الصّالونات الثّقافية النّسائية في مطلع القرن العشرين.

الصّالونات الثّقافية النّسائية في مطلع القرن العشرين

إعداد: نسمة سيف الإسلام

باحثة دكتوراه بكلية الآداب – جامعة القاهرة
يعد مفهوم “الثقافة” من أكثر المفاهيم شمولا واتساعا في الدراسات الاجتماعية، فالثقافة هي الأرضية التي ينمو عليها المجتمع، فلا يمكن حصرها في إطار الفن والمتاحف والمسارح، أو سمو السلوك الخارجي للأفراد، فهي نتاج أو محصلة لعلاقات اجتماعية متكررة بين أفراد المجتمع، حتي تتبلور في صورة عادات ثابتة وتصورات تقليدية معروفة لجميع أفراد المجتمع، وتتوارث اجتماعيا بالتلقين الاجتماعي وليس بالصورة البيولوجية.

كانت الندوات والصالونات الفكرية والأدبية أحد مظاهر الحركة الثقافية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، واشتهرت منها ندوة علي باشا مبارك التي كان يعقدها بصورة أسبوعية في منزله، وكان من أعلامها الشيخ حسن المصرفي صاحب كتاب “الوسيلة الأدبية” أول كتاب مصري في النقد الأدبي، وكذلك كان محمود سامي البارودي بعد عودته من منفاه في جزيرة سيلان – عندما نفي مع أحمد عرابي ورفاقه في أعقاب الثورة العرابية – يعقد في منزله ندوة أسبوعية تجمع الشعراء والموسيقيين، وكان أشهر روادها الشعراء إسماعيل صبري باشا وخليل مطران وحافظ إبراهيم والمطرب الملحن محمد عثمان، فكانت مجلسا للطرب والأدب في وقت واحد، أما ندوة أحمد تيمور باشا فكانت شكلا آخر فكانت تجمع صفوة العلماء في الأدب واللغة ليبحثوا ويناقشوا مسائل لغوية وأدبية وتاريخية بالاستعانة بمكتبة تيمور باشا العامرة بالمخطوطات والمطبوعات والمراجع النادرة.
وكان المجتمع المصري في تلك الفترة يشهد بداية مشاركة المرأة في مجالات الفكر والأداب بداية من كتابات رفاعة الطهطاوي عن أهمية تعليم المرأة، ثم تطور الأمر ليشهد صدور بعض الصحف والمجلات النسائية بداية من عام 1892 وصدور مجلة الفناة للسيدة هند نوفل.
وسوف يناقش المقال الدور الذي لعبته الصالونات الثقافية النسائية في الحركة الفكرية في المجتمع المصري في أواحر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
كانت مريم نمر أخت فارس نمر وزوجة شاهين مكاريوس – أصحاب صحيفة المقطم، وأبرز كتابها – وقد أقامت في بيتها ندوة يحضرها أصدقاء زوجها من المصريين والأجانب من الرجال والسيدات، أصبحت بمثابة ملتقي لتبادل المعارف والآداب المختلفة، كما أسست جمعية أدبية اجتماعية أسمتها “باكورة سورية” في عام 1881 وكان من أغراضها تعليم النساء الفقيرات. كذلك أقامت السيدة ياقوت صروف في بيتها ندوات يحضرها رجال الفكر والثقافة من المصريين والأجانب، وكانت لها مقالات وأبحاث أدبية نشرت في مجلة المقتطف.

صالون نازلي فاضل:
لم تكن نازلي فاضل وافدة من تركيا، فقد كانت مصرية من أصول تركية، شأنها شأن الكثيرات من نساء الأسر الكبيرة في مصر، والدها هو الأمير مصطفي فاضل – أخو الخديو إسماعيل – الذي كان يمتلك واحدة من أهم المكتبات في مصر، وقد كان لهذا الجو الأدبي والفكري الذي نشأت فيه دورا في اهتمامها بالعلم والثقافة، فكان إنشائها للصالون الأدبي والفكري أحد خطوات تطور الحركة الفكرية والثقافية المصرية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فكان رواد الصالون لا يكتفون فقط بمناقشة شئون الآدب والشعر فحسب، وإنما كانت تتم مناقشة الكتب الأجنبية التي تصدر عن مصر في الخارج، ويتم تفنيد ما يكتب بها إذا كانت تهاجم مصر.

