المنصف المرزوقي: رئيس دولة خارج دائرة السّلطة..

د منصف المرزوقي رئيس تونس السابق 2014/2011

المنصف المرزوقي: رئيس دولة خارج دائرة السلطة..

د محمد الوادي

ليس من عادتي الكتابة عن حياة، أو طرق عمل السياسيين ورجال السلطة، لأنني لا أجيد ذلك، ولا أعرف كيف أتملق، ولا كيف أجامل، و(فشلي) في عملي الوظيفي يعود -بالدرجة الأولى- إلى صراحتي التي لا تقبلها السياسة والسياسيون، ولا أجد أي توافق أو انسجام مع السياسويين، خاصة الأميين ثقافيا، وكنت دائما ولا أزال أنتشي بالكتابة عن الفن والإبداع والثقافة والأدب، وعن الناس البسطاء.

حديثي اليوم عن رجل دولة.. رجل سياسة، هو حديث عن البعد الإنساني، الذي لماما ما يدب إلى قلب وسلوك رجل يكون في المربع الأول للسلطة، والمصنف المرزوقي كان على رأس الهرم السياسي في تونس( رئيس الدولة من 2011 إلى 2014) وحينما انتهت ولايته سلم السلطة إلى منافسه وانسحب إلى الخلف لخدمة وطنه من موقع آخر، لأن المهم ليس الموقع السياسي، بل يمكن المساهمة في بناء الوطن من أي موقع، وبأية وسيلة.

المنصف المرزوقي حاصل على الدكتوراه في الطب من جامعة ستراسبورغ الفرنسية في الطب الباطني والطب الوقائي وطب الأعصاب، وتولى تدريس الطب بنفس الجامعة.

شخصيا لا أعرف المنصف المرزوقي إلا من خلال وسائل الإعلام، ومن خلال اطلاعي على بعض كتاباته، ولكني أتابع الرجل، وتعجبني مواقفه الشجاعة، وأرى فيه نموذج الحاكم الذي من الممكن أن يخرج عالمنا العربي من دائرة التخلف.

ما يشدني في شخصية الرئيس التونسي السابق هو صراحته، وهي ككل صراحة حينما توجه إلى أناس لا يحبونها، وتقال في أوساط المكر والخداع تكون كما خنجر يوصل إلى مقتل قائلها، والعامل بها.

المرآة السياسية التي اعتمدها المرزوقي، وهو رئيس دولة، كان من الممكن أن توصله إلى المشنة،كما حدث مع صدام حسين، أو على أقل تقدير، أن تلقي به في غياهب السجون كما حدث مع عزيز مصر الدكتور محمد مرسي الذي خانته قلة الحنكةالسياسية، وهو ما لم يؤهله لتجنب الضربات القاتلة، بل حمل قلبه في كفه، وبنية صادقة أراد أن يسوس بلدا يوجد، جغرافيا، في مرمى النيران، وأراد أن يخرج مصر من مستنقع أمريكا وإسرائيل، والدول العربية والغربية التي تدور في فلكهما، فكانت نهايته الإهمال والقتل البطيء.

في كل الأحداث الهامة والمصيرية يسجل الدكتور المنصف المرزوقي موقفه الشجاع غير آبه بالنتائج الوخيمة، وبالمواقف العدائية التي حتما ستسجَّل ضده. هذه الصراحة خلقت له متاعب وأعداء. وهنا، ومن باب المقارنة، تحضرني شخصية لوركا الشاعر الإسباني الذي تنبأ بمقتله. جاء هذا في أشعاره التي غزت العالم يوم كان للشعر والثقافة والفكر تأثير على الشعوب والسياسة.وكذلك كان، فقد تم إعدام لوركا رميا بالرصاص، بعد ما دبروا له تهما للتخلص منه ومن أشعاره المزعجة، ولكن اسمه ظل خالدا. حالة لوركا كحالة المنصف المرزوقي فالرجل أصبح مزعجا بالنسبة للعديد من الجهات بسبب مواقفه، وإنتاجه الفكري، وهو ما عرضه للاستجواب، والتحقيق، والإحالة على المحاكم، وخاصة بعد صدور كتابه:” دع وطني يستيقظ” الذي تعرض للمصادرة. وفي سنة 1992 سرق البوليس السياسي أفلام كتابه:”الرؤيا الجديدة” الذي كان يعده للطبع والنشر، وحتى كتابه العلمي:”المدخل للطب” البعيد عن السياسة وحقوق الإنسان وكواليسها، والذي طبع منه ألف نسخة سنة 1994اختفت بكاملها في ظروف غامضة، لتصل سياسة التضييق على المفكر والسياسي والحقوقي المرزوقي إلى الطرد النهائي من كلية الطب سنة 2000، ثم سجنه لإسكات صوته.

للمرزوقي العديد من المؤلفات في الطب، والأدب، وحقوق الإنسان. هذه الحمولة الثقافية والفكرية المتعددة والمتنوعة المرجعيات هي التي أعطتنا مفكرا ملتزما بقضايا المجتمع، وصوتا فريدا في الدفاع عن حقوق الإنسان، ورئيس دولة متفردا وغير مسبوق في السياسة العربية.

الغريب في شخصية المرزوقي أنه ضعيف جدا في المواقف الإنسانية، يتفاعل معها بتلقائية، وبقلب مرهف، وبروح شفافة،…بالرغم من أن تكوينه كطبيب من المفروض أن يكون قد تعود على المشاهد المألمة، ولكن العمق الإنساني، والروح الشفافة، وحبه للخير والإنسانية يفوق قساوة المهنة. حينما بكى الرجل متألما لما وقع لمرسي، وهو الذي خبر قساوة السجون، والحبس الإنفرادي في الزنزانة، وكل أشكال التعذيب والحرمان من العلاج، وطرق التفنن في الموت البطيء، وخاصة حينما يكون السجان لا ينتمي إلى فصيلة الإنسان.. حينما بكى المنصف متأثرا بما حدث لمرسي أبكانا معه، لأنه لا يفتعل البكاء، ولا ينحاز إلى دغدغة المشاعر، ولا يستعد لحملة انتخابية أداتها الخداع، بل يعبر بصدق عن إحساس رهيف يؤشر على إنسانية الإنسان فيه. دموع الرجال غالية.. ودموع هذا العربي المسلم الصادق أغلى.

الكثير من الناس ينظرون إلى المنصف المرزوقي أنه كان رئيس دولة تونس وكفى، والقلة منهم يعرفون أن الرجل يجر وراءه تاريخا نضاليا، وتجربة غنية ومريرة في نفس الآن، ودراسة أكاديمية رفيعة جعلت منه استثناء في صفوف الحكام العرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.