قراءة لـ (ق ق ج) للقاصة جمانا العامود / تحدّ

 

ورقة نقدية بقلم الاديب والناقد الكبير الذي نفتخر بقلمه #الدكتور_مسلك_ميمون من #المغرب الشقيق في نص (#تَحدٍ ) للقاصة #جمانا_العامود                              

 

………………
النص : تَحـــدٍّ

[highlight]تفصلني عن أمي مسافة دبابة. تسمرت في مكاني، عصفَ الدخان مع رائحة البارود. جاهدةً أحاول الخروج…أثقل البول حذائي.[/highlight]

                     ***

الق الق جداً، هي قصّة، بمعنى: حكي، و الفرق بينها وبين القصّة القصيرة، أو القصّة أو حتّى الرّواية… فرق هيكلي و أسلوبي. بمعنى أنّ الحكاية (Récit) دائمة الوجود، و لا يمكن للق الق جداً أن تكون إلاّ بها. فهل هذا يتطلب سرداً مفصلاً كما هو في القصّة القصيرة؟ حتماً لا، لأنّ الخلاف الأسلوبي بين الجنسين، يتطلبُ هنا الكثير من الاختزال، و الحذف، و الإضمار… بشكلٍ يحثّ المتلقي ـ من حيث لا يدري ـ على تنشيط ذاكرته، لسدِّ ثغرات النّص، و تسويدِ بياضه، و فتح مُنغلقاته وفق تأويلات خاصّة، و هذا كلّه يتطلب كتابة نوعية، ، كما يتطلب قارئاً خاصّاً. إذ لا نبالغ إذا قلنا أنّ جنس الق الق جداً هو جنس نخبوي في كتابته، إذ لا ينجح في إعداده إلا القليل، كما هو نخبوي في تلقيه، إذ ليس كلّ قارئ عادي يمكنه فهم مظانه و غاياته، و تقنياته، و أدواته.. فالرّؤية في الق الق جداً ليست بنورامية كما في الرّواية، أو شبه متشظّية كما في القصّة القصيرة حسب بعض الأساليب … و إنّما هي رؤية مركّزة ، أشبه ما تكون بالرّؤية من ثقب مفتاح الباب. ترى، و لا ترى إلا شيئاً واحداً قد يكون قابلا للتّأويل إنّما لا ترى غيره أبداً ! الشّيء الذي جعل الق الق جداً : إمّا قصّة حالة، أو لقطة عابرة .
***
بالعودة إلى النّص، يستوقفنا العنوان : (تحدٍّ) مصدر (تحدّى) جمعه (تحديات) و المراد بذلك مواجهة الأخر، أو المخاطر، و منه [ التّحدي و الاستجابة ] منطلق فلسفة التاريخ،أي الرغبة في البقاءِ تحملُ على التّحدي. إذاً، المنتظر من النص أن يحمل المتلقي ليعيش فصلا من فصول المجابهة، و المواجهة، والمخاطرة .

فتاة و أمّها في الشّارع، لا يفصل بينهما إلا مقاس طول دبابة، الطّفلة وقفت كالمسمار بلا حراك، فكلّ ما أمامها لا يُطمئن، و لا يبعث على الارتياح: دبابة جاثمة، رائحة الدّخان و البارود تخنق الأنفاس، و الشّعور بالموت نتيجة طلقة طائشة وارد في كلّ لحظة، و الأم هناك ليس أبعد من طول دبابة… جاهدة تحاول الخروج مما هي فيه…تفاجأ و كأنّ رجليها المسمرتين في الأرض ازدادتا ثقلا من هذا السّائل الدّافئ الذي ملأ حِذاءَها فاستبد بها الخوفُ و الحياء، و الاضطراب…
إذاً نحن أمام نصّ قصصي عبارة عن لقطة عابرة لبطلة صغيرة و أمّها زمن الحرب، و قد تحديا البقاء في البيت، و الاستكانة لقدرهما ، فالبيت لم يعد يحمي أحداً، إن لم ينهار عليهما بفعل القذائف ، المركّزة أوالطائشة، فكانت الرّغبة في البقاء على قيد الحياة تدفع بهما للخروج بحثاً عن مكانٍ آمن…لكن المنظر في الخارج كان مرعباً،و ليس من رأى كمن سمع.
نلاحظ (زوم) التقاط الصّورة، تركّز بشكل كلّي على البطلة. حتّى أنّ الشّخصية الثّانية و ردت كإسم فقط :(أمّي) و كأنّ لا دور لها، مجرد ديكور في المشهد الملتقط. و هنا نلمس خاصيتين أساسيتين في الق الق جداً :التّركيز، و الإضمار، أو التّخفي  (La dissimulation) إذ يصبح السؤال كيف أنّ الأمّ و ابنتها خرجتا بحثاً عن النّجاة ـ ولا شكّ أنّ الفكرة فكرة الأم ـ و لكن في الخارج سكت السّرد عن ذكر الأم كذاتِ فعل، أو ذاتِ حال، و شُغلتِ اللّقطة بالبطلة /الطفلة و ضمير المتكلم [تفصلني ، أمي، تسمرت ، مكاني،. جاهدةً (أنا )، أحاول (أنا)، حذائي]
تلك فرصة للمتلقي أن ينعش مخيلته، و يتخيّل المشهد برمّته: طفلة فوجئت بالمنظر الرّهيب ، و استبدّ بها الخوف، و بلغ أشدّه،فتسمّرت لا تقوى أن تخطو خطوة واحدة… فكيف نتصور الأم..؟ السّارد سكت عن هذا، اعتقاداً منه أنّ المتلقي لن و لن يتخيّل الأمّ سلبية محايدة تنظر و كأنّ الأمرَ لا يعنيها …كما أنَّ السّارد سكتَ أيضاً عن ما آلت إليه البنتُ و أمّها…و لا يعدُّ ذلك نقصاً، بل ذلك ــ فنياً ــ ما ينبغي أن يكون. و إلا سيصبح النّص تقريرياً، مباشراً، و جسداً مُتكاملا، كأيّ خبر يُفيد فائدة .

أمّا ما يمكن استنباطه من هذه اللّقطة القصصية القصيرة جداُ. فينحصر أشدّ ما ينحصر في نفسية الطّفل أثناءَ الحرب. فبطلة القصة/الطفلة التي بلغ بها الرّعبُ درجة التّبول، لا شك أنّ تمزّقاً عميقاً حدث في نفسها، لا يمكن رَتقه، و جُرحاً غائراً لا يُمكن تضميده. حتّى و لو اسْتتبَّ الأمنُ في البلاد، وعمّ السّلام و الأمان. و ربّما المشهد في النّص أقل إيْلاماً من مشهد طفلٍ يرى أمّه أو أباه يُقتل أمامه، و يَرى الدّماء فوّارة منْ جسدِ أخيه أو أخته، أو يَرى أغلبَ أفراد الأسرة تحتَ أنقاض مَنزل انْهارَ بِسببِ القصْف …
بذلك، يمتلك النّص مرتبة، فنّية ، وأخرى دلالية تتوازيان قيمة و نوعية.. حتّى و إن كان النّص لا يحفز على التّأويل، أو التّحليق بعيداً… لما يتضمنه من واقعية …

فتحياتي للكاتبة جمانا العامود عن هذا النص، ففي أقل من عشرين كلمة فتح جُرحاً عميقاً لن يُضمّده الزّمن بسهولة، و أشار بألف إصبع لبشاعة الحربِ و قبحِ نَتائجها …

مسلك / نحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.