د مسلك ميمون
استهلال :
الشاعر عبد السلام مصباح ،ولد بشفشاون بتاريخ 21 مارس سنة 1947, تابع تكوينه بمدرسة المعلمين بسطات، وحصل على الأهلية التربوية 1972. التحق بالمركز التربوي الجهوي بآسفــي وأحرز على دبلوم السلك الأول سنة 1984.
بدأ النشر عام 1966 بجريدة العلم. يشمل إنتاجه الكتابة الشعريـــة والترجمة عن الإسبانية. نشر أعماله بالعديد من الصحف والمجلات المغربية والعربية: المحرر، الاتحاد الاشتراكي، العلم، البيان، أنوال الثقافي، الموقف العربي، إبداع (مصر)، الآداب الأجنبية ، الثقافـــة (سوريا)، الأقلام، الطليعة الأدبية، فنون (العراق)، الآداب (لبنان)، الثقافة العربية (ليبيا)، البيان (الكويت)، الملايين، أوراق، القـــدس العربي، الشرق الوسط (لندن).
ترجمت بعض أعماله إلى الإسبانية والفرنسية. وخصص لترجمته المستشرق الإسباني فرناندو دي أغريدا ثلاث دراسات قدمت في المغرب وفي إسبانيا.
ديوان ” تنويعات على باب الحاء ” آخر ديوان نشره الشاعر عبد السلام مصباح سنة 2011 في مطبعة دار القرويين بالدار البيضاء بغلاف سموي اللــــون من تصمي الشاعر نفسه يضم ثمانية عشر قصيدة منها قصيدتا نثر و هما اعتراف ص 13 و بطاقات إلى المدينة الفنيق ص111 و باقي القصائد تخضع لنظـــــام التفعيلة .
و يهمنا من دراسة الديوان الجانب الأسلوبي، و بخاصة ظاهـــــرة التكرار التي لا تكاد تخلو منها قصيدة . و قبل الخوض في ذلك نشير أن أسلوب التكرار في الشعر قديم يعود إلى العصر الجاهلــي، و مـا قالته العرب في خطبها و أسجاعها و أشعارها كما نجده في الأحاديث النبوية الشريفة ، و القرآن الكريم .. و يؤتى به لا على سبيل الإطناب و الإسهاب .. و لكن لغاية أسلوبية بلاغية :كالتحريض، أو التّوكيد، أو كشف لبس ، أو إبعاد، الرتابة والملل. …
كما نجده في الشعر الحديث ، الذي جاء نتيجة ظروف موضوعية أعقبت الحرب العالمية الثانية، ففي ذلك تقول نازك الملائكة : ( جاءتنا الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بتطور ملحوظ في أساليب التعبير الشعري، و كان التكرار أحد هذه الأساليب ، فبرز بروزاً يلفت النظر ، و راح شعرنا المعاصر يتكئ عليه اتكاء يبلـــغ أحياناً حدوداً متطرفة ، لا تنمّ على اتّزان . )[i]
ففي قصيدة ” حوار ” للشاعر صلاح عبد الصبور مثلا، نجده قد كرر ” أأنت من سكان هذه المدينة!” ست مرات ،و نزار قياني في قصيدة” الحزن”كرر علمني حبك” على رأس كل مقطع ، و بدر شاكر السياب في قصيدته ” مطر” ، كرر كلمة مطر ستة و عشرين مرة. و محمود درويش في قصيدته”أنا آت إلى ظل عينيك آت”، كرر هذه الجملــة ” ست مرات .
و لأهمية التكرار الأسلوبية و البلاغية ،اهتمت به الدراسات القديمة و المعاصرة إذ “… يبدو تكرار العناصر المعطاة في الخطاب الواحد ضروريا لكونه يسهم فيتكوينه الداخلي” [ii] و إن كان النحويون قــــد اهتموا بالتكرار فقط من جهة التوكيد اللفظي . أمّا البلاغيـــون فقـــد أولوه عناية خاصة ،أظهرت ميزته ، و خصائصه في الخطاب الأدبي و الشعري منه بخاصة يقول د محمد مفتاح : (إن تكرار الأصــــوات والكلمات ، والتراكيب ليس ضروريا لتؤديَ الجملُ وظيفتَها المعنوية والتّداولية .. ولكنه ( شرط كمال) أو محسِّن أو لعب لغوي..)[iii] ويضيف قائلا:( ومع ذلك فإنّ التكرار يقوم بــدور كبير في الخطاب الشعري أو ما يشبهه من أنواع الخطاب الأخرى الإقناعية…)[iv]
بعد هذا الاستهلال ،ماذا عن وجوه التكرار في ديوان : ” تنويعات على باب الحاء ” للشاعر عبد السلام مصباح ؟
1 ــ التكرار في شكل لازمة قبليــة :
القصيدة عند الشاعر عبد السلام مصباح، تكتب في مقاطع مختلفــــة الطول و العدد من قصيدة لأخرى، و كلّ مقطع يحافظ على لازمة ، أو مطلع يتكرر:
مثلا في قصيدة ” ارتجاح العشب الأخضر ” نجد أربعة مقاطع مختلفة الطول،و لكن تتصدر كلّ مطلع منها العبارة التالية:( سيدتي،من عمري الباقي جئت إليك .)
