أ د أحمد شحلان يغوص في علاقات العربية والدّارجة بين الاضطراب والاتّزان

هذه قضايا كبرى لا يجب أن تكون موضع جدل عند من هَبَّ ودَبَّ، فهي من خواص من يدبر للأمة شؤونها، ويجب أن يشارك في ذلك ذوو الشأن السياسي من ذوي التوازن والرزانة وأهل المعرفة.

ولا حق لي أنا، الباحث الأكاديمي، ما دمت لم أستشر، أن أقول كان على هؤلاء المدبرين أن يفعلوا كذا أو كذا، غير أنه من واجبي الوطني أن أُبدي في الأمر رأياً محايدا يتضمن كلاما بعيداً عن السياق من وجه، لأني لا أريد أن أكون طرفاً في الجدل، وقريباً من السياق من وجه، لأني انطلقت في قولي هذا، من حديث صحفي أجرته صحيفة وطنية هي أخبار اليوم (6/9/2018) حول قضية مقرر دراسي، حيث استوجبت الصحيفة شخصاً معروفاً في محيطه، فتعرض لهذه القضايا بطريق لا يمت للحقائق العلمية واللغوية بشيء.

ورأيه هذا يمثل رأي مجموعة من الناس. أحترم هذا الشخص في أفكاره التي دافع ويدافع عنها من حيث هو إنسان له الحق في معتقده، غير أني أشعر بالتنصل من مسئوليتي كمحب لوطنه، إذا تركت كلامه يُنشر في الناس دون أن أبين بعض ما أعتقدُه صواباً، أو على الأقل، أدعو الباحثين لينظروا في أمره. وأبدأ برأيه حول اللغة العربية الذي ينفي عنها قدسيتها في كثير من مقالاته واستجواباته، وبسم الله:

اللغة المقدسة

لوصف أي شيء بالقداسة أو نفيها عنه، لا بد أن نفهم معنى مفهومها وما حدوده وفي أي حقل من حقول المعارف يُستعمل هذا اللفظ. لقد غاب عن منكر القداسة عن العربية، أن مفهومها لا يرتبط بالبيعة أو الكنيسة أو المسجد أو المعتقد وحسب. إن القداسة في أصل اللغة، هي احترام أي شيء يَعتقد فيه الإنسانُ أفضليةً وسمواً وشيئاً يدعو للاحترام، ومن هذا المعنى العام، يجد المستعملُ المفهومَ الذي يريد. فأنا أجد مفهوم القداسة متمثلا في اللغة العربية من وجهين: الأول لأنها لغة تاريخي وتراثي ولغة القرآن.

ويتعلق الأمر هنا بمعتقدي الوطني والديني الذي يخصني وأعتز به ولا أفرضه على أحد. والوجه الثاني هي مقدسة لأنها لغة علم وحضارة وتطور وتفاعل. كان ذلك منذ ظهور الإسلام، حيث أصبحت لغة مراسلة دنيوية محض في مكاتبات النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، إلى غير المسلمين من أحباش وفرس وروم ووو، وأصبحت دنيوية عندما شاركت في حركة ترجمة واسعة النطاق، منذ العصر الأموي حيث عُــرِّبَتْ الدواوين والعُمْلَة وديوان الخْــَراج وسجلات الجيش…، إلى ترجمة التراث الإنساني المتمثل على الخصوص، في مدونة المعارف الإغريقية (أصل ومصدر ثقافة الغرب اليوم)، سواء في ترجمات مباشرة عن اليونانية أو عن السريانية. ثم في الموسوعة العلمية العربية الكبرى، التي كانت بلُغَتِها أو مترجمةً، هي الوسيلةَ الأولى للمعرفة في الغرب بعد أفول حضارة اليونان.

والحديث عن هذا يحتاج إلى موسوعة كبرى، ويكفي اللبيبَ الإشارةُ. اللغة العربية من هذا الوجه هي مقدسة، أي مقدرة محترمة باعتبارها كانت وعاء للمعارف الشاملة. وبهذا قدسها البابا في عصر بداية تعلم الغرب عنا، عندما حث أتباعَها على تعلمها وترجمة القرآن في طليطلة، في القرن الحادي عشر الميلادي.

وما كان هو وإياهم يؤمنون بكتابها المقدس. وقدسها علماء الغرب مؤرخو الحضارات بهذا المعنى، وما كانوا يقدسون كتابها. وبهذا المفهوم نحن نقدس، أي نحترم ونقدر، اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية واللغة الصينية واللغة الألمانية، وكلَّ لغة تتحرك في حقول المعرفة أو تُواصِل الإنسان بأخيه، لأنها وعاء للمعارف والتجارب الإنسانية المــُعْتَبَرة.

وبهذا نأمل من الذين لا يريدون للغة العربية أن تكون مقدسة أن يَدَعُوا التخفي وراء مثل هذا الجدل الذي لا معنى له، في وقت تمتلئ فيه مكتبات الدنيا بمخطوطات علمية لم ننته حتى اليوم من تصفحها والنظر فيها. وتمتلئ فيه مكتبات الدنيا بالبحوث القيمة التي تركها مستشرقون- ونحن قصدنا ذكر المستشرقين، لأنهم لا يؤمنون إلا بشهادة غير أهلهم – ممن تحدث بحق عمَّا أُنْجِز في كل العلوم، باللغة العربية، وفي كل العلوم، كما عرَّف أرسطو العلمَ، ليطمئن هؤلاء ويتيقنوا من أنا لا ندعو للانغلاق.