كان الصالون يضم صفوة رجال المجتمع والفكر والثقافة في ذلك العصر، من بينهم الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين والشيخ علي يوسف والدمرداش باشا وفتحي زغلول شقيق سعد زغلول الذي كان من مستشاري محكمة الاستئناف، الذين كان لهم دور بارز في الحراك المجتمعي في تلك الفترة، فالشيخ محمد عبدة كان يبحث في كيفية الأرتقاء بالعالم الإسلامي، وكان في الصالون متسع لمختلف الأفكار التي يمكن تساعد في مشروعه، أما قاسم أمين، فقد كان من العوامل التي ساعدت في توجهة للكتابات المدافعة عن المرأة ما شاهده في صالون الأميرة نازلي فاضل التي كانت تتقن اللغة العربية والتركية والفرنسية، وكان يحضر مجلسها صفوة رجال المجتمع وتدخل معهم في نقاشات ومجادلات، وكان لها رأي مستقل وثاقب، فكانت بمثابة النموذج الذي تمني أن تصبح عليه المرأة المصرية. أما سعد زغلول فعندما تم ترشيحه ليصبح وزيرا للمعارف قامت بتزكيته لدى المعتمد البريطاني نظرا لما كان لها من مكانة رفيعة.
والجدير بالذكر أن مذكرات “ستورز”، المستشار الشرقي في السفارة البريطانية، زخرت بالعديد من الذكريات عن صالون الأميرة نازلي فاضل ورواده، أبرزهم بالنسبة له: اللورد كرومر وجورست ثم كتشنر.
وكتب عنها أيضا الشيخ مصطفى عبد الرازق – الذي كان شيخا للأزهر الشريف ووزيرا للأوقاف – إنها “تميزت منذ نشأتها بذكاء ودهاء، ربيت على النمط الأوروبي، ثم كانت زوجة للسفير العثماني في لندن فاتصلت بعالم السياسة والدبلوماسية”.

صالون الكسندرا أفيرينو:
ولدت السيدة الكسندرا أفيرينو في بيروت، وتلقت تعليمها هناك واتقنت اللغة العربية والفرنسية والإيطالية، وكانت تعقد في الإسكندرية صالونا فكريا وثقافيا يضم صفوة رجال الفكر في الإسكندرية من المصريين والأجانب، وكان من بينهم إسماعيل صبري باشا محافظ الإسكندرية، وكان لها دور في الحركة الثقافية في مصر في تلك الفترة، ففي 31 يناير عام 1898 أصدرت مجلة أنيس الجليس، وكانت تدافع فيها عن حقوق المرأة، وفي عام 1900 أصدرت مجلة باللغة الفرنسية أسمتها اللوتس، وكانت ترمز إلي مصر بذلك الاسم، ونشرت فيها مقالات عن أحوال المرأة في البلاد الشرقية بصفة عامة، بالإضافة إلي انضمامها إلى جمعية السلام النسائية في أوربا كممثلة للنساء المصريات، كما كتبت بعض المقالات في جريدة المؤيد.

صالون مي زيادة:
أنشأت الأدبية مي زيادة صالونها الأدبي في بيت أبيها، وكانت من قمم الشعر والأدب في عصرها، بالإضافة إلى إتقانها عدة لغات درست في الجامعة المصرية. وكان من زملائها الأديب زكي مبارك..
شهد هذا الصالون أغلب أدباء ومفكري عصرها، أحمد لطفي السيد وطه حسين ومنصور فهمي رئيس دار الكتب والأديب مصطفي صادق الرافعي ثم عباس العقاد وحافظ إبراهيم، وكان الصالون ينعقد الثلاثاء من كل أاسبوع.

لقد وصف عباس العقاد صالون مي قائلاً: “لو جمعت الأحاديث التي دارت في ندوة مي لتألفت مكتبة عصرية تقابل مكتبة العقد الفريد ومكتبة الأغاني في الثقافة الأندية والعباسية.

وهكذا، استمرت الصالونات الفكرية النسائية خلال القرن العشرين، حتى أخذت شكلا آخر من خلال المحاضرات النسائية التي كانت تلقى في البيت أو في الجامعة المصرية يوم الجمعة من كل أسبوع، أو في صالة جريدة “الجريدة” التي أنشأها أحمد لطفي السيد، وكان من أهم المحاضرات فيها السيدة لبيبة هاشم صاحبة مجلة فتاة الشرق والأديبة مي زيادة، وغيرهما من الضيوف، فضلا عن إبراهيم الهلباوي أشهر المحامين في عصره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.