قراءة لـ (ق ق ج ) ” ذبول ” للقاص جمعة الفاخري / ليبيا


القاص جمعة الفاخري

   طالما قلت في مقالات سابقة ،إنّ الـ (ق ق ح) تبئيرية بشكل واضح، فحجمها الضّئيل، لا يتسع لحيثيات و لواحق، و أسباب و خلفيات.عمادها الأساس التّركيز على الحدث كعنصر أو مكوّن يشكّل بؤرة السّرد.
فالتّبئير (Focalisation) و إن كان في باقي الأجناس السّردية الأخرى، بما في ذلك المسرح ..إلا أنّه في الـ (ق ق ج) أوضح و أبين. لدرجة أنّه يُشكل قرينة (Indice) للـ (ق ق ج). لمدى تركيزها، و صغر حجمها، و له مُرادفات متداولة منها:( “الرّؤية السّردية ” أو “وجهة النّظر” أو” زاوية الرّؤية ” أو “الجهة” أو “المنظور..”   و ذاك ما سنحاول الوقوف عنده من خلال تحليل نص ” ذبول ” للقاص جمعة الفاخري.
1 ــ النّـص :

     عَلَى الكُرْسِيِّ الخَشَبِيِّ البَاهِتِ، جَسَدُ عَاشِقَةٍ يَسْتَحِيلُ صُرَّةَ انْتِظَارٍ بَاهِتَةً..!فِي يَدِهَا وَرْدَةٌ فَرَّتْ عَنْهَا نَضَارَتُهَا تَتَمَاهَى مَعَ المَقْعَدِ البَاهِتِ.. اِلانْتِظَارُ يَحْفُرُ أَعْمَاقَهَا بِأَزْمِيلِ الخَيْبَةِ الحَادِّ.. نَظَّارَتُهَا تُدَارِي دَمْعَ هَزِيمَةٍ يَجْرَحُ خَدَّهَا ..الْمَكَانُ يَبْهَتُ .. والحُبُّ وَالرَّجَاءُ ..تَتَلَفَّتْ يُمْنَةً وَشِمَالاً ..غُرَابٌ عَابِرٌ يَزْرَعُ السَّمَاءَ نَعِيقًا ..تَحْتَوِيهِ بِعَيْنَيْهَا .. تَبْصَقُ وَرَاءَهُ نَفْثَةً حرَّى  .. الشَّمْسُ تَدْلُقُ دَمْعَةً أُرْجُوَانِيَّةً تُنَاكِدُ مَقْعَدًا بَاهِتًا .. وَوَرْدَةً بَاهِتَةً .. وَدَمْعَةً عَلَى خَدِّ عَاشِقَةٍ تَسْتَحِيلُ صُرَّةَ انْتِظَارٍ بَاهِتَةً..!
اجدابيا/ 9/1/2018م


   النّص كما نلاحظ، جاء في ست و سبعين كلمة. و كان من الممكن أن يكون أقل، و لكن القاصّ تعمّد التّكرار ليرسخ دعامة التبئير و يوطدها في ذهن المتلقي. فالنّص رومنسي، بحمولة عاطفية جريحة. و قد جاء في مقاطع ثمانية متفاوتة الطّول..

2 ــ العنوان : “ذبـول”

من ذبَلَ يَذبُل ، ذَبْلاً وذُبولاً ، فهو ذابل. نقول: ذبَل الزَّرعُ ذهبت نداوتُه ونضارتُه و منه: ذبَلت أوراقُ الشَّجر، و مجازاً يقال:ذبَل الإنسانُ أو الحيوانُ : بمعنى  ضمُر وهُزِل، و فقد نشاطَه وحيويَّتَه ، و منه : ذبول الوجه أي : شحوبُه، و جِلْدٌ ذابل: مُتجعِّد مُتغضِّن..و ذبَلت عينُه، أي: فقدت بريقَها..عموماً الذّبول هو التّغير للأسوء نتيجة ظروف داخلية أو خارجية، أو هما معاً.

