حسين مروة.. اغتيال الفكر قبل السّياسة

حسين مروة.. اغتيال الفكر قبل السياسة
خالد علّوش
**************************************************
في السابع عشر من شباط عام 1987، أسكتت رصاصة قلم حسين مروة عن الإبداع، وصوته عن النضال
ولد المفكّر النقدي حسين مروة (1910 – 1987) والذي عُرِف أيضاً بأوساط الثقافة اللبنانيّة والعربيّة باسم الشيخ حسين، في قرية حداثيا في جنوب لبنان، لوالدين من الطائفة الشيعيّة. أمضى سنواته الأولى في قريته التي لم يغادرها، إلى أن قام والده بإرساله في عام 1924 إلى العراق، لدراسة العلوم الشرعيّة والإسلاميّة في جامعة النجف.

وتعتبر حياته في تلك المرحلة الدراسيّة أنّها كانت بداية تأسيس عميق لفكر حسين فيما بعد. فلم يتلقّ العلوم الدينيّة بطريقة أن يكون رجل دين فقط، بل كان ينظر لتلك العلوم بوجهة نظر نقدية واعتبارها منطلقاً للتراث الحضاريّ.

بدأت اهتماماته بالكتابة الأدبيّة منذ سنوات دراسته الأولى في العشرينات، فكتب في مجالات المقالة والقصّة والنقد والبحث، كما كتب بعض الشعر. إلى أن أنهى دراسته في عام 1938.

عاش حسين حياته في العراق بعد أن تمّ إعطاؤه الجنسيّة العراقيّة بشكل طبيعيّ، ممارساً عمله الثقافيّ والاجتماعيّ كرجل يقترب من الفكر الدينيّ، وناقداً له، لاعتباره أنّ ذلك التاريخ والفكر بحاجة لإعادة تأويل، لما يحتويه من تاريخيّة تراثيّة، وكانت مشكلته الأولى، هي أنّ النظر والتأويل لذلك الفكر كان ينبع بابتعاده عن تاريخيّته، ممّا جعل الفكر العربيّ – الإسلاميّ، يعيش تاريخاً ذاتيّاً سكونيّاً، لقطع صلته بجذوره الاجتماعيّة. أي بتاريخه الموضوعيّ.

كان ذلك الهاجس لدى حسين، يجعله بعيداً عن العلاقة مع الواقع في البداية، فبقي ضمن تطوّر بنيته الفكريّة، لكن في عام 1948، اطّلع عن طريق، حسين محمّد الشبيبي (أحد مؤسّسي الحزب الشيوعيّ العراقي) على البيان الشيوعيّ، وكان ذلك التاريخ بداية اطّلاعه على الفكر الماركسيّ، وبداية انطلاق حسين من التفكير بإطار مجرّد، ليجعل من فكره على علاقة مع الواقع ممّا جعله يعيد صياغة كثير من موضوعات التراث بطريقة نقديّة مادّيّة.

انخرط مروة بعد ذلك بالعمل الفكريّ المباشر في الواقع، فشارك أدبيّاً وإعلاميّاً في إحداث الوثبة الوطنيّة العراقيّة عام 1948، والتي أسقطت معاهدة بورتسموث البريطانيّة مع حكومة العهد الملكيّ. على أثر ذلك العمل المباشر، وبعد عودة نوري السعيد إلى حكم العراق عام 1949، صدر بحقّ حسين مروة قرار إبعاده مع عائلته ونزع الجنسيّة العراقيّة بعد عشرين عاماً من مكوثه فيها.

عاد مروة في شتاء عام ١٩٤٩ إلى بيروت حيث واصل عمله بالكتابة الأدبيّة في زاويته اليوميّة “مع القافلة” ضمن جريدة الحياة لمدّة سبع سنوات. في تلك الفترة التي عاد فيها، تعرّف عام 1950 إلى مجموعة من قيادات العمل الشيوعيّ، كفرج الله الحلو وأنطون تابت ومحمّد دكروب، ونتج عن هذه العلاقات، تأسيس مجلّة الثقافة الوطنيّة التي أصبح الشيخ حسين مديراً لتحريرها إلى جانب دكروب.

في عام 1951، انضمّ حسين مروة رسميّاً إلى الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ. كما انضمّ إلى قوّات أنصار السلم (تجمعّ الأحزاب الشيوعيّة العربيّة لتحرير فلسطين) عام 1952. كانت تلك الفترة من حياة الدكتور حسين، مليئة بالعمل المباشر نتيجة تطوّر الأوضاع السياسيّة في العالم العربيّ، لما شهدته البلاد من انقلابات وحركات تحرّر، ونهوض للفكر التحرّري، على مستوى الوطن العربي والعالم.

انتخب عام 1965عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعيّ اللبنانيّ وبعدها عضواً في المكتب السياسيّ. ترأس تحرير مجلّة الطريق الثقافيّة من العام 1966 حتّى شباط 1987 تاريخ اغتياله. بالإضافة أنّه كان عضو في مجلس تحرير مجلّة النهج الصادرة عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكيّة في العالم العربيّ.

