قراءة لـ (ق ق ج ) ” يوتوبيا ” للقاصّ زهير سعود / سورية

 

من أساليب كتابة الق الق جداً، أسلوب المشاهد أو الّلوحات.فالقاص و كأنّه يحمل مجموعة من اللّوحات ، و في كلّ مرّة يشهر إحداها في نسق تراتبي متوالي، فتكون القراءة بصرية ذهنية أكثر منها لسانية، و في هذا تقاطع واضح بين اللّغات، التي تعرف تقنيا باللّغة  الفنّية  (Artistic language) و نص “يوتوبيا ” للقاص  زهير سعود يندرج في هذا النّسق من الكتابة. التي عرفت أول مرّة في شعرالتّفعيلة، ثم انتقلت إلى ما يسمى بقصيدة النّثر، ومن تمَّ، و بسبب التّأثير والتّأثر انتقلت إلى القصّة القصيرة جداً .

1 ــ العنوان ” يوتوبيا ” (Utopia) اسم مشتق من اللّفظ اليوناني: (οὐ τόπος) أو توپوس  بمعنى ” لا مكان ” أو مكان مثالي لا وجود له،عكسها ( ديستوبيا) . و” يوتوبيا” رمز للمدينة الفاضلة عند أفلاطون. وعنوان كتاب لسير توماس مورعام (1516) تخيّل فيه دولة مثالية بدون شر، أو ما يدعو إليه. جنوب المحيط الأطلنطي، قبالة سواحل أمريكا الجنوبية.
أمّا في القواميس الرّائجة فيراد بها :” أفكار متعالية تتجاوز نطاق الوجود الماديّ للمكان ، وتحتوي على أهداف ونوازع العصر غير المحققة ، ويكون لها تأثير تحويلي على النّظام الاجتماعي القائم .”

2 ــ النّص :

يوتوبيا

[highlight]”غشاه النّوم. من فزع لقم البندقية و استلقى… أفرغ مخزنه بعدو رفع سيفه. استفاق على خراب تمثال كلف بحراسته .”[/highlight]

ــ المشهد الأوّل:” غشاه النّوم.” الشّخصية الرئيسية و قد استبدّ بها سلطان النّوم، و بدأ تخديره يسري في المفاصل، والعينان على وشك الانغلاق، و الجسم كلّ الجسم أصبح في استرخاء تام، و قد تثاقلت أعضاؤه..

ــ المشهد الثّاني : ” من فزع لقم البندقية و استلقى…” من شدّة خوفه أن ينام، و قد يحدث أثناء نومه ما لا تحمد عقباه. تدارك الأمر، و جهّز بندقيته، و عدّته من الرّصاص، تحسباً لأيّ طارئ ، يمسّ التّمثال، واسْتعداداً لأيّ مواجهة مُمكنة ، ضدّ أيّ مُعتدي…

ــ المشهد الثّالث : ” أفرغ مخزنه بعدو رفع سيفه.” فجأة، استيقظ من سنة نوم مضطرباً ، مذعوزاً، من عدوّ همّ رافعاً سيفه، يكاد ينقض عليه…فبدون انتظار، ولا تحرٍّ، و لا تحرّز يفرغ خزّان رصاصه في هذا الماثل أمامه شاهراً سيفه..

ــ المشهد الرّابع: ” استفاق على خراب تمثال كُلّف بحراسته.” بعد أن ظنّ أنّه أحسنَ صُنعاً، إذِ استفاق في اللّحظة المُناسبة، و قضى على العدو، اكتشف أنّ ما أطلق عليه الرّصاص إنّما هو التّمثال الذي كُلّف بحراسته !