3 ــ في دلالة النّص:
1/3ــ  [ عَلَى الكُرْسِيِّ الخَشَبِيِّ البَاهِتِ..] بداية مكانية، جلوس على كرسي، يبدو أنّه قديم ، فقد لونه الأصلي فأصبح باهتاً.
2/3 ــ [جَسَدُ عَاشِقَةٍ يَسْتَحِيلُ صُرَّةَ انْتِظَارٍ بَاهِتَةً! ] فوق الكرسي الباهت تكوّم جسدُ عاشقة، طال انتظارُها ، حتّى أمستْ كصرّة باهتة، أي كخرقة قماش تجْمع فيها الملابس و تشدّ. دليل على ما أمضته من وقت في الانتظار، حتّى ارتَخت أعضاؤها، و كأنّها فقدت كلّ حيوية اللّحظات الأولى من الانتظار.
3/3 ــ [.. فِي يَدِهَا وَرْدَةٌ فَرَّتْ عَنْهَا نَضَارَتُهَا تَتَمَاهَى مَعَ المَقْعَدِ البَاهِتِ..  ] كانت بيدها وردة سرعان ما فقدت روّاءها و نضارتها و أصبحَ لونُها كلونِ الكرسي القديم، باهتاً، و في ذلك مؤشر آخر على طوال مدّة الانتظار.
4/3 ــ  [اِلانْتِظَارُ يَحْفُرُ أَعْمَاقَهَا بِأَزْمِيلِ الخَيْبَةِ الحَادِّ ] صورة شعورية لما تعانيه العاشقة منْ انتظارها الذي تمادى و كأنّه بغير نهاية، حتّى أصبح له أثر في أعماقها، تبلور خيبة، و إحساساً بالاهمال، و عدم الوفاء…
5/3 ــ [نَظَّارَتُهَا تُدَارِي دَمْعَ هَزِيمَةٍ يَجْرَحُ خَدَّهَا.. ] صورة شعورية أخرى، توضح مدى ما ينتابها، من أحساس بالقهر و الهزيمة، و شعور أسود نتيجة الخيبة المريرة، حتّى اغْرَورقت عيناها بالدّمع، تحاول جاهدة اخفاءه، و يأبى إلاّ أن يخضل خدّها كجرح نازف.
6/3 ــ [الْمَكَانُ يَبْهَتُ .. والحُبُّ وَالرَّجَاءُ ..تَتَلَفَّتْ يُمْنَةً وَشِمَالاً ] كلّ شيء أصبح في لون باهت ، لون الذّبول، و الإحساس بنهاية الأشياء، فالمكان فقد ألوانُه فجأة، و الحبّ و حلمه الوردي ذبل، و الرّجاء و أحلى الأمنيات.. كلّ ذلك أصبح باهتاً مُمتقعاً…ما جعلها في اضطراب.تنظر يميناً و شمالا عسى مجيئه فجأة يُبخّر كلّ تلك الهواجس التي أتلفت كلّ جميل، و نضير، و ندي..
7/3 ــ [غُرَابٌ عَابِرٌ يَزْرَعُ السَّمَاءَ نَعِيقًا ..تَحْتَوِيهِ بِعَيْنَيْهَا .. تَبْصَقُ وَرَاءَهُ نَفْثَةً حرَّى] التفاتاتها  المتفحّصة لم تهدأ ، و توتّرها ازداد و تفاقم بمرور الوقت و بخاصّة عبورغراب أسود يرسل نعيقاً مُزعجاً، تتابعه بعينيها الدّامعتين بغيض و غضب ثمّ ترسل زفيراً حاداً حاراً، كأنّها تريد التّخلّص من كومة جمر بداخلها…
8/3 ــ [الشَّمْسُ تَدْلُقُ دَمْعَةً أُرْجُوَانِيَّةً تُنَاكِدُ مَقْعَدًا بَاهِتًا .. وَوَرْدَةً بَاهِتَةً .. وَدَمْعَةً عَلَى خَدِّ عَاشِقَةٍ تَسْتَحِيلُ صُرَّةَ انْتِظَارٍ بَاهِتَةً..!] صورة تعمّق الإحساس بالزّمن و طول الانتظار، ها هي ذي الشّمس تأذنُ بالمَغيب، و قد اصفرّت واحمرّت فأصبحت أرجوانية تناكد المقعد القديم الباهت، و ترسلُ ضوءَها الشّاحب على وريقات الوردة الباهتة ، و تنعكس أشعتها على دمعاتٍ لعاشقة تكوّمت ألَماً و حسرةً كصرّة باهتة .
4 ــ المكونات الفنّيـة :
1/4 ــ التّبئير، و نعني به تقليص حقل الرّؤية عند الرّاوي، و حصر كلّ المعلومات في مجال هذه الرّؤية و قد جاء تبئيراً خارجياً في غالب المقاطع. لأنّ الرّاوي أو القارئ لا يعرف كلّ شيء عن المَروي عنها، كما هناك تركيز على الوصف الخارجي:( وصف الكرسي ، العاشقة ، الوردة، الغراب ، الشّمس، الدّمع)، و رغم كلّ الإيحاءات الواردة في النّص فالرّاوي لم يَسبر أغوار العاشقة ، أو يَصل إلى ما يدور في خلدها من قرارارت، فكلّ ما أتى به نتيجة رؤية خاصّة خارجية. فهو شبيهٌ بمتتبع للمشهد، أو ملاحظ عن بعد ..لأنّ النّص يبقي أسئلة معلّقة، لا يَعرفها الرّاوي و لا القارئ .. الشّيء الذي يفتح مجال التّأويل ….