وفي اليوم الذي يذهب فيه أطباؤنا المغاربة في زمانا هذا، وهم الذين تعلموا بلغة عربية أولا، إلى جامعات غربية وأمريكية، يبينون لهؤلاء الناس ما تتضمنه مؤلفات من مثل كتاب الكليات لابن رشد، وكتب الرازي وابن الهيثم وغير هؤلاء، من نظريات هي قيد النظر العلمي الحديث. إننا لا نتحدث عن ماضي هذه العلوم، فنوصف بالبكاء على الأطلال، بل نشيد بها لأن علماءنا الكبار الذين يُشْرفون اليوم على إدارة شُعَب علمية في أدق المعارف العلمية في جامعات الغرب وأمريكا، بمعية علماء ينتسبون إلى هذه الديار، يثبتون ما نقول. وهذا أيضاً موضوع آخر لا يسمح حيز الكلام بالتفصيل فيه، فمتتبعو البحوث الأكاديمية يعرفونه.

ومما ورد في المقال في الصحيفة المذكورة، في جملة خبرية نحولها نحن إلى سؤال وجهه الصحافي إلى مُسْتَجْوَبِه جاء: ألا تُعتبر الدعوة إلى التدريس بالدارجة بدل العربية مساً بهُوية المغاربة، لأن العربية هي لغتهم الوطنية؟ أنكر المُسْتَجْوَب أن تكون العربية لغة وطنية للمغاربة بمنطق غريب لا يثبت أمام أعراف الدنيا قال: “يجب على أصحاب هذا الطرح [العربية لغة وطنية للمغاربة] أن يحددوا أولا معنى الوطنية، فاللغة العربية التي يدافعون عنها موجودة في السعودية وفي سوريا وفي مصر وفي غيرها من البلدان، فيما الدارجة والأمازيغية موجودتان في المغرب”.

يريد بهذا، أنه ما دامت اللغة العربية موجودة في هذه الدول، فهي ليست وطنية بالنسبة للمغاربة للاشتراك فيها. سبحان الله ! فهل يمكن لهذا الرجل أن يزيل صبغة اللغة الوطنية عن اللغة الفرنسية لأنها لغات وطنية هي أيضاً للكنديين في كيبك، ولغة وطنية لقسم من السويسريين، ولغة وطنية لقسم من البلجيكيين، ولغة وطنية لعديد من الجزر فيما وراء البحار، وتشاركها لغات أخرى هي شبيه بدارجتنا وأمازيغينا في هذه الأوطان؟

لــــــــغة الأم

وحسب منطقه، وبما أن العربية ليست لغة وطنية، فالدارجة هي اللغة الوطنية، وبها وجب التدريس باعتبارها “لغة الأم” يقول: “أعتبر الأمر [التعليم بالدارجة] تطبيقاً لمبدأ استقبال الطفل باللغة الأم الذي نادت به اليونسكو، وهي فكرة سليمة لتمكين التلميذ من مد الجسور مع الأسرة والمجتمع والمدرسة، حتى لا تصبح الأخيرة غريبة عن العالم الذي يعيش فيه، وحتى لا يحدث للطفل اضطراب لساني بسب الانتقال من لغته اليومية إلى لغات غريبة عن وسطه ،كالفصحى أو الفرنسية، وهو ما ينطبق عن الأمازيغية أيضاً، إذ إن الطفل الناطق بالامازيغية يفترض أن يجد لغة الأم في المدرسة وبعدها يمهد له تلقي اللغات الأخرى”.

قول مليء بالمغالطات ولا أريد أن أقول مليئاً بالجهل. فهذا الرجل أولا لم يُصَبْ “بـ”اضطراب لساني” وإلا ما أصبح “نجماً” في وسائل الإعلام، وقد تكلم أولا بالأمازيغية والدارجة، ثم تعلم العربية الفصيحة التي يُـجْري بها حوارَه. وهذه هفوته الأولى في قوله. وهفوته الثانية أنه بعد قوله هذا، يدافع عن الفرنسية ويرى أنها هي لغة العلم كما سنرى، مع أنه يقول: “وحتى لا يحدث للطفل اضطراب لساني بسب الانتقال …إلى لغات غريبة عن وسطه كالفصحى أو الفرنسية”. ثم، وهو الأهم، يلتبس عليه معنى مفهوم “لغة الأم”، الذي يَعتَمِدُ فيه مبدأ اليونسكو. فما تاريخ العبارة “لغة الأم” أولا؟ وكيف تفْهَمُها اليونسكو ثانياً؟

أصل العبارة “لغة الأم” ديني. وظهر لأول مرة في القرن العاشر- القرن الحادي عشر، إثر صراع بين جناحين في الكنيسة الغربية، بين رهبان دير L’abbaye de Gorze الذين كانوا يستعملون في وعظهم وخطبهم لهجة جرمانية، ورهبان دير L’abbaye Saint-Paul de Cluny الذين كانوا يريدون استعمال لهجة رومانية التي هي francique”الفرنسيك” باعتبارها “لغة أم” لأنها كانت لغة النساء، ولأنها كانت تستعمل في “الكنيسة الأم”، كما نَصُّوا هم على ذاك. فمفهوم العبارة في الأصل خاص جدا يتعلق بلغة الكنيسة الأم.

