة ، و الحرص عليها .

و هكذا تكون القاصة شيرين طلعت قد أبانت من خلال هذه المجموعة عن وعي بالكتابة القصصية القصيرة جداً. فكتبت و أبدعت. و تجنّبت الكثير من عثرات و هفوات البدايـــة، التي قد يقع فيها كثير من القاصين والقاصات. و أعطت للنص القصير جداً نكهة رومنسية ، و اجتماعية ، و سياسية .. كدليل على أنّ هذا الجنس الضّئيل الحجم، و القصير جداً .. قادر أن يستوعب مضامين كبرى، و أفكارا عميقة أخرى..

د.مسلك ميمون

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ رواه أنس بن مالك رضي الله عنه.
2 ــ حوار مع الكاتبة شيرين طلعت http://www.book-juice.com/ /
رأيكم يهمنا1
.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.