قراءة لـ (ق ق ج ) ” عزرائيل” للقاصّة انتصار السّري / اليمـن

قراءة لـ (ق ق ج ) ” عزرائيل” للقاصّة انتصار السّري / اليمن

قد يكون من نافلة القول، أن نقول إنّ الحرب مأساة تدمي القلوب، و تنغص الحياة ، و تترك ندوباً غائرة. و أوجاعاً مؤلمة، و ذكريات صادمة، و صورا ما تنفك تعاود النّاسَ في واقعهم وأحلامهم، و كلامهم، كأنّها تسكنهم و للأبد. فقد تعاملت (ق ق ج) كباقي الأجناس الأدبية مع ويلات الحرب. سواء في ليبيا، أو سورية ،أو العراق، أو اليمن. حروب ظالمة ما كان لها أن تقع و لكنّها وقعت للرّعونة، و الطّيش، و قصر النّظر… بل للأسف مازالت مستمرة. و كأنّ من أضرموها لم يكتفوا بأرواح بغير ذنبٍ أزْهِقت. وممتلكات بغير حق انْتهِبت، و منشآت دُكّت و دُمِّرت، وآمال وأحلام تلاشت و اندثرت…

و من القصص القصيرة جداً، التي ترَكت بصمتها حول حرب اليَمن قصة “عزرائيل” للقاصّة اليمنية انتصار السّري.فمادام لم يعد الكلام يجدي، و لا الصراخ والعويل يفيد في عالم أخرس أصم. يشاهد يومياً فعل حرب ظالمة، و يلزم الصّمت و الحياد. فكان لا بدّ أن يكون هناك كلام، و لو بدون صراخ. ولا يكون مباشراً للعالم غيرالعابئ، ولا يكون كلاماً كأيّ كلام. ولا يكون النّاطق مألوفاً بين الأنام. إنّه كلام جثّة طفلة، من ضحايا الحرب.تخاطب والديها، و قد هدَّتهما المَأساة، و ضاقتْ بِهما الأرضُ بما رَحبَت …

النص:
عزرائيل
[highlight]لم يطل انتظاري.. ها هو يرفع روحي إلى علياه.. ارقدا بسلام.. انثرا التراب.. انزعا هذه الكبد.. اشويها.. علها تعتق جوعكما.
لم أكن غير بذرة شهوة شتاءٍ رحل..
الآن جسمٌ من جِلدٍ وعظامٍ ينشد دفء التراب…[/highlight]

14/10/2018م

العنوان : ” عزرائيل ”

(عزرائيل (بالعبرية (עזראל) و يعني عبد الله، أو عبد الرّحمن ،و هو مَلَك الموت في كلّ من اليهودية، والإسلام وكذلك في التقاليد السّيخية. لم يرد ذكره في القرآن و السّنّة أبداً، ولكن وعوضاً عن ذلك تمّت الإشارة إليه بـ”ملك الموت”. قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ السجدة/11. . وهو آخرالمخلوقات والملائكة موتاً يوم القيامة (ويكيبيديا) يهمّنا من كلّ هذا، رمزيته الدّلالية للموت. و الشّعور بالطّقس الجنائزي
الذي يلي عتبة النص.

[ لم يطل انتظاري.. ] جثّة تتحدث ،جثة طفلة بريئة، في عمر الزّهور،فقدت دفء الحياة، نتيجة ظروف الحرب في اليمن، هل من الجوع؟ أم من المرض؟ أم بسبب رصاصة طائشة …النّص لم يخبر بشيء.فما أكثر الأسباب و الموت واحد! ولكن الطّفلة كانت تعيش التّرقب، والانتظار، فلم يطل ذلك، فالموت كان يترصّد الجميع.

[ ها هو يرفع روحي إلى علياه..] تستسلم لقدرها، فَتسْتلّ روحُها ،بسبب أو بآخر، و يعلو بها ملك الموت، بعيداً عن أدران أرض، طفحت بالظّلم والقتل والدِّماء…يعلو بعيداً عن كلّ دنيا البشر. هناك حيث الطّيبة والصّفاء، و العَدل و النَّقاء…

[ارْقدا بسلام ] خطاب مباشر لوالديها، كأنّها أدركت أنّ العالم المُنافق لا يَعبأ بكلامها. و أنّ من يَنصت إليها، و يَعي قولها هما والداها، اللّذان حاول طوال سَنوات الحربِ أنْ يحافظا عليها، ليضمنا لها الحَياة.لكنْ رغم كلّ ما بذلا من جُهدٍ، وخوفٍ، واحْتراس…كانت حياتها قصيرة جداً… لهَذا تدعوهما أنْ يَستريحا و يَرقدا بِسلام…

[انثرا التّراب..] و لكن ليس قبل أنْ يَنثرا على جثتها تراباً من هذه الأرضِ الطّيبة التي تكالب عليها العُدوان و الظّلم بكلّ جنون، و طيش، و وحشية… لعلّ التّراب يَستعيدُ التراب و يَطمئنّ البعضُ للبعض، أفضل من دنيا الشّرور، و الأحقاد، و النّفوس المَريضة..