بعد هذا كُتبتْ حول “لغة الأم” أدبياتٌ كثيرة، نختار من بينها فقرة من مقالة أوردتها المنظمة التي يعتمدها المستَجْوَبُ مؤرخة بـ 21 يبراير 2018 ، تحت عنوان L’UNESCO préconise la préservation de la langue maternelle (اليونسكو تدعو للحفاظ على لغة الأم) (النص في الأنترنيت)، ونوردها بلغتها قبل ترجمتها لكي لا نتهم فيما نقول. فكيف تعرف اليونسكو “لغة الأم”؟ تعريفاً جيداً كما تقول: ” la bonne explication” النص:

“La langue maternelle dite aussi langue native ou langue première (versus langue étrangère) est la première langue apprise à la personne dans la petite enfance, autrement dit, c’est la langue qui est parlée à l’enfant à la maison même avant qu’il apprenne à parler. Il s’agit de la langue que l’enfant comprend avant de commencer l’école. Par ailleurs, la langue maternelle est celle qui est parlée par les natifs du pays où la personne habite. La langue maternelle est surtout celle que l’individu assimile et comprend mieux, au sens d’une valorisation subjective qu’il fait par rapport aux langues qu’il connait.

Il s’agit aussi de la langue acquise de manière tout à fait naturelle par le biais de l’interaction avec l’entourage immédiat, sans intervention pédagogique et sans une réflexion linguistique consciente. D’après les théories de Noam Chomsky et d’autre linguistes, la langue maternelle peut s’apprendre jusqu’à l’âge de douze ans. Après cette étape, les dextérités linguistiques du parlant sont différentes et toute langue apprise est considérée une deuxième langue”

الترجمة: “لغة الأم، وتسمى أيضاً لغة المَوْلِد أو اللغة الأولى، (في مقابل اللغة الأجنبية)، هي أول لغة يتعلمها الشخص في مرحلة الطفولة المبكرة، وبعبارة أخرى، هي اللغة التي يتحدث بها الطفل في البيت حتى قبل أن يتعلم الكلام. يتعلق الأمر باللغة التي يفهمها الطفل قبل بدء المدرسة. ومن جهة أخرى، لغة الأم هي لغة البلد الذي هو مسقط رأس الإنسان أصلا. وهي خاصة باللغة التي يستوعبها الفرد ويفهمها بشكل أفضل، عن تمثل ذاتي، عندما يقارن بين هذه اللغة ولغات أخرى يعرفها. وهي كذاك، اللغة المكتسبة بطريقة طبيعية تمامًا من خلال التفاعل مع المحيط المباشر، دون أي تدخل تربوي ودون تلقين لغوي مكتسب عن وعي. وتبعاً لنظريات Noam Chomsky وغيره من اللغويين، فصفة “لغة الأم” تستمر حتى سن الثانية عشرة. بعد هذه الخطوة، يظهر التباينُ في الحذق اللغوي لدى المتكلمين، وأي لغة يتم تعلمها تعتبر لغة ثانية”.

يتضح من هذا النص أن “لغة الأم” منحصرة في ” لغة يتعلمها الشخص في مرحلة الطفولة المبكرة” “يتحدث بها الطفل في البيت حتى قبل أن يتعلم الكلام” “يفهمها الطفل قبل بدء المدرسة” “مكتسبة بطريقة طبيعية تمامًا من خلال التفاعل مع المحيط المباشر” “دون أي تدخل تربوي ودون تلقين لغوي مكتسب عن وعي” “تستمر حتى سن الثانية عشرة” “أيْ لغة يتم تعلمها تعتبر لغة ثانية”.

وتسمح لنا هذه العبارة الأخيرة، أقول تسمح، بأن نفهم أن اللغات الني تستعملها فرنسا وإنكلترا وأمريكا ووو ،كلها لغات ثوان تختلف عن لغة الأم حسب التعريف، لأن هذه اللغات تأخذ عند هؤلاء الناس، بواسطة قواعد النحو والصرف والبلاغة التي لا تدخل في تعلم لغة الأم ولا يعرفها الفرنسي أو الإنجليزي أو الأمريكي الذي لم يدخل المدرسة (الأمي) لسبب من الأسباب.

إذاً نفهم بناء على هذا القول، أن نص اليونسكو يفرق بوضوح بين “لغة الأم” الطبيعية، و”لغة الأمة” المبنية على القواعد النحوية (تركيباً وصرفاً وبلاغة)، والمُرَفَّدَة بالمدونة المعجمية التي تتضمن إرث الأمة المكتسب تاريخاً وجغرافيا، والتي تتوحد فيها معاني اللفظ على امتداد جغرافيا الوطن وتاريخه، ولا تختلف فيها المسميات من جهة إلى جهة إلا بقدر الاختصاص المجمع عليه لدى الأمة كلها. وتتطور معاني هذه اللغة تبعاً لتقدم العلوم وتنوع المعارف. وهذا لا يصدق على “الدوارج” المصطبغة بصبغة المحلية، الخالية تماماً من مدونات المصطلح العلمي بطبيعتها الوظيفية المياومة. وإنما يصدق على اللغة الموَحَّدَة الموَحِّدَة المقعَّدة ذات التراكم المعرفي الشامل. (فلفظ “البغرير” ولفظ “لغريبة” مثلا، لا يصلحان ليكونا واسطة للمعرفة المشتركة في المغرب، لأنه يطلق على مسماهما في جهة أخرى لفظٌ مخالف، ف”بغرير” مراكش هو “خرينــﮕـو” وجدة. و”غريبة” الرباط هي “بهلة” فاس. فإذا وضعنا هذين الاسمين وغيرهما في مقرر مدرسي لم نقم بشيء، لأنه لا جديد معرفي بالسبة للطفل الذي جاء ليتعلم، فهو يعرفهما أصلا، ووجودهما في المقرر عبث.. ثم، وهذا هو الأهم، إنا اخترنا لهجة جهة ولم نختر غيرها، فما المبرر في الاختيار؟ مؤلف النص الذي ينتسب للجهة؟…. وتبعاً لهذا، لكي نكون عادلين في تعليمنا، يجب أن نضع مقرراً دراسياً لكل جهة من الجهات فيه نكدس ما تراكم من كلم خاص بالجهة. وعندها علينا أن نقسم المقررات حسب الجهات وحسب التقسيمات السياسية. وعندها سنحدث قطيعة بين المعارف في البلد الواحد، ثم نحدث قطيعة بين الأمة، ثم نحدث قطيعة بينا وبين موروثنا المعرفي التاريخي المحلي والتاريخي الإنساني. وليس في الأمم المتقدمة من يسعى إلى هذه الحال.

