لغة البياض في ( ق ق ج) (2)

لغة البياض في ( ق ق ج)

(2)

إنّ من تقنيات الكتابة القصصية توظيف لغة البياض. و هي لغة حقاً ترتسم في ذهن القارئ. لا على الورق، و لا كتابة من القاص. و لكن يوحي بها السّارد. لغة أشبه ما تكون بالوحي، أو أحلام اليقظة ، أو الخواطر التّأويلة التّأمّلية..

لغة البياض ليست خاصّة بجنس أوفنّ مُعين، فهي في كلِّ الأجناس السّردية، كما هي في الشّعر، و الفنون التّشكيلية، و السّينما.. لغة مقصودة فنياً، لتفسحَ المجال رحباً لخيال المتلقي. كي يسبح بعيداً في خضم تساؤلات ، و افتراضات ، و تأمّلات ..و كأنّها دعوة صريحة له ، للمشاركة في عملية الكتابة الإبداعية، بدل السّلبية و الاستهلاك فقط..

حقاً إنّ تقنية البياض ــ و بخاصّة في القصّة القصيرة جداً لصغر حجمها ــ قد تشوّش الفهم، و قد تربك القراءة الخطّية للنّص، و بخاصّة عند البعض الذين لم يألفوا هذا الجنس في تركيبه و بنائه. و لكن مع ذلك، فلغة البياض التي تجسّدها نقط الحذف.. تساعد في الإيجاز و التّكثيف و الإيحاء..إذ يجد المتلقي نفسه في حوار افتراضي، تخييلي تأويلي.. مع شخصيات صامتة، و حيثيات، و علامات سيميائية يوحي بها سواد النّص. الشّيء الذي يؤدّي إلى إثارة فكرية ، و عاطفية، لا تخلوا من تلاؤم، و تنافر وفق السّياق العام، و فكرة النّص. الشيءُ الذي يكون من شأنه خلق خلخلة في مسلّمات المتلقي، الذي يَشعر من حيث لا يدري أنّه انتقل من قارئ عادي، إلى قارئ مهتم يَعنيه أن يترصّد معرفة الحدث، كيف نشأ، و تطور، و انتهى.. و ماذا بعد ذلك؟ أي يصل إلى مستوى الاسْتشراف، و كأنّه يمدّ الحدث الأساس بأحداث تكميلية. تجعل النّص القصير جداً ينطوي على رواية كاملة..

إذاً، لغة البياض في القصّة القصيرة جداً، محاولة لإنتاج المعنى الغائب. الذي يصرّ القاصّ ألاّ يكتبه واضحاً، كما يُكلّفُ السّارد ألا يبوح به تصريحاً، بل يُترك ذلك لخيال المتلقي، يعيه بفهمه و استنتاجه، وخياله و تأويله …و من ذلك تخيّل طباع و نفسيات، و صفات شخصيات، واستحضار أفكار و تمثلات.. من رحاب المتخيل الدّينيّ، و الفكريّ، و الشّعبيّ.. فضلا عن استكشاف أشياء كالمسكوت عنه (Le non dit) بكلّ ما تتسع له الأنسكولوبيديا الجنسية..

و لغة البياض لا تنشأ من فراغ، بل أساسها الحذف، و الإضمار، و تجنب السّارد الثرثار.و يُستحسن عدم الإكثار منها في النّص الواحد، كما لا يجب إهمالها. لأنّها الحقّ الاسْتكشافي ( Spéculative) بالنّسبة للمتلقي ، و بالتّالي فهي احترام لذكائه، و فهمه…لأنّ مسألة توزيع البياض و إن كانت أوضح في القصّة القصيرة و الرّواية.. فإنّها في القصّة القصيرة جداً خليقة بإضفاء قوّة دلالية و إبلاغية..

لكن مع الأسف، أنّ بعض القاصين يوزعون البياض كما اتّفق.حتّى تصبح نقط الحذف في كتابتهم تقوم مقام الفاصلة (،) ولقد رابني في مسابقة للقصة القصيرة جدًا، حيث جُرّد النّص من كلّ مقوماته السّردية الأساسية، ولم يُبق القاص فيه إلاجملتين اثنتين. الشّيء الذي أبعده كلّ البعد أن يكونَ قصّة مُستوفية لشروط القصّ. و مع ذلك رحّبت به اللّجنة، ورشّحته للرتبة الأولى! و انصبّت التّهاني والتّعاليق تشيد بالنّص و ما فيه من بياض. و في هذا خلط كبير بين البياض كتقنيةٍ فنّيةٍ هادفة. تنبثق كتكملة لسياق قصصيّ ..و بياض سببه المبالغة في الحذف، رغبة في الإيجاز، و الاختصار. و لو على حساب قصصية النّص. مع أنّ الهدف الأسمى، هو المتعة السّردية، و لذّة الحكي .. و ليس الحذف من أجل الحذف، أو البياض من أجل البياض..

تحياتي / مسلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.