قراءة لنص قصير جداً ” قربان ” للقاص سعيد أبو نعسة / لبنان

القاص سعيد أبو نعسة / لبنان

قربان
كـبّـلوا أطراف ظِلي ; صلبوه على جذع نخلة .
مرّت راعية غنم تلعب( البَبجي) انحَنَت كي تَـرجُمَه .
انحلّ نطاقها،فبانت سوءتها
*** *** ***
النّص يدخل في إطار النّصوص الرّمزية، التي لا تكون في الغالب،  في متناول القارئ العادي،لأنّ كلّ كلمة في النّص تحمل ظلّ المعنى ، لا المعنى الواضح مما هو مكتوب. و بذلك ترقى هذه النّوعية من الكتابة الفنّية القصصية إلى النّخبوية، إنْ لم أقلْ نخبة النُّخبة. و تلك ليست ميزة دائما كما يدّعي البعض، بل نوع من تسيج النص و خوصصته، ما يجعل تحليله نوعاً من الإسقاطات المتهافتة، التي هي أشبه ما تكون برجمٍ بالغَيب. بينما تبقى الفكرة المُحفّزة على الكتابة، في رأس القاص وحده .و هو عن بُعد، يبتسمُ مُبتهجاً.بهذه الزَّوبعة من الآراء و الافتراضات، التي أثارها نصّه، و التي لم يفكرْ فيها، و لم تخطرْ بباله قطّ .
نص (القربان )  يتطلّب قراءة سيميائية (Sémiotique) مادام يغرق في الرّمز، و كلّ كلمة فيه هي بمثابة علامة دالّة. و ذلكَ يفترضُ التَّركيز على سيميائية اللّغة بالدّرجة الأولى .

1 ــ سيميائية العنوان :
القربان: اسم، جمعه قرابين، و هو كلّ ما يتقرب به إلى الله تعالى ،من ذبيحة و غيرها. و منه في المَسيحية ، القربان المُقدس : و هو ما يُقدسه الكاهن في القدّاس من الخبز و الخمر … و فعل القرابين البشرية غارق في القدم،لاعتقاد الأمم القديمة أنّ ذلك يقرّبهم من الآلهة و يُكسبهم ودّها، و رضاها. فتحفظهم من الشّرور، و غضب الطّبيعة، و خبايا المَجهول.. و لقد كانت شائعة كظاهرة من الصّين شرقاً إلى المكسيك غرباً، حيث شعوب الأزْتيك و الإنكا، كما عرفتها الحضارة الفرعونية القديمة ، وقبائل إفريقية لارتباط ذلك بالشعوذة و السّحر، و لارتباط (الرّوح و الدّم و السّحر) بالطقوس الدّينية القديمة .
إذاً، العنوان في بعده السميولوجي يحيلنا على عناصر ينبغي أخذها بعين الاعتبار: الّروح، الدّم، التقرّب، الخوف من غضب الأقوى ، السّعي لترضيته…

2 ــ سيميائية النّص :
ــ [كـبّـلوا أطراف ظِلي ]:  البطل /السارد ، يصرّح أنّ الآخرين كبلوا أطراف ظلّه. الظلّ لا يكبل، ليس مادة، و يتنافى و فعل التّكبيل، إذاً هنا، الظلّ ليس بظل حقيقي . و إنّما المُراد به شبيهُ السّارد، و هذا يُحيلنا مُباشرة على صَلب المَسيح عليه السّلام، كما يُحيلنا على الآية الكريمة: ” وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا” النّساء/ (157) .

ــ [صلبوه على جذع نخلة ] : صلبوا الظلّ / الشّبيه بالمسيح، على جذع نخلة ،و نحن نعلم أن الذين صلبوا الشّبيه ظناًّ منهم أنّه المَسيح هم اليهود.و أنّ الواشي الخائن ، هو من أنزل الله به الشّبه. فإن كان صلب في النص على جذع نخلة، و في الواقع صُلب على صليب من خشب. فالنّخلة كناية عن أمّة ارتبطت بالنخيل و هي الأمة العربية.

ــ [مرّت راعية غنم تلعب( البَبجي)  ] الرّاعية ، من الرّعي. و هي من تتولى السّهر على غيرها / ممن هم تحت تصرفها. و هي بمثابة الأنظمة الحاكمة .
و الغنم بمثابة الرّعية، لا تملك من أمرها شيئاً. إلا الخضوع و الاستكانة ..و إن كانت الراعية/الأنظمة . منشغلة باللّعب في خلق معارك و حروب سخيفة كـ (سورية ، اليمن ، ليبيا، حصار قطر ) إذ لا مسوغ لها و كأنّها ألعاب افتراضية كلعبة (الببجي )..تتسلى بها الأنظمة بعبث،و استجابة لأصحاب الفوضى الخلاقة.

