قراءة لـ (ق ق ج ) ” حب ” للقاص محمد فؤاد منصور / مصر

القاص د محمد فؤاد منصور / مصر

                 قراءة لـ (ق ق ج ) ” حب ” للقاص محمد فؤاد منصور / مصر

    القصة القصيرة جداً، مازالت تطرح أسئلة البناء و التّركيب و الحجم، و بخاصّة الحجم . و كأنّ البعض يصرُّ على تحديده. كما أنّ البعض يذهب إلى تحديده في أقلّ ما يمكن من الألفاظ، بل تجرأ البعض انطلاقًا من هذا، فسمّاها الومضة القصصية، و غالى في أن جعل منها جنساً جديداً بعد القصّة القصيرة جداً. و في الحقيقة إذاما تُرك الأمر لغير ذوي الاختصاص من النّقاد و الناقدات سنسمع العجب..!!
و الذي ينبغي أن نعرفه عن الحجم في القصّة القصيرة جداً، أنّه كألة الكورديون يمتدّ إلى حدّ انتهاء النّغمة طولاً دون تجاوز الحدّ الهرموني، و يتقلّص إلى حدّ انتهاء النّغمة رقّة و انحصاراً.و الحجم في امتداده و تقلّصه بينَ بِضعةِ أسْطر، إلى نِصف صفحة. و لا نبالغ مبالغة الانجليز الذين دَعوا إلى قصّة من  ست كلمات ( Six – word story ) و نجزم القول أنّ القصّة القصيرة جداً، أصغر أنواع السّرد، ما يُعرف الآن  بالقصص المينيمالية (Des récits minimales ).
و مِن ذلك قصّة .” حب ” للقاص المصري  محمد فؤاد منصور…المغترب في أمريكا.
” سألته أما زلت تُحبني ؟
لم يرد، ومضى يدفع مقعدها ذا العجلات “

1 ) العنوان : ” حب ” كلمة في منتهى الإيجاز و الحصر تتكون من حرفين. و لغةً، الحُبُّ : الوداد.و في لسان العرب : (الحُبُّ بالضم الخابية فارسي معرب والحب أيضاً المحبة وكذا الحِبُّ بالكسر والحِب أيضاً الحبيب ويقال أحَبَّهُ فهو مُحَبٌّ و حَبَّهُ يحبه بالكسر فهو محبوبٌ و تَحَبَّبَ إليه تودد وامرأة مُحِبّةٌ لزوجها و مُحِبٌ أيضاً و الاستِحْبابُ كالاستحسان قلت اسْتَحَبَّهُ عليه أي آثره عليه واختاره ومنه قوله تعالى {فاستحبوا العمى على الهدى} واستحبه أحبه ومنه المسْتَحَبُّ و تَحَابُّوا أحب كل واحد منهم صاحبه .) و عند الفلاسفة: الميْلٌ إِلى الأشخاص أو الأشُياء العزيزة، أو الجذَّابة، أَو النافعة .

2) النّــص :

النّص من النّوع الذي يتقلّص فيه حجم القصّة إلى أبعد حدّ ، يتكون من إحدى عشر كلمة.
و ثلاثة مقاطع :
المقطع الأول :[ سألته أما زلت تحبّني ؟]
المقطع الثاني:[ لم يرد ]
المقطع الثالث [ومضى يدفع مقعدها ذا العجلات ]

نستشف من المقاطع الثلاثة، أنّ زوجةً مقعدة على كرسيها ذي العجلات ، تسأل زوجها الذي يدفع بها: هل مازال يحبّها ؟ و لكن الزّوج فضل الصّمت و الاستمرار في الدّفع.

3) النّـص و التّحليل:

المقطع الأوّل :[ سألته أما زلت تحبّني ؟] سؤال ينمّ عن خوف، و نفسية مكلومة، و وساوس متأجّجة.. هل مازال الحبّ القديم ،في صورته المشرقة، ودفئه الممتع، و آماله الحلوة…أم تغيّر مع تغير الوضع؟ أمْ ترى لم تعد أمامه إلا جسماً مُنهاراً، متعباً.. فقد نضارته و رشاقته، و أصبح عبئاً على ذاته، و على غيره..هل ما يقوم به هذا الزّوج بدافع المَحبّة و الوئام؟ أم ترى هي مُجرد شفقة عن امرأة كانت ذات يوم امرأة كاملة؟
المقطع الثّاني:[ لم يردْ ] بقي السّؤال معلّقاً. و الزّوج لم يردْ. هل سئم الرّد من كثرة ما تردّد السّؤال؟هل يخشى أن ينافقها فيقول عكس ما يدور في خلده؟ و هل ما يدور في خلده هو ما جعلَها تطرحُ السّؤال، و ربّما تكرّره لدرجة السّأم، و الملل، و التّدجّر؟ أمْ ترى صَمته كان تعبيراً عن حبّه لها، ذلك الحبّ الذي أصبحَ مشوباً بحادث غيّر مَجرى حياتهما. وأوقفَ سيل أحْلامهما و أمالهما.. ومع ذلك ماذا لو أنَّه عبَّر عن حبّه لها رغم كلِّ ما حدث؟

المقطع الثالث [ومضى يدفع مقعدها ذا العجلات ] أليس في هذا ما يدلّ على الحب؟ مازال يَخدمها، و يسهرُ على راحتها ، و يلبي مَطالبها، و يدفع مقعدها ذا العجلات، و لربّما يتجوّل بها في حدائق المدينة، أو يأخذها للمتاجر الكبرى كما كانا يفعلان ذات يوم، و هي في مُنتهى صحّتها..أليسَ في هذا إشعار لها بأنّه مازال كما ألفته في الأيّام الخالية: وفياً، رؤوفاً، خدوماً.. أم ترى كلُّ هذا ليس جواباً لسؤالها. !!