ولو كانت اللهجة الدارجة هي المقصود من العملية التعليمية، لكنا نعبث عندما نفتح المدارس وكل مؤسسات التعليم، لأن الكل يعرف اللهجة سليقة. ولو أردنا أن نجعل من الدارجة وسيلة لنقل المعارف، لتَوَقَّف بنا الركب في بدء المسير، فليس في الدارجة تراكم لمدونة مصطلحية علمية، لأنها مذ كانت وهي لغة الاستعمال اليومي، وفي أبعد الحدود، لغة الخلق والإبداع في شعر الملحون أو أنواع “الْعِيطَة” أو القصص والسرد. ولو كانت اللهجة العامية كافية بنفسها، لوجدنا في العامة علماء في علم الفلك والرياضيات والفيزياء والفلسفة ووو بالسليقة والطبيعة، وهكذا دواليك.

لقد ظهرت الدعوة إلى استعماله العامية في الشرق العربي منذ القرن الثامن عشر، وكان الدعاة إلى ذلك أقوى، وما نجحوا في صنع علم بها. وقد فصل العلاَّمةُ مصطفى بنحمزة ، القولَ في هذا، في مقاله المنشور على هذا المنبر. فتلك العاميات كلهالم تصنع علماً لأنها انفصمت عن تراث لغوي تمثل فيه إرث أربعة آلاف سنة زماناً، وحدث لأهله نسيان تجارب إنسانية تحقق فعلها على مدى ثلاث قارات هي آسيا وإفريقيا وأوروبا. وواقع حالهم هذا كان نتيجة لأسباب كثير تاريخية معروفة، وأصبحت عامياتهم غير مؤهلة للصياغة العلمية، هذا عدا عن كونها متفرقات يختلف نطق مخارجها حروفها بمجرد تعدي الحدود، وتختلف معاني معجمها في اللفظ الواحد إلى حد التناقض والجهل بأصل التأثيل.

وعليه فالمناهج الدراسية لا توضع في كل الأمم المتقدمة بالعاميات أو”لغة الأم” كما وُصِفَتْ أعلاه، وإنما توضع بـ”لغة الأمة” الموحدة. وهي في هذه الأمم، لغة تختلف عن “لغة الأم” كما وُصِفَتْ أيضاً أعلاه. وبهذا تزول صفة التشوش الذي نحدثه في أذهان الناس. فالدارجة المغربية هي “لغة مكتسبة بطريقة طبيعية تمامًا من خلال التفاعل مع المحيط المباشر، دون أي تدخل تعليمي ودون تلقين لغوي مكتسب عن وعي” تبعاً للتعريف أعلاه. وتبعاً للتعريف أعلاه، فهي ليست لغة تلقين. في حين أن لغتنا الفصيحة، وتقابل اللغات ما بعد “لغة الأم” عند غيرنا من الأمم هي لغة التلقين.

اللغة العربية لغة واحدة حتى وهي دوارج وليست في حاجة إلى واسطة

مع العلم أن الدارجة (في كل الدول العربية) تتميز بشيء لم ينتبه إليه معادو العربية، ذاك هو كونها عربية محض في بنيتها التركيبية والصرفية، ولا ينقصها إلا الإعراب، مع اكتسابها معجماً جديدا يصلح للاستعمال اليومي. وهي بهذا مدمجة أصلا في العربية الفصيحة، ولا تحتاج لوسائط يينها وبين الفصيح، كما يدعي من يريد دمجها في التعليم الأولي لتكون واسطة. فطفلنا اليوم ( فاتح محرم 1440 موافق 11 شتنبر 2018) يردد في أول قسمه التعليمي “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع” التي جرت بها الألسن قبل 1440 عاماً . يرددها نشيداً مفهوما في أبسط لغة، وجرت بمفرداتها الألسن في زمن أقدم بكثير كثير من هذا التاريخ. على خلاف ما حدث في اللغات الأخرى، مثل الإيطالية، والسردينية، والبروﭬانسال والإسبانية والكطلانية والبرتغالية، والرومان (سويسرا النمسا ) والفرنسية (فرنسا وبلجيكا) (هذه هي بنات اللاتينية) التي انفصمت الروابط بينها وبين أمها اللاتينية انفصاماً تاماً. بل فقدت الواحدة منها روابط التواصل داخل نصوصها التاريخية (شفاهة أو علماً). فالفرنسي اليوم لا يفهم شيئاً من الفرنسية القديمة التي لم تولد إلا في 14 فيفريي 842م ، في أول نص، وهو النص المعروف بـ”عَهْد ستراسبورﮒ”Serments de Strasbourg ، وهو العهد الذي بمقتضاه اتفق حفيدا شرلمان Charlemagne ، وهماCharles le Chauve و Louis le Germanique ضد أخيهما Lothaire Ie في صراع عن الحكم. وهذا هو النص الأصل، أي عِقْد ازدياد اللغة الفرنسية:

Pro Deo amur et pro christian poblo et nostro commun salvament, d’ist di in avant, in quant Deus savir et podir me dunat, si salvarai eo cist meon fradre Karlo et in aiudha et in cadhuna cosa, si cum om per dreit son fradra salvar dift, in o quid il mi altre- si fazet et ab Ludher nul plaid nunquam prindrai qui, meon vol, cist meon fradre Karle in damno sit.