بمعنى أنها تكرّرت أربع مرات.نفس الشيء في قصيدة “عيد ميـلادك” حيث تكررت على رأس المقاطع الأربعة عبارة ( نورستي فـــــــــي ميلادك ) ، ففي قصيدة ( طموح ) التي تتكون من مقطعين ، يتصــدر المقطع الأول قول الشاعر :
سيدتـــــي ،
انّ طموحي محدوداً جداً / و بسيطاً جداً .. /كان طموحي /أن نختارَ اللحظات السكرى / و نناوش حلماً / يتلاطم في صدرينا …..
و يقول في مطلع المقطع الثاني :
سيدتي ، / كان طموحي / أبسط مما تتصورين، / كان طموحي مثل جميع البسطاء / بهذا البلد.. / أن نجلس في المقهى / و نصفق للنادل / نطلب فنجانين من الشّوق / و بعض شرائح / من خبز الوقــــت…)
و في قصيدة ” حلم ثان”يتكرر هذا المقطع الفعلي : ( أحلـــم ..أحلــــم بامرأة قادرة ) ست مرات .و تتكرر عبارة ( جموع الأحبة) في قصيدة “بطاقات إلى الغاوين ” ست مرات .و الغريب أنها نفسها أي ( حموع الأحبة ) تتكرر أربع مرات في قصيدة ” بطاقات لأبي الجعد ” بينمــا في القصيدة الأخيرة في الديوان ” الطفل القدسي ” تكررت اللازمـــة القبلية ( نام محمد ) إحدى عشرة مرة .
و كما تأتي اللازمة سطراً شعرياً كاملا ،تأتي كلمة واحدة كما هو في قصيـــــدة “ممثلة ” إذ تكررت كلمة ” سيدتي ” خمس مرات. و فـــي قصيدة ” سيدتي تفتح للعشق خزائنها ” أربع مرات . و نفس الشيء في قصيدة ” بطاقات إلى شاعرة ” بينما تحقق قصيدة ” مرسوم ثان “أكبــر عدد من تكرار اللازمة القبلية في كلمة ( ممنوع ) إذ تكررت احدى عشر مرة و مجموع تكرار الكلمة في القصيدة و تصديـــــــر المقاطع بلغت ثلاثين مرة . بينما في قصيدة ” بطاقات إلى المدينـــــة الفنيق ” تتكرر كلمة ( حسيمة ) أربع مرات .
و هذا ما يسمى باللازمة القبليــــة ، لأنها تتصدر المقطع كجملة شعرية أو لفظة تحقق الوقع الدلالي و الإيقاعي معاً، على شكل فواصل .
2 ــ تكرار في شكل لازمـــة بعديــــة :
و هناك اللازمة البعدية ، أي أن المقاطع في القصيدة تنتهي بلازمة سواء على شكل شطر أو كلمة ، و قد تجمع القصيدة بين اللازمتين القبلية و البعدية كالذي نجده في قصيدة : (زيارات) ص 69 فاللازمة القبلية في هذه القصيدة هي :(كانت تأتيني …) بينما اللازمة البعديــة فهي كلمة ” تَرحلُ ” و هي في نهاية كل مقطع .و كلاهما القبلية أو البعدية ، تتكرر في هذه القصيدة خمس مرات.
3 ــ التكرار في شكل اســـــــم :
أحياناً كثيرة يكون للاسم ، أو جملة من الأسماء، أثر السّحر في قريحة الشّاعر. فيكتب قصيدة من عدّة مقاطع ، و كأنّه يبحث عن لباس شعري لتلك الأسماء التي تسكنه، و تؤثر في نفسه ، و تثير مشاعره . و هذا ما نلمسه في بعض قصائـــــد ديوان ” تنوعات على باب الحاء ” لنتأمل وقع و تكرار هذه الأسماء ( سيدتي / 2، كتاباتي/2 ، منتصف/2 ،امرأة/ 3، أزهار2 ) و ذلك في قصيدة ” اتهام ” ص 25 و قد جاء ذلك في القصيدة ، بشكل من التكرار الفني الذي يحقق المعنى في إطار من الإيقاع :
” سيدتي ، / قالوا إن كتاباتي…/ كلّ كتاباتي / تحمل وشمَ نــزار ./ و أنا يا سيدتي ،/ جئت اليوم لأشهدك
……………
في منتصف الشارع / أو منتصف الليل .