[انزعا هذه الكبد.. اشويها.. علّها تعتق جوعكما ] فارقت الطفلة الحياة ، و هي تعلم أنّها تركت والدَين فقيرين معدمين، لا يملكان قوت يومهما، في ظروف حرب لا تبقي و لا تذر، هي تعلم ما بهما من جوع، و ما هما عليه من شظف العيش، فتكرمت عليهما بكبدها عساهما يشويانها و يقتاتان بها…تفكير طفلة. و رمزية بالغة. ترى بأنّها رحلت حيث لا جسد، إلا نفساً زكية..
وهل يَجرأ والداها أن يفعلا ذلك؟! بله هل يُطيقان فِراقها ؟! إنّها دراما الحرب العَبثية…

[ لم أكن غير بذرة شهوة شتاءٍ رحل.. ] و ترى من شرفات الغيب أنّ والديها ، لا يَستطيعان فعل ما أمَرتهما بفعله، حتّى و ان هلِكا جوعاً…فتهوّن عليهما الأمر رَحمةً ورفقاً بهما، حتّى لا يُهلكا. فتشعِرهما بأنّها لم تكن في حياتهما إلا نَزوة، و بذرة شهوة ذات شتاء، و أنّ كلَّ شيء انْتهى بِرحيلها، و عليهما أن يستمرا في الحياة…و لو بِدونها.

[الآن جسمٌ من جِلدٍ وعظامٍ ينشدُ دفء التّراب.. ] و تقطعُ الشّك باليقين، بأنّ صغيرتهما التي كانت تلهو وأترابها. و تراقص دُميتها، و تدْخِل البَهجة على قلبَيهما…أصبحتْ جسماً هامِداً، من جلد مُتيبس وعظام،لا مَجال له إلا قبراً مُترباُ يلفّه بدفء بدل صقيع الحياة التّعيسة ..

النّص فنياً :
1 ــ رؤية غرائبية، تتمثل في نقل البَوح والشّعور، و الخوف على مصير الآخر، و ذلك من الذّات التي فقدت الحياة، إلى الذّات الحية .. إنّ ذلك كان نقلة فنّية غير مُعتادة، و لا مَألوفة . ما جعل للنّص تأثيراً خاصاً في نفسية المتلقي …و هذا يدخل في إطار ما يعرف في النّقد الانجليزي: جعل المألوف (موت الفتاة) غريباً. (Making the familiar strange)

2 ــ نلاحظ روح الإنسجام بين العنوان، و الجملة الأولى، و جملة الخرجة. و كأنّ هناك تخطيط (Planing) مُسبق :
عزرائيل +[ لم يطل انتظاري ] = [الآن جسمٌ من جِلدٍ وعظامٍ ينشدُ دفء التّراب…]
و العكس صحيح أيضاً:
[الآن جسمٌ من جِلدٍ وعظامٍ ينشدُ دفء التّراب…]+[ لم يطل انتظاري ] = عزرائيل.

3ــ في إطار تقنية الكتابة، وظّفت القاصّة مَبدأ التّوازي (Principle of parallelism) بالنّسبة للجمل فكان الانسجام و التّوازي، خمس جمل خبرية توازيها أربع جمل إنشائية. هل كان ذلك مُجرّد مُصادفة، أم هو اختيار من البداية ؟ كيفما كان الأمر، المهم، فإنّه يُعَدُّ دعماً و سَنداً لفنّية النّص.

4 ــ اعتمدت القاصّة الجمل القصيرة في الغالب ، كما استغنت عن كلّ الرّوابط و لم توظفها إلا مرّة واحدة، حيث استعملت [الواو]. كما اعتمدت نقط الحذف، و قد اسْتعملتها سبع مرّات ، إشارة للكلام الكثير المَحذوف، أو المَسكوت عنه، كفرصة للمُتلقي، لتوظيف مُخيلته، و نسج خياله، و ربط علاقات لم يُشر إليها النّص.

5 ــ الخرجة لم تكن من النّوع الصّادم أو المُفاجئ، كما هي العادة ، و المتعارف عليه. بل جاءت تأكيداً لما سبق ذكره، فالمُتلقي يَعرف من السّطر الأوّل أنّ البنت قد توفيت، فحين تأتي الخَرجة لتؤكّد ذلك [الآن جسمٌ من جِلدٍ وعظامٍ ينشد دفء التراب] فالغاية، تمرير شفرة الرّاوية الحاضرة في القصّة بصوتها، والتي ترمزُ لضَحايا حربٍ مفروضة…

ملاحظة: في سياق الجمل الإنشائية / الطلبية [ارْقدا بسلام.. انثرا التّراب.. انزعا هذه الكبد.. اشويها.. علّها تعتق جوعكما.] يَشعر المتلقي و كأنّ الجمل غير مُرتبة دلالياً.و يعتريها اضطراب صرفي لأنّ الخطابَ موجه للوالدين. و كلمة (تعتق) تبدوغير مُناسبة لأنّ ليس الجوع الذي يُعتق، بل الجائع الذي منَ المَفروض أنْ يُعتق من الجوع. لذلك الأفضل : [ انزعا هذه الكبد.. اشوياها.. (علها تعتقكما من الجوع) (أو ) (علّها تطفئ جوعَتكما..) انثرا التراب..و ارقدا بسلام..]

و رغم ذلك، هنيئاً للقاصّة انتصار السّري على هذا النّص القصصي المُختلف والمُميّز، و الذي استطاع كشف وجه من وجوه الحرب البشعة في اليمن، من خلال طفلة ضحية بريئة..

تحياتي / مسلك

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.