سأنتقل بكم من احتفالات النصر والبطولات والتضحيات إلى غرف المفاوضات المغلقة, وإلى مطابخ القرارات والإملاءات الدولية وما يفعل بنصر غزة وتضحياتها، واعذروني على قتامة ما سأورد كضرورة لتجنب أن تطبق علينا في لحظة نصر عزيزة وفرصة تحول تاريخية لا تعوض مقولة تشي غيفارا “الثورة يصنعها الشرفاء, ويرثها ويستغلها الأوغاد”!
كما توقع كثر, لا مفاجأة في “المفاجأة غير التقليدية لحل القضية الفلسطينية” والتي وعد بها محمود عباس عشية الهدنة, بل تكريس لأسوأ ما جرى للقضية، ويمكن تبين خطورة المسار الذي وضعت فيه القضية بتتبع خطى عباس.
ونبدأ بالتذكير بأن اتفاقية أوسلو (لا نبرئ عرفات ومن معه من وزرها) هي “إعلان مبادئ”، وأوسلو2 التي جرّت رجل عرفات لغزة-أريحا أولا بالتلويح له بلقب رئيس وطائرة رئاسية ومطار بغزة (حرثه القصف الإسرائيلي كما توقعنا وحذرنا) كانت أسوأ، ولكن “الأسوأ” من هاتين -جرى تعمد ألا يروّس باسم أوسلو كي لا يقع تحت الأضواء التي اجتذبتها مفاجأة أوسلو- هو اتفاقية عباس-بيلين التي كانت تجري بموازاة أوسلو في غرف مغلقة.
وينقل المقربون من عرفات أن عباس كان ينفخ في شخص عرفات كقائد للثورة ورأس “للدولة”، داعيا إياه للتفرغ للقضايا الكبرى وترك التفاصيل لغيره، و”غيره” هو تحديدا عباس الذي كان يتم إعداده وريثا لعرفات بعد استكمال المطلوب من الأخير مما لا يمكن لعباس تمريره, من مثل تعديل ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، وبتعديل الميثاق انتهت الحاجة لعرفات وبقيت تفاصيل موعد وكيفية التخلص منه للإتيان بعباس.. ذاك درس على عباس وغيره الاتعاظ به.
واتفاقية عباس-بيلين دخلت في التفاصيل وأظهرت الوجه البشع المخبأ في أوسلو, بل وتجلت فيها أوجه تراجع عن بعض أهم بنود أوسلو، وأدق وصف لها ما أورده الدكتور ربحي حلوم في ترويسة عرضه نص الاتفاقية على موقعه الإلكتروني: القدس في أبو ديس والعيزرية.. والأماكن المقدسة تحت السيادة الإسرائيلية في إطار صيغة “الفاتيكان”.. المستوطنات الكبرى باقية.. فترة اختبار نوايا لعشرين عاما.. والدولة المستقلة منزوعة السلاح.. إلغاء الأونروا واستبدالها بهيئة جديدة لاستيعاب النازحين.. وتوطين اللاجئين في أماكن إقامتهم دون صخب!
ولكن حتى بعض هذه العناوين السيئة جرى تراجع أسوأ عنها بعد أن صار عباس رئيسا “لسلطة” بلا سلطة مدى الحياة بعيدا عن مزاعم الشرعية والانتخاب, وتهميش منظمة التحرير وتنظيم فتح, بحيث لم يبقَ من كل هذه سوى زعم أن عباس رئيسها.
والمدقق لدور عباس يكتشف أنه “فلتر” يبعد كل القيادات الفلسطينية بوسائل تصل إلى حد تسليم خيرتهم لسجون الاحتلال باتفاق ألا يطلب الإفراج عنهم في أي صفقة أسرى, والقضاء ما أمكن على المقاومة, ومنع أن تصل منجزات المقاومة التي تتجاوزه لطاولة المفاوضات.. ويشرك العرب في الغرم ما أمكن (التطبيع والتمويل), ويحمّلهم مسؤولية ونتائج أخطر ما لا يريد أن يحمله وحده, ومنفردين إن أمكن.. ويحول دون أي محاسبة على المجازر التي تقترفها إسرائيل وعلى الدمار الذي تلحقه بالضفة المحتلة وليس فقط بغزة, بل ويحيل ذلك الدمار لصفقات “بزنس” لأسرته وحاشيته.
الأمر ليس تقصدا لشخص عباس, ولكنه بيان للحقائق والرفض الواجب لاختصار قضية وطن محتل بكامله وشعب بملايينه تحت الاحتلال أو الحصار-الاحتلالي (وجب استحداث التوصيف للتعبير عن حال غزة), أو مشرد في الشتات مهدد في هويته وانتمائه الفلسطيني بتجريمهما وكأنهما أجسام مضادة للانتماء العربي والهوية العربية.. واختصار القضية في عباس بشخصه, ينافسه دحلان بشخصه أيضا, واقتتالهما على رضا إسرائيل بات الشغل الشاغل لما كان يوما “فتح” لا أقل!