4) فنيــاً :

1/4 ــ أشياء مسكوت عنها (Things unspoken)
النّص اعتمد السّؤال و عدم الرّد عليه، لإثارة حيرة المتلقي،و تساؤله عن عدم الرّد، و بخاصّة ليس هناك مؤشرٌ نصيٌّ يمكن الاستعانة به إلى حسن الرّبط، و التّأويل، فهو نص بتركيبه، و أسلوبه.. يحثّ المتلقي على تشغيل مُخيلته، و استدعاء أقكاره، و لربّما ذكرياته، قصد تمثل الدّلالات، واستنطاق المَسكوت عنه. فهو نص بُني أساساً على “الحلقة المفرغة”( Viscious circle) و هي طريقة تحفيزية  لتنشيط ذهنية المُتلقي ليصبحَ مشاركاً في كتابة النّص.. بملء مواقع جمل الحذف، بما هو مُمكن، خِدمة لفكرة النّص.

2/4 ــ اللّغة الدّلالية (Referentical language )
اللّغة جاءت بسيطة، مُتداولة، لا غرابة فيها،  تهيمن عليها الجملة الفعلية : [سألته ، مازلت، تحبني، يرد، مضى ،يدفع ] طبعاً هذا عمل جارٍ في الكتابة القصصية القصيرة جداً، أي : اعتماد الجملة الفعلية، لأنّها على خلاف الجملة الاسمية، توحي بالحركة و الديناميكية.. و لكنّني لست من أنصار ذلك، لما أجده في توالي الأفعال من رتابة الايقاع، و التّشابه النّمطي في الشّكل (Pattern). الذي يحدث بين أعمال القصاصين في هذا المجال .

3/4 ــ الايجاز (Prolipse)
   لا شك أنّ الإيجاز سمة هذا الجنس السّردي بامتياز. و إن جاء هذا النّص مفرطا في الإيجاز.. فهذه الكتابة وفق هذا الشّكل الشّديد الضّغط و الاختصار.. تتجانس و كتابة الشّذرة و الأقوال البليغة، وكتابة  التّوقيعات الأدبية التي كانت شائعة في العصرين الأموي والعباسي فضلا عن الأمثال و الأقوال المأثورة..التي كان همّها الوحيد إيصال الدّلالة بأقلّ لفظ، و أبلغ تعبير. أمّا في مجال القصّ فيُستحسنُ الاعتدل في الإيجاز، بُغية فسحِ المجال للسَّرد و لو قليلاً، فكلّما توفرتْ سِعة السّرد نسبياً، اتَّسعت مساحة الخيال و التَّخييل. و تَأتّت مُتعة القِراءة،و بخاصّة أنَّ الذّوق العربي ميّال للحكي و استرساله بشكلٍ أو بآخر. و لهذا نجدُ أغلب روادِ هذا الجنس في مُختلف دول العالم لا تقلّ نُصوصهم عن خمسة أسْطر… إلا من يَميل منهم إلى الكتابة الشَّذرية.

4/4 ــ العصفُ الذّهني (Brainstorming)
   لاحظنا كيف أنّ هذا النّص القصير جداً، أثار في أذهاننا أسئلة.. و جعلنا نؤوّل و نستفتي خيالنا عساه يرشدنا لما يدور في خلَد البطل.الذي اكتفى بعدم الردّ عن السّؤال و دفعَ المقعد إلى الأمام.فهذا من الأساليب التي تعتمد عدمَ الافصاح و الاخبار، و فسْح المجال لنشاط الحَدس و التّخييل .. الشيء الذي تتبلور نتيجتُه في شكل تَساؤلاتٍ و إجاباتٍ و صورٍ ذهنية.. ما كانت لتحدث لو أنّ السّارد أفشى و اعترف بسرّ البطل..و كأنَّ في الأمر امتثالا للمثل الانجليزي :” الاعتراف يهدمُ الاقتراف”
(Confession lessens the impact of the wrong deed)

 4/5 ــ المعنى الكامن (latent content)
  هل أراد القاص من خلال هذا النّص اللافت، القصير جداً أن يقول لنا فقط:إنَّ زوجة مقعدة سألت زوجها هل مازال يحبّها؟  ففضل الصّمت و دفع مقعدها ذي العجلات؟ إن كان هذا فقط.. فهو وحده كاف أنْ يستوقفنا، و يحتلّ جزءاً من تفكيرنا و تدبّرنا.. و لكن رؤية القاص أبعد من ذلك ، لأنه ينشد معنى كامناً…بل معاني إنسانية، أساسها الحب. و كلّها تتمحور حول السّؤال النّصي:“أمازلت تحبني؟”لاشك أنّ كلّ متلق للنّص سيستشفّ رؤى و معاني شتّى.. حسب رؤيته و تفكيره ، و ثقافته.. و ذاك ما نسميه ظِلال المَعنى .ّ


     خلاصـة:
 النّص رغم قصره الشّديد، فيه مُتعة أخلاقية/ إنسانية، استطاع أن يشدَّ القارئ إلى عدَّة احتمالات،و تساؤلات حول ظاهرة حياتية/ اجتماعية، يُصبح خلالها أحدُ طرفي العلاقة الزّوجية ضعيفاً، معتمداً كلّياً على الطّرف الأخر، فتخامره الحيرة و الهواجسُ، هل مازال الآخر يكنُّ له نفسَ مشاعر الحبّ الأوّل. أمْ أنّ الذي حدثَ غيّر كلّ شيء.؟

One thought on “قراءة لـ (ق ق ج ) ” حب ” للقاص محمد فؤاد منصور / مصر

اترك رداً على سامي علاوي كاظم إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.