…………
لأشكلها امرأة تقرأني/ امرأة تعبر أحلام الشّعراء/ و تعشــــــق مثلي أزهار اللوز/ و أزهار الدفلى / و رياحين /تتضوع في ملكوت الله / و تحت سرير امرأة .”
و في قصيدة ” عيد ميلادك” يتكرر اسم “نخب “ثلاث مرات و الزمن مرتين :
” نشرب نخب الزمن المتوهج / نخب الزمن الآتي/ نخب الكلمـــــة ” بينما تتكرر ثلاث مرات في قصيدة ” ممثلة ” (نحو الزمن اليابس / و الزمن المتشطر … / و الزمن المخضوب ) و في قصيدة ” بطاقـــات إلى العراق “تتكرر كلمة (سلاما ) أربعة عشر ة مرة . و هذا ما يسمى بالتكرار اللفظي ، و هو شائع في الديوان ، بل هو الأكثر شيوعاً في الشعر الحديث ، و في قصيدة النثر بخاصّة .
4 ــ التكرار في شكل فعــل :
فكما يستأثر الاسم باهتمام الشّاعر ،فقد يفعل ذلك الفعل، و الفعل يفيد الحركة و هو من الكلمات المستقلة بالفهم (Autosemantic words)كالاسم .ففي قصيدة ( تقابلات ) نجد فعل (رأى ) يتكرر ست مرات يتصدر سطوراً شعرية ، و يؤثر في المعنى ، نتأمل ذلك :
فترى حلمك ،/ هذا الناصع و الطهرَ ، / في الساحات / مباحا لمجون الألسنة ،
و ترى أزمنة الحب الباذخ / و الأنقى / تتدلى من أدراج مكائدهم ، / و ترى النبضات المُسكرة الجذلى / تنبت / تزهرُ في غير مواضعها ،/ و ترى الحرف المتــدور / حبالا من مسد / و ترى أيامك / حبك / حرفك ../ تُطحنُ في أزمنة الضعفاء / فيصبحُ هذا العالم / أضيق من كفك / و ترى لوركا / و قصائد نرودا
و الطبال / و إسماعيل .”
و نجد هذا أيضا في قصيدة” اتهام ” حين بتكرر فعل ” عشق ” ثلاث مرات :
و تعشق مثلي فجراً …./ و تعشق مثلي أزهار اللوز …./ و تعشق مثلي الحجر (المتألق في كفّ الطّفل ) و في قصيد ” ممثلة ” يتكـــرر فعل ” صفق ” مرتيــن : صفق الجمهور طويلا / صفق ..حتى سقطت كــل الأقنعة الاثنا عشرة ) و نجد الفعل يتكرر في تصدير أشطر في قصيدة ” بطاقات إلى شاعرة ” كما هو الشأن مع فعل كان في الأمر إذ تكرر اثنا عشرة مــــرة ( كوني أنت /كوني المملكة المَزروعة بالحب…. و كوني الملكة / كوني السّوسنَ / كوني الصّندل / كوني العطر / و كوني بين تفاصيل العالم …./ كوني الغيمَ الأخضر / كوني الأمطار/ و كوني السنبلة الحُبلى بالحلم / كوني طيراً…./ كوني صوت الرب ً ) .
و هكذا نلاحظ أنه بالفعل أيضاً، يتحقق التكرار اللّفظــــي ، و يحقق موسيقى داخلية تساهم في هرمونية الإيقاع الموسيقي العام في النّص .
5 ــ التّكرار في شكل حـــرف .
