في الذكريات موعظة (01)

اكتب

 

لمدّة عشر سنوات، أشرفت على برنامج أدبي يُعنى بناشئة الأدب، كان يُسجل في إذاعة أكادير، و يبثّ على الأمواج الوطنية.و كان له مستمعون و متتبعون في تسعينيات القرن الماضي .
ففي صبيحة يوم و أنا أستعد للتّسجيل، دخل شاب في مقتبل العمر. عرفت بعد ذلك ، أنه يشتغل كاتب ضبط في المحكمة ، علمت منه أيضًا، أنه يكتب القصّة .فبعد تسجيل الحلقة ، جلست إليه نتحدث فيما يكتب، فقال لي بأن وظيفته ككاتب ضبط جعلته يتزود بمواضيع كثيرة و متنوعة .. استطاع بلورتها في نصوص قصصية. فابتهجت لهذا ، فأخرج من محفظته دفتراً من الحجم الكبير، فيه نصوص مختلفة ، طلب مني أن ألقي عليها نظرة و أخبره برأيي ، لأنه كان ينوي نشرها .فلمّا كان عدد النّصوص كثيراً، طلبت منه أن يمهلني شهراً كاملا ، فمنحني رقم هاتفه و قال : (اقرأ على مهلك يا أستاذ لست مستعجلا ، إنما أرغب في نصيحة صريحة في هذا الذي كتبته )
أذكر أنني تركت الدفتر جانباً قرابة عشرة أيّام لكثرة الأشغال و فترة امتحانات الكلية و ما تتطلبه نسخ الطلبة من تصحيح و إدخال النقط …
فلمّا عدت إليه لم أجد نصوصاً قصصية ، و لكن تقارير عن قضايا اجتماعية.
فأمضيت معظم اللّيل أتصفح الدفتر، و أقرأ ما فيه . فلم أجد قصّة واحدة بمعنى قصّة ..
فمضى شهران إلا بضعة أيّام ، فخشيت أن يضيع منّي الدّفتر ، فهاتفت صاجبه ، الذي جاء بشوق و لهفة راغباً في أن يسمع رأيي. فأخبرته عن فنّ القصّة ، و فنّيتها ،و طرائق كتابتها، و مكوناتها ،و أنواعها… و لقد تعمّدت ذلك العرض المستفيض ، عساه يفهم أنّ ما قلته لا ينطبق على ما كتبَ .. و لكن رغم ذلك ظل يرتقب رأيي فيما كتب . فلمّا صارحته ، انتفض و كأنّه لا يصدق ما سمع …و قال :
ــ أفهم من كلامك أنّ هذه النّصوص غير صالحة للنّشر ؟!
قلت : كلّ النصوص ،و كل ما يكتب صالح للنشر ، و لكن في أي إطار؟
إذا أنت نشرت كلّ ما في الدفتر على أنّه “تقارير عن قضايا اجتماعية ” فلا بأس في ذلك . و لكن إذا نشرتها على أنّها نصوص في القصة القصيرة . فالأمر مختلف ! و الأمر ليس كذلك.
فنظرني بذهول و قال :
ــ إلى اللّحظة الأخيرة قبل أن أكلمك كنت أعتقد أنّ كلّ ما يحدث للنّاس هو قصص .و لكن الأن تحاول أنت أن تفهمني أنّ قصص النّاس ليست قصصاً !
فقلت :لعلّ كلّ ما قلت لك لم تستوعبه جيداً .دعني أقول لك أنّ النّاس تعرف في حياتها قضيا  و أحداثا ًمختلفة ، قد تتكرر ، و لكن كل و يعيشها وفق ظروفه و حياته الخاصّة ، و كلّ و يرويها بطريقته و أسلوبه الخاص، هذا في الأمر العادي الذي نعرفه و نعيشه ، و لكن في الفن و الابداع، يصبح المعيش تخييلا ،قد لا ينحصر في الحدث بعينه ، بل قد يصبح الحدث مجال تأويل و قراءة تأخذ المتلقي بعيداً عن تخوم النّص ..و ذلك بتوظيف اللّغة القصصية و مكونات القصّ الأخرى..و هذا ما يسمى بالكتابة الفنّية ، و هنا الاختلاف بين التّقرير و القصّة، بمفهومها السّردي الفنّي..فكلاهما فيه حكي، و لكن طرائق العرض تختلف..

نظرني بذهول ! فأحسست أنّ كلامي لن يجد مستقراً في ذهنه ، و أنّ إدراكه أبعد ما يكون من أن يستوعب ، ما أقول.
افترقنا، و لم نلتق بعد ذلك. و لكنّ الأيّام جعلتني التقي بأشخاص مشابهين ، يكتبون كلاماً ،و خواطر ،و تقارير… يحسبونها قصصا ..

تحياتي/ مسلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.