طبعا لا يستطيع عالم اللغة الفرنسية اليوم، فضلا عن فرنسي عاد، أن يفهم فيه شيئاً، لأن لغة هذا العالم اليوم ابتعدت كل البعد عن أصلها وأصبح النص هو:

Pour l’amour de Dieu et pour le salut du peuple chrétien et notre salut commun, de ce jour en avant, autant que Dieu m’en donnera le savoir et le pouvoir, je défendrai mon frère Charles, et l’aiderai en toute circonstance, comme on doit selon l’équité défendre son frère, pourvu qu’il en fasse autant à mon égard. Et jamais je ne prendrai avec Lothaire aucun arrangement qui, de ma volonté, puisse être nuisible à mon frère Charles.

ترجمة: “محبة في الله ومن أجل خلاص الشعب المسيحي [الأمة المسيحية] وخلاصنا المشترك، فإني من هذا اليوم فصاعداً ، وعلى قدر ما يمكـِّـنني به الله من معرفة وقوة، سأدافع عن أخي تشارلز، وأكون له عوناً مهما كانت الظروف ودعا الإنصاف لنصرة الأخ، شريطة أن يفعل الشيء نفسه بالنسبة لي. ولن أعقد بيني وبين لوثير أبداً أي اتفاق بإرادة مني يمكن أن يكون سبباً في الإضرار بأخي تشارلز”.

لو فرضنا أنا طلبنا من امرؤ القيس، في القرن السادس الميلادي، أن يترجم لنا هذا النص في صيغته الأولى أو في فرنسيته المعاصرة، لترجمه بنفس لغتي نحواً وصرفاً وبلاغة، لأني أنا لم أفعل شيئاً غير استعمال لغته في ترجمتي. فهل يمكن للغة العربية التي لها هذا الوجود وهذه القدرة أن تكون أداة تخريب؟!

لغة تخريب أم لغة إنتاج العلم

لم يُرد السيد المعني المستَجْوَب في الصحيفة وأمثاله، كما سمعنا في حوارات إذاعية وتلفزية، تعويضَ الدارجة باللغة العربية وحسب، بل اعتبر واعتبروا العربية سبباً في انهيار تعليمنا اليوم، يقول: “منذ أن جرى تعريب التعليم وقع انهيار في النظام التربوي” ويضيف: “فما الذي يقوم به آلاف الخريجين المكونين بالتعليم المغربي؟ لم يصلحون؟ لا بد من وضع تقييم شامل لحصيلة تعريب التعليم الذي كان كارثة على المغرب”. هذا كلام ينبني على عاطفة مكلومة بجرح لم تكن العربية هي السبب فيه، والإشارة تكفي. لأن لهذا الفشل أسباباً أخرى لا حاجة لنا بالوقوف عندها وأهل التحقيق يعرفونها. والغريب أنه يجد في الدارجة والأمازيغية قدرةً على التلقين ويدافع عن ذلك، ولا يجد هذه القدرة في اللغة العربية. فهل اللغة العربية عاجزة حقاً عن القيام بهذه المهمة؟

إن اللغات التي تؤدي وظيفة اللغة الأولى، وهي التواصل، واللغات التي تمثل الكمال في ذاتها بأدواتها التركيبية والصرفية وسهولة استيعاب صور رموزها (حروفها) عدداً ورسماً، هي اللغات القادرة على إنتاج العلم. واللغة العربية تتصف بهذه الصفات، فهي لغة بيان بامتياز. أي منذ كانت وهي لغة تواصل، ثم صارت مع الزمان لغة إبداع أدبي رائع، كان قمته ما نزل وحياً قرآنا. وفي هذه المسيرة الطويلة صارت لها القدرة على صوغ المعاني العلمية في مختلف العلوم، ولم يعجزها ما جاء في نقول السريان ولا ما أبدعه مفكرو اليونان. وقد استطاعت أن تقوم بكل هذا لأنها كاملة في ذاتها، ونعني بالكمال هنا، أن لها تاريخاً طويلا، وامتداداً جغرافياً شاسعاً، (من حدود فارس إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، ثم في قارة أوربا العصر الوسيط، وأوروبا اليوم، فهي اللغة الجامعة بين الطوائف الإسلامية المختلفة، وهي أيضاً اللغة الحيَّة في أقسام اللغات الشرقية اليوم في كل أطراف العالم من قلب الصين إلى هرﭬارد). وتمَـــــتَّل أيضاً هذا الكمالُ في كونها اللغة السامية (العُرْبانِية) الوحيدة التي حافظت على الصورة الأولى للغات الأسرة (اللغات الأكادية والآرامية والسريانية والعبرية والفينيقية …) فهي وحدها المُعْربة، أي التي تتميز أواخرها بواحدة من حركات ثلاث: الرفع والنصب والجر، وهذه صفة قوة عند المدققين، على عكس ما يظنه مَن يروج لمقولة “الناس يقرؤون ليفهموا ونحن نفهم لنقرأ”، لأن هذا يصدق على التداول البسيط للغة، أما الإبداع الرفيع في كل اللغات، فيدعو إلى الفهم ثم العَوْدِ للقراءة. واللغة العربية هي وحدها التي احتفظت بصيغ المثنى في الضمائر والصيغ الاسمية والتصاريف الفعلية. وهي وحدها التي تفرق بين الجمع المؤنث والجمع المذكر (من بين أخواتها في أسرتها). وهي وحدها القادرة على التمييز بين المسميات المتقاربة الجنس والشكل واللون، فيما يعتبره الناس مترادفات، مع أن اللغة العربية لا تقبل المترادفات كما يظن من يجهل دقائقها. والناطق بالعربية هو وحده القادر على نطق كل الأصوات ويتحكم في كل مخارج الحروف، مما أهله لمعرفة لغات العوائل الأخرى المختلفة.