        النّص ــ و كما نلاحظ ــ يتقاطع و روح الطّرفة، و دعابة الحكي السّاخر (Ironie).
هي أمور قد تحدث بشكل أو بآخر في الحياة، قد يُكَلف المرء بمهمة فبدلَ أن يحافظ عليها، يضيّعها و عن غيرِ قصد. و هذا في جميع المجالات.كشخصية العسكري الذي أنيطت به مهمة حراسة التّمثال الأثري الرّمزي …و إذا به يخرّبه برصاصه ظانا ــ بعد استيقاظه ــ أنّه عدو يهاجمه.
النّص يذكرني بالمثل العامّي :(جاتْ تكَحلْها أعْمتها ) بمعنى أنّ امرأة جاءت لِتكتَحلَ و إذا بها تعْمي عينها.

3 ــ مكونات النص القصصية:

ــ النص و كما أسلفنا اعتمد أسلوب المشاهد.أو اللّوحات.

ــ  لغة بسيطة تركيباً ، واضحة. و ألفاظ دالة معجمية. بدون حشو (Redondance) .

ــ  الجمل غير مترابطة، إلا مرّة واحدة حيث ورد (الواو) كرابط، إذ تبدو منفصلة عن بعضها دلالياً. و لكن يجمعها سياق أسلوبي واحد. كما أنّها جاءت كلّها جمل فعلية:[ غشاه.. استلقى.. أفرغ.. استفاق ] عدا شبه جملة من الجار و المجرور :[ منْ فزَع..]

ــ العلاقة بين الجملة الأولى من النّص [غشاه النّوم.] و الجملة الأخيرة / الخرجة [ استفاق على خراب تمثال كلف بحراسته .] هي علاقة سبب و نتيجة. و الجملتان معاً تشكلان ومضة سردية، ربّما جاءت عن غير قصد: [غشاه النوم.استفاق على خراب تمثال كلف بحراسته.] و بالتّالي فإنّ الجملتين معاً تشكلان مُفارقة النّص: مَنْ كلّف بِحراسة التّمثال هو من خرّبه.

ــ العلاقة بين العنوان و النّص. فإذا كانت (يوتوبيا) تعني فقط ” اللا مكان” فالحادثة حقاً لم تحدث في أيّ مكان. فهي مُجرد ( يوتوبيا) كما هي المدينة الفاضلة عند أفلاطون مجرّد فكرة، لا أساس لها في الواقع. فهل كان من وراء كتابة هذا النّص مجرّد السّخرية و اقتناص ابتسامة القارئ بسبب الخرجة المُفاجئة السّاخرة؟ أم ترى كان هدفه أبعد من ذلك؟
يبدو أنّ للتّمثال أهمية خاصّة، مادامَ قد خصِّصَ لهُ عَسكري مُسلّح كي يَحرسه.لهذا فهو يشكل إيقونة (Icône) في النّص.الشيء الذي يسمح بالتّأويل،وتعدّد الدّلالات (polysémie) الممكنة. التي قد تخرج النّص برمّته من حالته اليوتوبية، إلى الواقع الحياتي.و من المسار اللا مكاني، إلى المكان الحقيقي.فالنّص هنا عموماً كالخرافة، كالنكتة، كالمثل… يسمعه المتلقي فيعلم أنّه مجرد خرافة، أو نكتة، أو مثل…و لكن في ذات الوقت يعي أن ذلك له صدى في دنيا الواقع بشكل أو بآخر. أرأيت المرأة التي لا ينقصها الجمال و لكن يضايقها شكل أنفها أو شفتيها … فتقصد طبيباً مختصّاً في جراحة التّجميل، و لسوء حظّها، و سوء حظّ الطّبيب أنّ العملية جاءت بنتيجة ليس كما كان مُنتظراً.إذاً، لتكن المرأة هي التّمثال ، و ليكن العَسكري هوالطّبيب الذي أنيط به بحكم وظيفته أن يحافظ على جمال المرآة، بل أن يزيدها جمالا، و لكن الأمور اتّخذت مساراً آخر عن غير قصد.

فهنيئاً للقاص زهير سعود على هذا النّص، لطرافته، و سخريته، و عفويته، و بُعد مغزاه…

تحياتي / مسلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.