قراءة لـ (ق ق ج) :” مواء ومواء” ، للقاص الطيب الوزاني / المغرب

طالما كانت الفنون مرآة عاكسة (Réflecteur) للحظات معينة ، أو مواقف مختلفة نعتقد في غفلة منا أنّها عادية، لكن حين نواجهها في مرآة الفن، يتبين أنّها غير عادية ، بل كان الأفضل ألا تكون في حياتنا الخاصّة أو العامّة و من تمّ كانت ضرورة الفنّ السّردي و أهميته سواء رواية، أو قصة قصيرة، أو قصيرة جداً، كالذي نجده في نص (مواء..و مواء) للقاص الطيب الوزاني.

 العنوان : المواء : مصدر ماءَ، و منه : ماءَ – يَموء ، مُؤاءً، ومُواء و هو صوت القط. إذا جاع و طلب الأكل، أو أراد الخروج من مكان مغلق، أو تشاجر وقطّ آخر، و له القدرة في التّحكم في موائه و جَرْسه و نبراته، حسب الظّروف و العوائق التي تعتريه …

الملاحظ أنّ كلمة (مواء ) تكرّرت مَرتين: مواء و عطفت عليها مواء أخرى. و الواو حسب النّحويين حرف عطف تفيد مشاركة المَعطوف للمَعطوف عليه في الحُكم و الإعراب، و من تمّ لا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً،و هي إمّا أن تعطف كلمة على أخرى كما هوالشّأن هنا أو تعطف جملة على أخرى. و كيفما كان الأمر، فنحن بصدد مواءين اثنين اشتركا في الصّياح:

المواء الأول صوت قط. فهل المواء الثّاني أيضاً صوت قط ؟ أم هو مواء من نوع آخر.ذاك ما يستدرجنا و يحفزنا إليه العنوان لقراءة النّص، واكتشاف مُعطياته .

النّص :

[highlight] “مواء.. ومواء”[/highlight]

[highlight]ركنَ السّيارة.. الرصيف خال إلا من متسولة عجوز..
ــ شيء لله يا سيدي.
لم يلتفت إليها.
على بعد أمتار صادف قطة هزيلة تموء من الجوع.. انحنى عليها.. حملها.. عاد بها إلى السيارة.. أخرج علبة بسكويت وبدء يطعمها ويدللها…
العجوز بعد هنيهة ذهول بدأت تموء بحرقة.
[/highlight]

 [ركن السّيارة.. الرّصيف خالٍ إلا من متسولة عجوز ]

مشهد وصفي تصويري، بعده يتحول السّرد إلى مشاهد و مسارات تصويرية ( Parcoutrs figuratifs) سينمائية، تمرّ كاميرا التّصوير ببطء، من موقف السّيارات ، إلى الرّصيف الخالي من المارّة ، إلا من عجوز متسولة. و فجأة كأنّ الكاميرا وقفت عندها في لقطة مركّزة. ليس اعتباطاً، و لكن كملمحٍ إشاري لأهميته في النّص، لأنّها تشكّل الحدثَ برمّته .

– [شيء لله يا سيدي.

لم يلتفت إليها. ]

كعادة المتسولين تبدأ العجوز في محفوظاتها الاستجدائية المكرورة، استمالة عطف المارة، عساها تظفر منهم ببعض النّقود. و لكنّ صاحب السّيارة لم يبال، و كأنّه لم يسمع صوتها مُستجدية، أو كأنّه لم يشعرْ بوجودها، لدرجة لم يلتفت إليها. و لربّما أعدّها كجملة المتسولين الذين اتّخذوا التّسوّل تجارة مربحة، تغنيهم عن أي عمل أو تعب…

 [على بعد أمتار صادف قطة هزيلة تموء من الجوع.. انحنى عليها.. حملها.. عاد بها إلى السيارة.. أخرج علبة بسكويت وبدء يطعمها ويدللها…]

تعود كاميرا السّارد لتلاحق الرّجل في لقطات مُتتابعة، و على بعد أمتار من العجوز، استوقفته قطّة تموء من الجوع. أشفق من حالها،و انحنى بكلّ لطف، فحملها، و عاد بها أدراجه إلى سيارته. فأخرج علبة بسكويت، ومضى يُطعمها و يحنو عليها بكلّ رأفة و شفقة.

