القاص : المصطفى كليتي

سلطة الأقنعة

[highlight]قرر ” س” أن يتخلى نهائيا عن الأقنعة الزائفة. و يظهر مبرزا حقيقة صورته.فتسمر أمام المرآة فلم يجد له وجها.[/highlight]

 

مُتعة الق الق جداً ، حين تترك في نفسك أثراً ، كباقي فنون الإبداع الأخري. فبدون هذا الأثر تصبح مجرد كتابة عادية. و الذي يحدث هذا الأثر:

ـ1ـ المفارقة في بعديها التّأملي و التّخييلي.
ـ2ـ الخرجة في بعديها الصّدمي و الفُجائي.
ـ3ـ أسْلبة الحكي، و لغة القصّ.
و هي أشياء لا يلمّ بها فنّيا أغلب من يكتبون الق الق جداً. و ذاك يعود لأسباب منها، دواعي اسْتسهال الكتابة القصصية القصيرة جداً،و قلّة الاطلاع و البَحث في هذا المَجال…
أمامنا نص تحت عنوان :” سُلطة الأقنِعة” للقاص المصطفى كليتي. نصّ ممعن في القصر، في سطر ونصف حوالي عشرين كلمة.
العنوان ، جملة إسمية ، من كلمتين : “السّلطة” لغوياً: التَّسَلُّطُ والسّيطَرَةُ والتّحكُّمُ.و تطلق على هيئاتٍ مختلفة، بيدها السّيطرة، و التّحكم في ذات شأنها الخاص فنقول: السّلطة التّشريعية ..التنفيدية..الرّوحية .. القضائية ..العليا ..و منه الصّحافة، و تعرَف بالسّلطة الرّابعة…و كلها سلط فعّالة و أساسية …
الكلمة الثانية :الأقنعة مفردها قناع. لغوياً : القناع : غشاء القلب، و يطلق على الشيب ،و هو كلّ ما يستر به الوجه قصد التّخفي و التّمويه. و لعلّ أشهر الأقنعة التي مازالت تظهر في بعض المظاهرات قناع أنونيموس(Anonymous) المجهول، والمَعروف أيضًا بقناع (Vendetta ) و “قناع جاي فوكس”، البريطاني الذي حاول بشدةّ تفجير مجلس اللّوردات، وكان يخطّط لاغتيال الملك جيمس الأول، حتّى تصعد ابنته الكاثوليكية إلى العرش في القرن السّابع عشر. و مسألة الأقنعة معروفة منذ الحضارات الأولى و بخاصّة لدى السّحرة و الكهنة…لإضفاء على هيئتهم رهبة و تقديساً…و منها القناع الإفريقي الخشبي، أو بالألوان الصّاخبة سواء في بعض قبائل إفريقيا أو آسيا…و الغرض في ذلك دائماً التّمويه و إخفاء الهوية، و الإيحاء بالغرائبية و العجائبية (Fantastique).
إلا أنّ النّص لا علاقة له بقناع مُصنع و مُعد يدوياً.
فطبيعة الإنسان، و سلوكه، و تربيته، و معاشرته لغيره، و الظّروف المحيطة به… كلّ ذلك يَجعله يرتدي أقنعة نفسية خالصة، لا علاقة لها بما هو ماديّ.
و استدعاءُ هذه الأقنعة ، و التّعامل من خلالها… تزكيه شخصية المُقنع.فبقدر ما تكونُ شخصيته قوية، بقدر ما يكون نفوره قوياً من توظيف الأقنعة، إلا في حالة ضعف بشري، و هذه حالة طبيعية، يمرّ بها كلّ إنسان ، و عنها تترتب الأخطاء، و المطبّات، غير المتوقعة و لا المحمودة النتائج.
و لولا فترات الضّعف البشريّ ، لكان الإنسانُ معصوماً منَ الخطأ .ولكن في حالة ضعف الشّخصية، فسيصبح الأمر أكثر استجابة لتوظيف الأقنعة، واستبدالها و استكثارها…بشكل غريب…بل يصبح ذلك بمثابة حدث يومي (fait divers ) لأنّ الشّخصية الضّعيفة لا تطيق المُواجة، لعدم جُرأتها ، فهي تميل ميلا للإختباء، و التّستر… و ليس أمامها إلا أن تستعير قناعاً يُنجيها من صدمة المُواجهة. و إن كانت تعلم أن القناع المستعار له سُلطة مُستحكمة. تصبحُ شخصية المًقنع خاضعةً ذليلةً… تمثل دوراً يمليه القناع، ذاك الدّور الذي سُرعان ما يبوءُ بالفشل، فتنكشفُ الحقيقة. لأنّ القِناع كذب، و الكذب حبله قصير.