كان وقع اغتيال الدكتور حسين على يد (حزب الله اللبنانيّ) في الشارع الثقافيّ العربيّ والسياسيّ اليساريّ، وقعاً وصدمة هائلة. فلم يكن اغتياله فقط كمناضل تحرّري في العمل السياسيّ، بل كان خسارة حقيقة للفكر العربيّ. ورغم تضارب المعلومات في الجهة التي اغتالته، بين حركة أمل وبين حزب الله، إلّا أنّ جميع المؤشّرات كانت تدلّل على تورّط حزب الله بتلك العمليّة.

يقول المفكّر اللبناني مهدي عامل في يوم تأبين مروة: “قتلوك لأنّك شيعيّ وشيوعيّ”.

لقد كان حسين مروة وبمحاولة إنتاجه لفكر تراثي جديد في التاريخ الإسلاميّ، يُشكّل تهديداً حقيقيّاً لجميع الحركات الدينيّة المنخرطة في العمل العسكريّ السياسيّ، التي تأخذ مشروعيّتها من جهل الناس بحقيقة تراثهم وفكرهم والوقوف عليه بعمق، فكان حسين يُسلط الضوء في كتاباته على تلك المعضلة البشريّة، والتي إن رأت النور ستجعل الكثير يعيدون النظر بالمفهوم اتجاه ذلك الدين والتعامل معه كصيغة تاريخيّة حضاريّة قبل دخوله بمرحلة الانحطاط والتردّي.

لقد كان اغتيال حسين مروة لحظة إسكات للفكر، قبل السياسة.

كتب الشيخ حسين، إضافة للمقالات والبحوث والزوايا الصحفيّة، كتباً منوّعة ترتكز على ثقافته الدينيّة والمادّيّة. خلق مزيجاً متيناً ليُخرج للعالم الثقافيّ العربيّ إحدى التحف القليلة والنقدية في الفكر الإسلاميّ، وهو كتابه “النزعات المادّيّة في الفلسفة العربية الإسلاميّة” الذي أثار منذ صدوره جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافيّة العربيّة والغربيّة الاستشراقيّة.

تضمن ذلك المرجع الفكريّ أربعة أجزاء يمكن اختزالها على ذلك النحو: (الجاهليّة، نشأة وصدر الإسلام) الذي اعتمد فيه بمنهج تحليل مادّيّ لثقافة ما قبل الإسلام ونشأة وتطوّر الفكر التي دعت إلى تراكمات ثقافيّة صحراويّة بخلق البذرة الأولى لخلق المشروع الثوريّ الإسلاميّ. الجزء الثاني (المعتزلة، الأشعريّة، المنطق) عالج موضوع علم الكلام عند المعتزلة والأشعريّة، ثمّ علم المنطق الصوريّ الأسطاطاليسي، لكون المعتزلة أوّل من استخدمه. والجزء الثالث كان (تبلور الفلسفة، التصوّف، إخوان الصفا) وفيه تحدّث الدكتور حسين عن التصوّف وذلك عبر مثاليين محدّدين هما ابن عربيّ والسهرورديّ، ورسائل إخوان الصفا، وقدّم نبذة عن تطوّر العلوم عند العرب. وفي الكتاب الرابع (الكنديّ، الفارابيّ، ابن سينا) عالج مرحلة النضج الفلسفيّ في الفكر الإسلاميّ، وما احتواه ذلك الفكر الذي بطريقة تحليل عقلانيّة توصل إلى عمق مادّيّته إزاء الفكر الدينيّ.

لقد كان تأثير حسين مروة على محيطه الفكريّ والسياسي كبيراً جدّاً، فلم يتّخذ موقفاً ثقافيّاً انفصاليّاً عن الواقع، مثلما يجري عندما يهتز الواقع نتيجة حراك سياسيّ معين، بل كان فكره ارتباطياً بطريقة ثقافيّة عميقة جعلته هدفاً للقتل. فأفكار الدكتور حسين تجسّدت من خلال شرح مطوّل عن بنية المجتمع العربيّ، وأسباب ظهور الفكر الدينيّ بمناطق وثنيّة، وأسباب الإزدهار التي خضعت لها، والخلافات الأوليّة في البنية الإسلاميّة، وهذا كان أحد الأسباب المهمّة التي دعت حزب الله اللبنانيّ للقيام بعملية اغتياله، لما فيه كشف حقائق عن ذلك التاريخ وأسباب الصراع، في كتابه.

ذلك الفكر الذي لم يتوقّف عند درفتي مؤلّفه النزعات المادّيّة، بل جاء كتطبيق عمليّ لذلك الفكر في تأسيس ومساهمة بمجلّات دوريّة ثقافيّة، وعمل سياسيّ مباشر. كلّ تلك الأمور تضافرت لتؤدّي بحسين مروة إلى الموت اغتيالاً.

ويبقى كتاب النزعات المادّيّة أحد العناصر الثقافية المهمّة التي يمثابة مرجع قويّ وأساسيّ في العصر الحديث.٣

ورغم مرور أكثر من ربع قرن على اغتياله، مازال فكر الدكتور حسين يقف شاهداً على لحظات تاريخيّة في البنية العربيّة الإسلاميّة، لما أعاد فيه من نظرة نقديّة مادّيّة له، وإعادة تشريح جسمانيّ لذلك التاريخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.