وجاء وهم من اعتبر العربية عاجزة عن تلقين العلوم بسبب خلطه بين شيئين اثنين: 1- لغة التواصل اليومي. 2 لغة العلم الــمُسْتعمِلة للمصطلح العلمي. وكل لغات العالم تتضمن هذين:

اللغة العادية المركبة من حروف وأفعال وأسماء (تستعمل في صيغ فعلية واسمية) وهذه أساس التواصل العادي، في صغيرات القرى وكبريات المدن، ولا فرق بينها في كل الدنيا، يتكلم بها كل الناس في أحوال معاشهم.

لغة العلم الــمُــــرَفَّـدَة بالمصطلح في المخبر أو الورشة أو الجامعة، وهي لغة خاصة، وكل خاصة فيها تتضمن خاصات، تبعاً لتفرع العلوم ودقة مستعملاتها. وكل اللغات قادرة بقسمها الأول على التبليغ، وهذا هو الأساس، أما لغة العلم والمصطلح فهي نوع من الدخيل على كل لغة، ما دام المختـَرَع المعني هو من صنع أمة تتكلم بغير لغة مستورد العلم. فعالم الاجتماع أو الإناسي (الأنتروبولوجي)، في جامعة هارﭬـرد الأمريكية، عندما يريد أن يبحث في موضوع “البَـلـْغَ” المغربية (حذاء)، سيجد في لغته الإنجليزية عجزا وعِيّاً وقصوراً وضعفاً، ولا بد له في حينها من أن يستعمل لغة “السوق” وهي هنا دخيل، لأن صناعة “البلغ” لا توجد في “احْوانـْتْ” واشنطن فـ”لشَّرْبِيلْ” و”لْمْسِيَّطْ”، و”لزِيوَانيِ” و”لَبْسَاطْ” و”لْقُرْمِيلْ” و”لَبْطَانَةْ” ولِيشْفَا” إلى آخره، كلها مصطلحات مفقودة في اللغة الإنجليزية، وستصبح حاجة العالم إليها ماسة لصناعته المعرفية. وهذا الاحتياج هو احتياج كل صاحب لغة لم يصنع أهلُها العلمَ المراد معرفته، فهل كان على العالم الأمريكي أن يترك لغته الإنجليزية ويتهمها بالقصور ويتعلم لغة السوق في منعرجات فاس أو دروب مراكش ليكون عالماً؟ إنه استعمل لغته الإنجليزية للتواصل، واستعمل مصطلح “السوق” للعلم. وهذا هو الطبيعي عند الأمم التي تعتز بلغتها وأصولها، ولا فرق بين اللغات.

ثم إن المصطلح في كثير من الأحيان، لا علاقة لمسماه بالعلم الذي استخدم فيه. فالذي وضع مططلح Mouse// Sourie لم يضع في حقيقة الأمر أيَّ مشكل لمستعمل اللغة العربية على سبيل المثال، لان مسماه لا يرتبط أصلا بصناعه الحواسب، إنه مسمى اخترعه من صورة قفزت إلى ذهنه حين وضعِه المصطلح، نتيجة للمادة التي وضع يده عليها، وقد اتخذت شكلها من انحناء كف يده أكثر من صورة الفأرة التي لم يكن لها وجود في بيته على الإطلاق. والدليل الأوكد على ما نقول، أن ذلك التصور الذي وُضع من أجله المصطلح، لم يعد قائما في الحواسيب الحديثة، فلمس سطح الحاسوب أو حتى الإملاء، يقوم بنفس مهمةMouse// Sourie ومع ذلك لم تتغير التسمية.

ونريد أيضاً أن ننبه الذين يقولون بأن اللغة العربية عاجزة عن تلقين العلم، على أمر غاب عن ذهنهم، أو منعهم من الانتباه إليه قلة تدبرهم. ذاك أن العلوم الحقة، تنبي كلها على ثلاثة علوم أمهات أساس، وهي الرياضيات والفيزياء والكيمياء. وهذه العلوم بالضبط، هي التي لا تحتاج إلى أي لغة. فهي كلها رموز. ومنها تفرع ما تفرع بلغات.