2/4 ــ إنّ التّبئير الخارجي للنّص اعتمد نَسقاً تكرارياً (système anaphorique) ركّز بشكلٍ مباشرٍ على اللّون الباهت.و هو اللّون الذي فقد أصله الأوّل و مال إلى التّلاشي: [ الكرسي الباهت،الصّرة الباهتة، المكان يبهت و كذلك الحب و الرّجاء، وردة باهتة،] لقد تكرّرت كلمة ( باهتة ) سبع مرّات و جاء ما يدلّ عليها مرّتين ( ذبول ، و وردة فرّت عنها نضارتها ) بمعنى ذبلت .
كما هناك تكرارالمقطع الأوّل من مدخل و بداية، إلى نهاية و خَرجة : [..جَسَدُ عَاشِقَةٍ يَسْتَحِيلُ صُرَّةَ انْتِظَارٍ بَاهِتَةً!] ← [ وَدَمْعَةً عَلَى خَدِّ عَاشِقَةٍ تَسْتَحِيلُ صُرَّةَ انْتِظَارٍ بَاهِتَةً!]


3/4 ــ نلاحظ أنّ التّبئير الخارجي تقنية مُلاحظة و تَركيز، فلقد حصر الرّاوي كلّ المعلومات في جسد العاشقة، لأنّه ينطلق من هذا الجسد الذي أنهكه الانتظار : [ جسد عاشقة.. في يدها.. الانتظار يحفر أعماقها.. نظراتها .. دمع هزيمة.. يجرح خدّها.. تلتفت.. تحتويه بعينيها..دمعة على خدّ عاشقة ..]

4/4 ــ التّبئير الخارجي و توظيف الاستعارة و المجاز.الملاحظ أنّ الرّاوي لم يلجأ إلى اللّغة المعيارية، خوف أن يَسقط النّص في لغة التّقرير و المباشرة، فتفاديا لكلّ ذلك ، وظّف لغة فنّية، شاعرية، بليغة..
[..صُرَّةَ انْتِظَارٍ بَاهِتَةً!، وَرْدَةٌ فَرَّتْ عَنْهَا نَضَارَتُهَا ، .. اِلانْتِظَارُ يَحْفُرُ أَعْمَاقَهَا، .. نَظَّارَتُهَا تُدَارِي دَمْعَ هَزِيمَةٍ،.. يزرعُ السّماء نَعيقاً، الشَّمْسُ تَدْلُقُ دَمْعَةً..]