1 ــ النّص انتهجَ أسلوبَ الإيجاز، و الحذف، و التّلميح .
فجملة البداية تختصر كلاماً كثيراً [قرر ” س” أن يتخلى نهائيا عن الأقنعة الزائفة.] و ترك الأمر لنباهة و نشاط مخيلة المتلقي: لماذا لجأ “س” إلى الأقنعة؟ هل كان يجدً ضالته و هو يَحتمي بها؟ ما جعله يُقرّر التّخلي عن الأقتعة المزيفة ؟ لا شكّ أنّ الوقوف عند هذه الأسئلة سيسيل حبراً كثيراً لتوصيف الأحداث، و أسبابها ، و المشاكل و نتائجها …فكلّ ذلك قفز عليه السّارد و استهلَّ النّص ببراعة باتّخاذ القرار…

2ــ جاء البطل مجرد حرف “س” و السّين في الرياضيات بالصّيغة العربية يدلّ على المجهول، و الذي استبدل ب  (X) في الغرب، بعد أن أشار إلى ذلك الفيلسوف (روني ديكارت) في كتابه :(La Géométrie) و القاص في ذلك يجعل من بطله أيّ إنسان بدون تحديد، و لا توصيف، فمسألة الأقنعة ، أصبحت شائعة، كأيّ ظاهرة اجتماعية…
ففي النّص البطل (س) اتّخذ قراراً جريئاً، ربّما بعدما انتهتْ لعبة أقنعته، و ربّما ورَّطَته في مَشاكل عدّة، وربَّما تاب و أناب، فأراد أن يقلع عن كلّ الأقنعة المَزيفة. و يبقى كما هو بإيجابياته و سلبياته، بما لهُ و ما عليه …و في ذلك لا شك جرأة و شجاعة تستحق التّنويه.. غير أنّ العادة و التّعوّد.وسيرة السّنوات الطّويلة…أنْسته وجههُ الحقيقي.”فتسمّرأمام المرآة فلم يجد له وجهاً.” و أنّى له أن يجد وجهه الحقيقي بين وجوه و وجوه، ألفها، و استخدمها،و عايشها في الوهم ؟! فقد أضاع نفسه ، و استبدت به سلطة الأقنعة.

3ــ توظيف الرمز فيما يتعلق بالمرآة:[ فتسمر أمام المرآة فلم يجد له وجها.] فليست مرآة حقيقية، لأنّ القناع المراد، ليس مادياً لكي يُرى، و تنعكس صورته على صفحة المرآة، بل هو ــ و كما سبق ــ قناع نفسيّ مرضيّ،.. فالمرآة هنا ، مرآة الواقع، التي أجبرته بمكابداتها أن يَستفيق من حلمٍ خادعٍ استبدّ به طويلا. إلى أن اصطدم بصخرة الوعي و الإدراك، و التّنبُه واليقظة، و لكن ــ للأسف ـ كان ذلك متأخراً جداُ.
4ــ صدمة الخرجة، و فجائيتها…لعلّ القارئ سيقف عند قول السّارد [ .. فلم يجد له وجهاً.]
لقد خرقت الجملة أفق تطلعه و انتظاره..لا شك أن المنتظر بعد الإقلاع عن الأقنعة ، أن يستقيم البطل، و يستفيد من خبرات الماضي المُرهقة ،و أن يَتخلّص من أقتعتها المُزيّفة…و يستعيد وجهه الحقيقي. و يرضى بما هو عليه، و لكنّه افتقده فلم يجده.

بهذه الكتابة الومضية، و الكلمات القليلة الملغّمة ، و روح التّلميح العَميقة …. استطاع القاص المصطفى كليتي ببراعة أن ينقلنا إلى أغوار نفس مريضة، ضعيفة ، تحتمي بالأقنعة، وتتوسل باختلافها و تنوعها، رجاء أن تتماهى و الواقع. حتّى إذاما تابت و أنابت، و رغبت في أن تلج مرحلة التّطهير (catharsis) و جدت أنّ طريق العودة غير سالكة و لا متيسرة.تحياتي / مسلك

لا يتوفر نص بديل تلقائي.