و نعني بذاك كلمة غير مستقلة بالفهم ( (Syntactic wods عكـــس الاسم و الفعل أي الحرف.و هو ما يعرف بالتكرار الصّوتي. فإن كان الاسم يعرض للشاعر كمؤشر لمكان أثير، أو زمان رائق جميل ،أو ذكرى حميمة لطيفة .. و الفعل ، يترجم المعنى الدفين ، و يبلــــــور الإحساس ، و يحدد الحالات، و يكشف الانفعالات .. فإنّ الحرف على العكس من ذلك فهو (اصطلاحاً) كلمة دلّت على معنى فيغيــــرها ، يحتاج إلى غيره من الكلام -اسم أو فعل- لتبيان معناه …فلماذ حُمل محمل الفعل و الاسم و اللازمة فيما يتعلق بالتكرار؟
ذلك أنّ الحرف باتصاله بغيره يحدث انقلاباً في المعنى،و يجدد الدّلالة، و يكسبها فهماً جديداً ، و إن كان النّحويون انقسموا إلى قسمين فيمـــا يتعلّق بالحرف على عكس الفعل و الاسم اللذان توافقت حولهما الآراء .ففريق من النّحويين يرى دلالة الحرف على معنى في غيره . و هؤلاء هم الأكثرية،أمّا الأقلية فترى دلالة الحرف على معنى في نفسه .
و من تمّ ورد تكرار الحرف، يتصدر الأسطر الشعرية. ففي قصائــد مختلفة من الديوان، وبغض النظر عن حرف العطف ( الواو ) الــذي يتكرر بكثرة متصدراً الأسطر في فعل ترابطي . يفيد المشاركة . فإننا نجد حرف العطف ( أو ) يتكرر في قصيدة “طموح ” ثلاث مرات كما هو في هذه الأسطر 🙁 أو نتسابق نحو الأزمنة المسكونة …./ أو بعض جدائل شعر …. / أو بين تجاويفه .) كما يتكرر حرف الجر (في ) في قصيدة ” عيد ميلادك” “تسع مرات يتصدر فيها الأسطر كما يلــــي : ( في ميلادك …./ في صفحات القلب …./ و في الرعشات الخضر …./ في ميلادك …/ و في ذاكرة الجمر …./ في ميلادك …/ و فــــي الكف …/ و في الكون …./ في ميلادك…. و ( في ) تتكرر أيضاً في قصيدة ” تقابلات ” ست مرات و في قصيدة “بطاقات إلى العراق ” ثلاث مرات و في نفس القصيدة نجد حروفا تتكرر منها الباء ثلاث مرات: ( و بالزمن الخائب …./ بك …./ بالغيم الأخضر …) و حرف اللام و يتكرر عشر مرات : ( لكَ الإكليلُ/ لك المشكاةُ / لك السدرةُ../ لك الغيمُ الدافق / لك فاكهة الزمن الآتي / و لك كف تفتح نافذة أخرى / لك بستان الله…./ لك النورسة / و لك التاجُ / لك القبلة ) .
خلاصة : إن التكرار، في ديوان ” تنوعات على باب الحاء ” لم يأت اعتباطاً أو إطناباً و حشواً أو ترفاً لفظياً …بل جاء في خدمة موسيقى النّص ، علماً أنّ التفعيلة وحدها و بخاصّة في البحور الصّافيـــــة التي تتكرر فيها تفعيلة واحدة، كالمتقارب ،و الكامل، و الرجز .. لا تحدث تناغماً هرمونياً واضحاً إلا لدى الأذن الشّاعرة ، بل تشعر برتابــــــة موسيقية ما لم يوظف الشّاعر الزّحافات و العلل لكسر امتداد الرتابة، فضلا عن التكرار الذي يغذي الموسيقى العامّة بموسيقى داخلية كما هو في قصيدة ” موسم ثان ” الذي يفــوق ذلك إلى تأكيــد و ترسيـــخ المعنى .. و بثّ شعور نفسي، هو أصلا شعور المبـدع نفسه. و كمـــا لمسنا ذلك مما سبق، لقد جاء التكرار متنوعاً بين لازمة هي عبارة عن سطر شعري ،إلى لفظة واحدة ..كما جاء التكرار يتصدر الأسطــــر الشعرية كاسم أو فعل أو حرف…الشئ الذي نجم عنه نوع من الانبهار و الدهشة الشعرية Etonnement poétique و التجانس الموسيقــي ، و التكثيف الصّوتي و الدّلالي مما مكن النّاقد و القارئ من مفتاح هــام لفتح مغالق النّص، و كشف ما يدور في خلد ، و لا شعور الشاعر …. الشيء الذي يساهم في إضاءة ملامح تجربته، و رؤيتـه للعالــم .
[i] ــ نازك الملائكة / قضايا الشعر المعاصر / دار العلم للملايين ، ط 7 ص 276
[ii] ــ رشيد بن مالك: قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص، دار الحكمة، الجزائر، 2000،ص15.
[iii] ــ د.مفتاح، (محمد)، الخطاب الشعري( استراتيجية التناص)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 1992، ص: 39
ــ نفس المرجع ص 39[iv]