5/4 ــ التّبئير و الرّمز. النّص اعتمد إشارات رمزية مختلفة:
ــ  ف (الكرسي الخشبيى الباهت) رمز ضمني للعلاقة العاطفية بين العاشقين و مدى قدمها، و ارتباطها بهذا الكرسي، هذا من جهة،  و من جهة أخرى إضفاء جو رومنسي مكاني، فالأشياء القديمة تبثّ الحنين، و تثير الإحساس بماضي السّنين..فضلا على أنّها شاهدة على ذكريات، و أماني  و أحلام ..
ــ (وردة فرت عنها نضارتها) رمز استعاري لتسرب الزّمن، و تلاشي الوردة في انتظار بلا جدوي، إن الذبول لم يكن في لحظات، و لكن في ساعات طويلة، أوشكت على الغروب..
ــ (الانتظار يحفر أعماقها ) رمز للمعاناة النّفسية، في التّرقب، و الانتظار، و الهواجس، و التّهيؤات..و القلق، و الحيرة.. كلّ ذلك كان يضرب عميقاً في نفسها المضطربة..
ــ (غُرَابٌ عَابِرٌ يَزْرَعُ السَّمَاءَ نَعِيقاً .) الغراب هنا رمز للتّشاؤم، و فقدان الأمل، و الغراب كما هو في القوميس العربية: “جنْس طيْرٍ من الجواثم ، يطلق على أَنواع كثيرة ، منها : الأَسود، والأَبقع، والزَّاغُ ، والغُدَاف ، والأَعصم والعرب يتشاءمون به إِذا نعق قبل الرّحيل ، فيقولون : غراب البَيْن : و هو  مَا  يُتَشاءم به لأنّه نذير الفرقة ، مَنْ يُنذر بسوء أو بمصيبة في كلِّ مناسبة،  ويُضرب به المثل في السّواد ، والبكور ، والحذر ، والبُعد ؛ يقولون : بَكَّرَ بُكُورَ الغُرابِ ، و يقال : أبطأ من غراب نوح [ مثل ]: يُضْرَب في التأخُّر والإهمال ،

و في النص ـ فعلاـ تأخر و إهمال. و ذكر الغراب رمزياً و وفقاً لما ذكرنا انعكاس للحالة النّفسية القلقة، المتشائمة التي جعلت كلّ شيئ يفقد لونه و يستحيل باهتاً. الشّيء الذي جعل العاشقة (تَبْصَقُ وَرَاءَهُ نَفْثَةً حرَّى)..

6/4 التّبئير من آخر الحدث.المتلقي لا يعيش فترة الانتظار الأولى حيث الأمل في اللّقاء، و لكن السّارد إختار آخر ما انتهى إليه الحدث، حين فقد الأمل، و عمّ التّشاؤم، و القلق، تنم عن ذلك البداية، التي كانت هي النّهاية، محققة مستوى تقنيا يغني عن أشياء أخرى، يمكن تخيلها، بمعنى أنّ القاص وظّف خاصية الإضمار. وفسح المجال للتّمثلات (Représentation)..

  إنّ التّبئير الخارجي في هذا النّص القصصي، جعل المتلقي يعيش زمن الانتظار ، و ما يعتريه من قلق و اضطراب، و هواجس، تصبح فيه الدّقائق ساعات، و السّاعات كأنّها أيّام.
كما أنّ النّص يعمّق الإحساس بصعوبة الانتظار، و ما يسببه من إخفاق، و إحباط، و ألم و بخاصّة إذا كان بنكهة الإهمال و اللاّمبالاة يقول باولو كويلو :” الانتظار مؤلم والنّسيان مؤلم أيضاً، لكن معرفة أيّهما تفعل هو أسوأ أنواع المُعاناة.” و للروائية أجاتا كريستي رؤية في الانتظار و ما ينجم عنه من ترقب و غيرة ، تقول: ” إنّ الغيرة ليست مسألة في العادة، بل إنّها بالأحرى.. كيف أعبّر عن ذلك؟ إنّها أكثر جوهرية من ذلك؛ إنّها تعتمد على معرفة المرء بأنّ حبّه غير مُتبادل. و هكذا يستمر المرء في الانتظار و التّرقب و التّوقع منتظراً أن يتحولَ المحبوب إلى شخص آخر”.
ختاماً ، ملاحظة من حيث الشّخصية/ البطلة ، لو كانت رجلا كان ذلك أقرب إلى الواقع، فالمألوف أنّ العاشق هو من ينتظر بالورد.

      فهنيئاً للقاص جمعة الفاخري بهذا النّص النّفسيّ بتأبيره الخارجيّ، و رمزه و إيحائه الذي جعله نصّاً مفتوحاً (Souptable) لقراءات مُختلفة،  إنّه أخذ لقطة حياتية يومية  “الانتظار” و نسج من خيوطها مشاعر و إحساسات إنسانية، كشفت في صور شاعرية، سردية ،عن ألمِ، و صعوبةِ، و قلقِ الانتظار. و بخاصّة انتظار الذي يأتي و لا يأتي…

تحياتي / مسلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.