ومع ذلك، فإنا نسأل، ألم يضع العاملون في صناعة المعجم ما قد يساعدنا على تلقين العلوم بلغة عربية ونحن في وضع مريح. لا يسمح حيز الزمان بالحديث عن تاريخ صناعة المعاجم العربية منذ القرن الثامن عشر في كُلِّيَتِها، ونكتفي بالإشارة إلى ما أنتجه مكتب تنسق التعريب الذي حُملنا أعباءه في فترة زمنية مضت. ومن المؤسف أن معظم المختصين المغاربة والعرب، لا يعرفون الجهودَ اللغوية الكبيرة التي يقوم بها مكتب تنسيق التعريب، الذي مقره بالرباط عاصمة المملكة المغربية. ولا يعرفه رجال جامعتنا وطلبتنا. وقد فوجئنا، عندما تحملنا مسؤولية هذا المكتب، باهتمام الغربيين، من اليابان إلى إسبانيا، بأعماله المعجمية وفي ميدان الترجمة واللغات، وعدم اهتمام، أو جهل إخواننا العرب وجل المشتغلين بتدريس العلوم في مغربنا بما ينتج. ونورد، بهذه المناسبة، مجملا لأعماله المتمثلة في وضع المصطلح العلمي، وذلك في معجماته المتخصصة، فقد صدر من هذه المعاجم حتى اليوم واحدٌ وأربعون معجماً، وغطت كل فروع المعرفة ،كلها مطبوعة على الورق، أو في بنك يمكن أن تستفيد منه كل جهة تحتاج إل المصطلح العلمي من مؤسسات ومعاهد وشركات وغير هذه، وذلك بالرجوع إلى قاعدة البيانات المصطلحية للمعجم التقني ARABTERM، وتتضمن حالياً “معاجم بلغات ثلاث هي الألمانية والإنجليزية والفرنسية، مَصحوبة بترجمة للمُصطلحات التّقنية باللغة العربية ومُرفقة بتعريفات دقيقة، وتَهمّ المجالات التالية: تقانات السيارات، هندسة المياه، الطاقات المتجددة، الهندسة الكهربائية، النسيج، النقل والبنية التحتية، المناخ والبيئة وإدارة النفايات الصلبة، الهندسة المدنية، تقانة المعلومات. وتتوفر هذه القاعدة على حوالي 45530 مدخلا. كما تشمل هذه القاعدة المصطلحية ذخيرة معجمية موَحّدة بثلاث لغات هي العربية والفرنسية والإنجليزية وتهم مجالات: اللسانيات- الفيزياء العامة والنووية- الرياضيات والفلك – الموسيقى – الكمياء –الصحة وجسم الإنسان – الآثار والتاريخ – علم الأحياء – الجغرافيا – التجارة والمحاسبة– المصطلحات المهنية والتقنية (الطباعة والكهرباء(– العلوم الإنسانية –القانون – السياحة – الزلازل – الجيولوجيا – الاقتصاد – النفط – البيئة – الهندسة الميكانيكية – التقنيات التربوية – الإعلام – الفنون التشكيلية – الأرصاد الجوية –الاستشعار عن بعد – علوم البحار- الحرب الإلكترونية – تقانات الأغذية –علوم الوراثة – علم الصيدلة – الطب البيطري –النقل – تكنولوجيا المعلومات – التواصل اللغوي –الهندسة المدنية – علم التشريح العياني –الآداب المعاصرة.

تشتمل القاعدة على حواليْ 125000 مدخل. وبهذا يصبح إجمالي مداخل المعجم التقني ARABTERM ما يناهز 170530 مدخلا”. وللاستفادة من هذه الذخيرة يمكن الدخول إلى الموقعين: www.arabterm.org bca@arabizatio.org. ma .

هذه هي الثروة الغنية من المصطلحات العلمية الحديثة، مضافة إلى الجهود السابقة المذكورة أعلاه، وإلى جهود كثيرة لم نطلع عليها، وهي موجودة بالقوة والفعل، وكلها في مستوى التعليم الجامعي الراقي. ومع ذلك ندعي أننا لا نملك لغة قادرة أن تكون لغة العلم والمعرفة والخلق والإبداع والاختراع. إن كثيراً من اللغات اليوم، ولا نريد أن نضرب مثلا بدولة تعتمد اليوم في تعليمه العلمي والطبي لغة تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ولغتها لا تملك من قدرة اللغة العربية وعراقتها وتجربتها ومعجمها العلمي، إلا القليل القليل، ومع ذلك، يُدرِّس بها أهلُها العلمَ ويكتشفون ويخترعون ويسجلون براءات الاختراع بمقدار يتجاوز ظاهرياً – وأقول ظاهريأ لما سأقول أسفله- كل براءات الدول الإسلامية البالغة عدداً ما يفوق مليار ونصف، ويتجاوز ظاهرياً، بالكثير الكثير، ما تسجله أمتنا العربية التي يبلغ عدد مكوناتها، ما ينيف عن خمسمائة مليون نسمة، توزعت بين اللغات الأجنبية، وفي هذه أبدع أبناء أمتنا في جامعات العرب. إن العربية لغة قادرة يُرهقها عجز أصحابها ممن نسوا قراءة تاريخ الأمة في سالف عهودها الزاهرة، حيث كانت العربية إنجليزية تلك العهود. وحيث ضُربت لها أكبادُ الإبل، من مدن غرب العصور الوسطى (بالمفهوم الغربي)، لأخذ العلم، في بغداد أو القيروان أو قرطبة أو فـــــاس أو مراكش. هـــــذه هي المعـــــــــارف -( مخزوننا المصطلحي وإرثنا العلمي المذكور)- التي يجهل وجودَها أمثالُ من يعتبر التعريب هو من خرب تعليمنا. الذي خرب تعليمنا هو الجهل بوجود المخزون المصطلحي، هو التكوين الأجنبي لمن يضع المخططات الدراسية أو من يأمر بفعلها، هو صعوبة تلقين العلوم بالعربية على من قل زادهم فيها. افتحوا أقساماً جامعية تجريبية في تعليم العلوم المذكورة، يشرف عليها أساتذة أكفاء في اللغة العربية، وبهذه المعاجم التي ذكرنا، وسترون أي الأقسام أكثر استيعاباً، التي تعلم بالعربية أم تلك التي تعلم بلغة غيرها. علموا أبناءنا اللغات الأجنبية منذ الطفولة، وعلموهم بلغتهم العربية في جميع مراحل التعليم، حتى الجامعة، وسيكونون قادرين على تمثل العلوم بالقدر الذي يتمتع به الأمريكان وأكثر، لأن لغة التعليم العربية تمكن أبناءنا من الاستيعاب العلمي على قدم المساواة مع غيرهم، وبنفس المدة الزمنية التي يتعلم بها الفرنسي أو الإنجليزي، لأنهم لن يحتاجوا إلى ترجمة البنية اللغوية الأجنبية في ذهنهم، إلى بنية لغتهم الأصل، ليفهموا المعلومة المراد تلقينها، مما يضيع عليهم زمناً يتفاقم هَدْرُه مع الزمن. والمشتغلون في ميدان الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية أو العكس يفهمون ما أقول. التعلم بلغة الأمة مع إتقان اللغات الأجنبية بوصفها لغة في ذاتها لا لغة تعليم، يمكن المتعلم من القدرة على أخذ المعرفة بسرعة، ويمكن من القدرة على الصناعة والاختراع الدقيق باللغة الوطنية عندما نريد ويُعترف لنا بإسهاماتنا في صنع العلوم كما نحن فاعلون.