ــ [ انحَنَت كي تَـرجُمَه]  تاء التأنيت تعود على الرّاعية / الأنظمة. فما علاقتها بالمصلوب/ الشبه لترجُمه؟ ذلك  لأنّه في  اعتقادها المسيح ، الذي هو رمز التّدين، و رمز التّسامح . و هذا ما يترجم الواقع المعيش للأنظمة العربية،التّابعة إذ لا عدو لها إلا المتدين، و الدين الحق ،و دعاة التّسامح و الطيبة، لهذا بادرت للرجم كناية عن كره دفين و متمكن..و لكن وهي تحاول ذلك نكاية في الدّين و التّسامح.وقع ما لم يكن في حسبانها ، سقطت أقنعتها ، و انكشفت وجوهها المخادعة :

ــ [انحلّ نطاقها،فبانت سوءتها  ] انكشفت و تعرت الأنظمة أمام شعوبها ،و أمام العالم..فأدرك الجميعُ بأنّها أنظمة عميلة، خائنة، لا تمثل إلا نفسها و مصالحها و لا صلة لها بالدّين و لا بروح التّسامح، و في ذلك تضامن صريح مع منْ قاموا بالصّلب / اليهود. و لكن الأهمّ في ذلك ،هو انتصار الحقيقة الرّبانية، فلا المصلوب كان هو المسيح، و لا ما قامت به الرّاعية/ الأنظمة العربية، هو الصّواب. و المسيح/ رمز القضية، مرفوع يتولاه الله . فلا اليهود انْتصروا بالقتل، و لا الأنظمة العميلة حققت مُبتغاها، و دورها في الخيانة و العمالة…

النّص فنّيــاً :

1ــ اتّخذ القاصّ أسلوب اللّوحات أو المَشاهد، فخاطب المتلقي بواسطتها. ففي كلّ مرّة و بالتّوالي يرفع لوحة معبّرة. و يتركها تحاور المُتلقي، يفسرها حسب معرفته ، و تكوينه، و وعيه . فكانت خمس لوحات، تنسجم حيناً فتتقاربُ لبناء تصور مَعنوي ، و تتباعد حيناً ، كأنّ بينها قطيعة ( Coupure) :
التوافق و الانسجام في: [ كـبّـلوا أطراف ظِلي ; صلبوه على جذع نخلة . ]
[مرّت راعية غنم تلعب( البَبجي) انحَنَت كي تَـرجُمَه.انحلّ نطاقها،فبانت سوءتها]
و لكن بين التّوافقين هناك ما يشبه التباعد أو القطيعة الإبستمولوجية من حيث المعنى،لو لا جملة [ ترجُمه ] التي شكّلت خيطاً رفيعاً جامِعاً و مُيسراً للقراءة السّيميائية.

2 ــ توظيف التّناص و الاستفادة من حادثة الصّلب وفق ما  ورد في القرآن الكريم أيْ صلب الشّبيه و ليس المسيح كما ترى المسيحية , و قد كان تناصاً جيّد السّبك، واقعي المَبنى و المعنى، ينطبق على الحال و المآل،  فيما يخصّ (قتل) القضية الفلسطينة و إقبارها. و لكن نجاة المَسيح من الصّلب و القتل..رمز لبقاء القضية حيّة تغالب القهر والزّمن، و التّواطؤ والمِحن.  رغم كيد اليهود الصّهاينة ،و رغم تواطؤ الأنظمة الانهزامية اللاّشرعية التي تستمدُّ وجودها من الآخر، في ارتباطه باليهود، لا من شعوبها العربية، و مقوماتها الحضارية.

3 ــ توظيف الرّمز:
لقد وظف الرّمز بشكل لافت، و مكثف، و عميق ، يدلّ على دُربة و اتْقان و حسن توظيف:
الظلّ ←← شبيه المسيح
النّخلة ←← رمز للأمة العربية في ماضيها و حاضرها.
راعية ←← رمز الأنظمة الحاكمة.
الغنم ←← رمز للخضوع الشعبي .
لعبة (الببجي ) ←← كناية عن حبّ الحروب و الفتن .
الرّجم ←← رمز لكره الدّين الحقيقي و نبذ روح التّسامح.
انحلّ نطاقها ←← رمز عن انكشاف وجهها الحَقيقي .

4 ــ المفارقة من نوع التّضاد الذي يخلق الدّهشة و التّعجّب : مَصلوب على جذع نخلة ، منظره وهو ينزف دماً يبعث على الشّفقة و الحزن، و يثير مشاعر الأسى، و الرّهبة..
و لكن بالمقابل راعية غنم ، لم يزدها المنظرُ إلا غَيضاً، و غضباً.. فهاجمت المَصلوب بالحجارة… الشّي الذي يُثير في المتلقي الدّهشة، و العَجب، و التّساؤل، و يحفّزه على البَحث عن جواب يُطمئنه و يُقنعه …

5 ــ الخرجة جيّدة و معبّرة، و فنّية بليغة..[ انحلّ نطاقها،فبانت سوءتها ] ،من الصّعب توقعها. كما أنّه من الصّعب إيجاد بديل لها، يعبّر بنفس العُمق و الدّلالة.

    خِتاماً ،أجد النّص صَعباً من حيث الشّكل و الديباجة، بالنّسبة للقارئ العادي .و معظم جماليته يكتسبها من هذه الصّعوبة الاشكالية، رغم نخبويته كما أشرت آنفاً. و لكن، لقد كُتب بفنّية لا تخلو من دلالة، و مَغزي، و بُعد نظر…
فهنيئاً للقاص سعيد أبو نعسة، فقد كان النّص من أجملِ النّصوص التي قرأتها هذا الأسبوع ..

تحياتي / مسلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.