قراءة لـ (ق ق ج) للقاص عبد الكريم حمادة / الأردن

القاص عبد الكريم حمادة

النص: *عجــز *

[highlight]نظر أحدهم إلى خاتم الفضة في إصبع الجثة الممددة على السرير ، و حاول بنظرة خفية مقارنة حجم إصبعه مع الإصبع الذي فيه الخاتم ..
الجار المقابل للباب التفت إلى النظارة الملقاة على طاولة صغيرة بجانب السرير ، التي استعارها مرارا لقراءة فواتير الماء و الكهرباء و وصفات الدواء التي تكتب بخط صغير عادة ، لن يمانع أحد إذا طلبها كذكرى من المرحوم قال في نفسه
السبحة التي بجانب النظارة تناولها الشخص الملتحي ، سبح فيها قليلا قبل أن يدسها في جيبه دون أن ينتبه له أحد .
عجوز أخر كان يقارن بين عكازه القبيح القديم و بين العكاز الأنيق الذي أسند إلى جانب السرير .
أحدهم كان ينظر إلى الساق الاصطناعية و يتساءل في داخله إذا كانت ستدفن مع الجثة ، و راح يتحسس ساقه التي حذره الطبيب من احتمال بترها .
وحدها تلك المكتبة التي احتلت حجما كبيراً في الغرفة لم ينتبه لها أحد .[/highlight]

*** *** *** *** ***
عجز . نص قصصي قصير جداً، للقاص عبد الكريم حمادة . جاء في حدود مائة و ثمان و أربعين كلمة. فإن الذين ألفوا النصوص المكثفة لغوياً و في حجم أقصر من هذا كثيراً سيجدون النص مختلفاً. بل متمرداً على ما أصبح البعض يعتبره قاعدة من حيث الحجم.
و أرى أن الحجم لا يرتبط بقاعدة محددة إلا قاعدة ( قصير جداً) و يستفاد منها أن النص قد يكون في بضع جمل من سطرين ثلاثة، إلى ما يسود صفحة أو صفحة و نصف، شريطة التّكثيف اللّغوي. و إباحة التّمديد ليس حرية، بل مسؤولية فنّية، بمعنى صفحة أو صفحة و نصف تستوجبها تقنية السّرد، التي لا تسمح في أن يكون ذلك النّص في أقلّ من ذلك حجماً،إمّا لسعة الفكرة، أو تشظيها و تفريعها بما يضمن نمو الحدث و تطوره .
و إن كنت دائماً أتحفظ في مثل هذه المسألة. باعتبار أن الق الق جداً. لا تحتمل فكرةً تصبح أفكاراً متناسلة .و لا تقبل التّشظي و طرق أبواب مختلفة. لأنّ ما يُقال فنّياً في صفحة و نصف، قد يقال بتركيز في نصف صفحة أو أقل. و في ذلك تتجلّى براعة القاص اللّغوية و البَلاغية… و النّص الذي نحن بصدده، كُتب بطريقة منفتحة تقريرية dénotation، لا تراعي التّركيز، أو التّكثيف اللّغوي، و هذا اختيار من القاص في طريقة كتابته. و لربّما فرضه أمرٌ جديد يعود لتعدّد الشّخصيات.
فنحن أمام خمس شخصيات مُتحفزة، كلّ واحد يرغب أن يأخذ من الجثّة الممدّدة شيئاً من أشيائها الخاصّة، و هم على التّوالي :
ــ الرّاغب في الخاتم الفضي .
ــ الرّاغب في النظارة .
ــ الرّاغب في السبحة.
ــ الرّاغب في العكاز.
ــ الرّاغب في السّاق الاصطناعية .
و تعدّد الأشخاص ، يؤدّي إلى تعدّد الأحداث وهذا غير مألوف في الق الق جداً. التي تعتمد حدثاً واحداً، وأقلّ من ثلاث شخصيات في الغالب. حِفاظاً على التّركيز، و الحجم، و التّكثيف اللّغوي . أقول هذا و إن كانت الشّخصية القصصية هي علامة لغوية.
بعد هذا التمهيد الذي فرضه الشكل ماذا عن النص؟
العنوان : عجز، اسم نكرة خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذا ) ينفتح على عدّة دلالات لغوية و معاني اصطلاحية، و يحلّق بذهن المتلقي بعيداً ، لاسترجاع و استقطاب دلالات يكتنزها لفظ (عجز)
لغوياً، العجز :عدم القدرة و الاستطاعة لضعف بدني، أو فكري، أو مادي…و يتفرع ذلك لأنواع من العجز تغني المصطلح الاقتصادي و من ذلك : العجز التجاري، عجز الميزانة، عجز في ميزان المَدفوعات… و في علم النفس عجز بمعنى عدم القدرة على ” أداء وظيفة ما ، ويكون ذلك عادة من جرّاء ضرر أو ضعف يلحق البنية “…و طبياً هناك العجز الجنسي و العجز الكلوي، و العجز في وظائف القلب، أو البنكرياس…
أمّا النص، فيجعل العجز مثار أسئلة، فبعد القراءة:
1ــ هل هو عجز الجثة الممدّدة في الدّفاع عن أغراضها، أمام ثلة انتهازية، لا تفكر إلا في نفسها. و ما يمكن أن تحظى به مجّاناً.؟
2ــ أم هو عجز و ضعف نفسي يخص الشّخصيات الخمسة الشّرهة؟
3ــ أم هو عجز متأصّل في نفسية الإنسان، ما نسميه (حب التّملّك ) و بخاصّة حاجيات اللآخر، و الذي يساعد على فهم هذا أنّ القاصّ لم يأت بشخصية مُحايدة، لا تطمع في شيء من ” أغراض ” الميت .
4 ــ أم هو عجز ثقافي، ابستمولوجي إذ لا أحد اهتم بالمكتبة و ما تحتويه من كتب؟
فالنص إذاً يحاصرنا في دائرة “العجز” الذي هو الحكاية الإطار (le récit en chassant) فإذا استبعدنا عجز الجثة في الدفاع عن “أغراضها ” و هو عجز منطقي و موضوعي . فإنّ عجز الشّخصيات يصبح محطّ تساؤل و تأمّل … فالمقتنيات المرغوب فيها هي خاتم فضي، نظارة طبية، سبحة، عكاز، ساق اصطناعية ] كلّها بعد وفاة صاحبها، لا تساوي شيئاً مذكوراً. و رغبة الأشخاص الخمسة فيها، دليل عن حاجتهم و فقرهم . و إن كانت تلك الرّغبة ليست دائماً وَقفاً على الفقر و الفقراء، فالطّمع و حبّ امتلاك ما عند الغير بدون تعب أو مقابل ظاهرة متفشية بين الناس، إلا من وجد في نفسه حصانة دينية، أوتربوية أخلاقية …