هل نسهم في المخترعات الحديثة؟

إننا نُسهم في المخترعات الحديثة اليوم بالحظ الوافر، غير أن مؤسسات الإحصاء، سواء في الأمم المتحدة، أو المعاهد المختصة، لا تدخل علماءنا الفاعلين اليوم في العلوم الحقة، والمحركين للفعل العلمي، وواضعي أدق الاختراعات في حسبانها، لأنهم ينتجون بلغة أماكن وجودهم، فلا ينسب الاختراع للعربي أو والمسلم، وإنما ينسب للغة الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية أو أو، وبالتالي للأمم المتكلمة بهذه اللغات. إن هذه حقائق متمثلة في مخابر وجامعات الغرب وأمريكا. لقد قرأ جل علمائنا المهاجرين بلغة عربية في مدارسهم في بلدانهم، وكانوا عاديين في صفوفهم، ثم هاجروا فيمن هاجر، فصاروا أعلاماً منتجين مبدعين في الصنائع العلمية التي تكلفوا بها في كبريات الجامعات والمختبرات الغربية. وما كانت العربية التي أخذوها منذ الطفولة، إلا مساعداً فعّالا على قوة استيعابهم. ولأنهم أنتجوا بلغات أجنبية، لم تعد أعمالهم في حصيلة الفعل العربي الإسلامي. مع أنهم أبدعوا بذهنية العربية التي ننكر.

العربية من اللغات الغنية تاريخاً وتجربة إنسانية، لأنها بنتُ ما يزيد على خمسة ألاف سنة، وعاشت في جغرافيا شاسعة، متعددة المناخات والتضاريس والأَهْوِيَّة. لقد حملت العربية كل هذه التجربة. ومهمتنا أن نرفع صوتنا للتعريف بقدرتها على صناعة المعرفة والعلم. مع الدعوة بكل إلحاح، إلى تعلم اللغات الأخرى، كلغات أدوات، وبالقدر الذي نستطيع، لا باعتبارها لغات تعليم، بل باعتبارها أدوات نستخدمها في الوقت المناسب. وقوة اللغة لا تتجلى في استعمالها ألفاظاً وجملا، ولكن تتجلى بالأخص، فيما تُكسب الإنسانَ من قوة الاستيعاب والقدرة على صَوْغ المفاهيم في عقله، صياغة تساوي عراقة وتجربة اللغة التي هي لغته. والتعليم باللغة العربية، يعني الحفاظ على كل تجربة هذه اللغة بما وصفتها عليه. بل هي لغة أمن “ولغة عظيمة”، كما عبر عن ذلك السيد وزير التربية والتعليم الفرنسي Jean-Michel Blanquer الذي أعلن البارحة 10 شتنبر 2018، عن دعمه للغة العربية التي “يجب أن تنال الهيبة التي تستحقها” باعتبارها “لغة عظيمة”، كما قال، لتصبح إحدى اللغات التي يتعلمها كل الفرنسيين (إذاعة RMC و) BFM TV). لم يقص السيد الوزير أي لهجة من اللهجات العربية بطبيعة الحال.

غفوة الأمم قد لا تعني أن دقاتِ قلوبها توقفت وأنفاسَها انقطعت، فمع الإرادات الطيبة العاملة الملحة، يَنْبُتُ الْمَرْعَى على دِمَنِ الثَّرَى، وتبقى قوة اللغة العربية كما هي. ومن صار على الدرب وصل.

*أستاذ فخري بجامعة محمد الخامس

عضو مراسل لمجمع اللغة العربية بالقاهرة
المصدر : https://www.hespress.com/orbites/405132.html

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.