العجوز كانت تتابع المنظر بدهشة و ذهول ، ما أثار حفيظتها، و أشعرها أنّ الاستجداء و التّسول بصوت بشري لا يُجدي مع البَعض .الذين يرون الرّأفة بالحَيوان أولى من العناية بالبشر.فما كان منها إلا أن [ بدأت تموء بحرقة] .

النّص كما هو ملاحظ، لم يعمد إلى الغموض اللّفظيّ أو الرّمزيّ، بل تعمّد السّارد أقصى ما يمكن من الوضوح، دون مباشرة. مُحافظاً على تسلسل الحكيّ، وعناصرالقصّ القصير:

1 ــ التّشخيص (Anthropomorphisme) : ثلاث شخصيات ، الرّجل/

صاحب السّيارة ، و العجوز/ المتسوّلة، و القطّة/ الجائعة.

2 ــ التّفضئ :(Spatialisation) الشّارع العام : موقف السّيارات ، الرّصيف .

ــ التّزمين :(Temporisation): نقدرُ أنّ الحدث كان نهاراً، لو كان ليلا لما

استطاعت العجوز أن تميّز ما يجري في موقف السّيارات بين الرّجل و القطّة .

ــ الحدث : الاستجداء الذي تطور إلى مواء.

ــ الخرجة : مفاجئة و صادمة ، الإنسان الذي كرّمه الله و ميّزه على كلّ المخلوقات و جعله خليفة في الأرض، يُصبح في وضعية حيوان طلباً لما يسدّ به رمقه .

  بذلك تكون عناصر القص قد تحققت في هذا النّص،انطلاقاً من البنية السّردية إلى الفعل السّرديّ، كما أنّ الرّبط و الانسجام بين العنوان و معطيات النّص كان منطقياً و موضوعياً، و قد ترِكَتْ ـ فنياً ـ حَقيقة المُواء الثّاني إلى نهاية القصّة، و بالتّالي لا يُعدُّ العنوان مُباشراً، أو كاشفاً لفكرة النّص، وقد يًلاحظ أنّ اللّغة القصصية لم تكنْ مُكثّفة. فنرى أنّ خاصية التّكثيف تصبح ضرورية، وعرضة للنّقد إذا لم تتوفر في حالة ما إذا كان هناك فائض لفظي، و ترهل في التّركيب والصّياغة، و مباشرة و تقريرية في الأسلوب. أمّا و قد جاءَ النّصّ في حدود الاختزال والضّروري من اللّفظ ممّا يَخدم الفكرة… فيصبحُ عدم اعتمادِ التّكثيف لا يُشكّل نقصاً. فهو وسيلة ناجعة، عندما تكون الضّرورة هي التي توجبُه. و بالتّالي ليس حتمية مَفروضة في الكتابة القصصية، و الأمر يَسري على باقي الأدوات و المكونات الأخرى، فالحاجة هي التي توجب الأداة و ليس العكس.

  بعد هذا نخلص إلى أنّ النّص دعوة غير مباشرة ، للرأفة بالإنسان أوّلا. فإذا استقامت أحواله، تستقيم أحوال من يعاشرونه من حيوانات أو غيرها. فالغرب اهتم بالإنسان حقوقاً، و ثقافة، و علماً، و اقتصادأ و عدالة…فكان الأمر عادياً أن يستجيب الإنسان لواجباته إزاء غيره تلقائياً. أمّا في المجتمعات المتخلّفة، التي تعاني القهر بكلّ أنواعه، و تشتكي من النّقص في كلّ شيء، حتى أن إنسانية الإنسان اضمرتْ وانْمحت أو كادت، من شدّة الفقر و العوز، فاضطر البعض أن يقتات من صناديق القمامة إسْوة بالقطط و الكلاب…فأصبح الأمر فظيعا!

لهذا انتهى النّص بهذه العبارة: و [ بدأتْ تموءُ بحُرقة] تلك صرخة جريحة بأنّ الإنسان سوي بالحَيوان. نتيجة الظّلم و الاستبداد…

فهنيئاً للقاص د الطّيب الوزاني على هذا التّنبيه الفنّي القصصي، الذي يشير دون أن يصرّح أنّ الإنسان أولاً، و أوّلا الإنسان.

 

تحياتي / مسلك

ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.