و عموماً النّص في دلالته كأنّه يلخص القولة المأثورة: (الحي أولى من الميت).كما أنّه يلمّح للشعور بالفاقة،و الاحتياج … الشيء الذي يغري بنزوة امتلاك ما عند الغير مما يمكن امتلاكه، و بمختلف الطرائق الممكنة.

فنياً ، لقد لعبت المفارقة دورها الإيجابي في الرّفع من قيمة النّص، و إثارة انتباه القارئ لما هو أهم،: خمس شخصيات توافق اهتمامُهم على امتلاك أشياء متواضعة جداً ــ و إن كانت لهم ذات أهمية ــ و لكن لم يهتموا قطّ بما هو أهمّ و أفيد، و أسمى و أمجد… مكتبة زاخرة بالكتب، “احتلت حجماً كبيراً في الغرفة “. ما جعلَ الخَرجة تشكّل جَرسَ التّنبيه ، و الإشارة …
و مع ذلك أعتقد من باب المُلاحظة، لو هُذّب النّصّ لغوياً ، لما فيه من فائض الكلام ، و الذي قد يُدرِكُه القارئُ بنباهته ،و فطنته ،وسعة خياله… و أعيد النظر في طريقة كتابة النّصّ أسلوبياً مراعاة للإيجاز و التكثيف اللّغوي.. فلربّما سيكون ذلك أكثر تأثيراً مما هو عليه. و يُفسحُ مجالا خِصباً للتّعدّد الدّلالي (Polysémie ) ممّا سَيساعد على التّخييل و التّأويل…

تحياتي / مسلك

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نص‏‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.