وهذا الحال كان محتما أن ينتج “غزة” بحكم قوانين الطبيعة، ولو نجح انقلاب دحلان في غزة لقامت بؤرة أو بؤر مقاومة عديدة في الضفة أو في جوارها، ولهذا اختار شارون الانسحاب الأحادي من غزة ليتفرغ لمخططه للضفة التي يسميها “يهودا والسامرة”, والذي يلزمه استئصال المقاومة من جسدها تماما، ومع هكذا تناقض مبدئي تكرس في سياسيات وامتدادات إقليمية متباينة تستحيل أي مصالحة بين السلطة والمقاومة.
رفض اليمين الإسرائيلي المتطرف فكرة المصالحة يعبر عن هزيمتهم في غزة, ولكن يجب أن نتنبه لكون الإسرائيليين الأكثر دهاء يسعون لاستغلال كون العالم ما زال تحت وهم أن “السلطة” تمثل الفلسطينيين, ويوظفون العرب لاستدراج حماس لفلترة كل منجزات غزة الأخيرة على يد عباس، وأغلبية الأنظمة متواطئة على ما يجري أو مسخّرة لخدمته بمعرفتها, وقلة قليلة بجهلها, والثانية ستدفع الثمن الأفدح، ويبدو الحال وكأنه لم يبقَ سوى دولة قطر لتعدل الميزان المائل.
وما تسرب من محاضر جلسات المصالحة في الدوحة يبرز أن العمل يجري تحت ضغط زمني على حماس وقطر، مصدره جدول لقاءات عباس المستنسخة عن سابقات كثيرة لها, ومثلها هي لن تنجز شيئا، وواضح أن جهد حماس والوسيط القطري بات ينحصر في ألا يفسد عباس الأمور أكثر.
وواضح أن هذا ما يقلق عددا من فريق عباس أيضا, كون الرجل فاقدا الحد الأدنى من الضوابط بحيث يمكن أن ينطق في أي لحظة بما يفسد أو ينقض كل ما يتفق عليه, مما يؤدي بالقضية لأودية بلا قيعان.
وقد جعل هذا حال فريق عباس أشبه بحال الحاشية فترة “جنون الملك جورج”، ولكن مع غياب مبررات أن تتراكض حاشية حماس للملمة وترقيع أهلية “جورجهم” كوننا في عصر آخر الشرعية السياسية فيه تقوم بالانتخاب في “الدول الراعية” -أوروبا وأميركا وفي إسرائيل أيضا- وعدم وجود فرصة لنجاح المخطط المطروح والذي بزعمه يجري الدفع بعامل الوقت, يؤكده كون نتنياهو -النظير المفترض لعباس- سيفقد موقعه الحالي وستتراجع بما يقرب الانتفاء فرصه مستقبلا، فيما يفرض على الفلسطينيين “ملك جورج” لا يلزم مخدعه, بل يتنقل بين عواصم وفضائيات العالم!
“المصالحة” التي يراد لها أن تعيد غزة لحكم السلطة لم تنتج حتى دفع السلطة رواتب موظفي الحكومة في غزة، والطريف أن قطر هي التي تدفع لعباس فيتلقى المال, في حين أنه حين تدفع رواتب موظفي الحكومة في غزة تمنع الأموال من الوصول.. فهل تتلخص المصالحة في لعب عباس دور بنك حصري لغزة عالي العمولة؟!
والأدهى أن الدمار الذي خلفه العدوان الأخير سيكلف غزة (ومانحيها التاريخيين) ما يزيد على كلفة تلك الرواتب لسنوات, وسيكلف أكثر إن كانت منح ومهام الإعمار ستمر عبر السلطة، أما الكلفة البشرية فلا تعوض, ولا يجوز الاستخفاف بها لأن أهل غزة والشعب الفلسطيني بعمومه صمدوا وقدموا التضحيات، فحياة مناضل واحد يفتدي وطنه، وحياة طفل بريء واحد يقتل عمدا بآلاف حيوات المحتلين والمتعاونين مع الاحتلال.
و”المتعاونون” وصف عاد للواجهة بما لا يقل عن إعدام من أدينوا به, كما في حروب التحرير في العالم كله, ومنه أوروبا وحديثا زمن الاحتلال النازي الذي بزعم فظائعه تقام إسرائيل وطنا قوميا لليهود على أرضنا، ويلزم قبل أي “مصالحة “تعريف “التعاون” مع المحتل، وأين يقع “التنسيق الأمني” المعلن وبكل تفاصيله التي نعرف مع “المحتل”!
ونأتي بما سيفعله عباس بهذا التخويل الدولي له والذي يُضغط على حماس للتوقيع عليه بعد أن تمكنت المقاومة, وبثمن فادح من تحقيق تحول تاريخي هائل في موقف العالم كله من إسرائيل لصالح الفلسطينيين، فواضح أنه كله بلا جدوى بدءا بالطلب من جون كيري اعتراف أميركا بحدود للدولة الفلسطينية تشمل كامل الضفة الغربية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية, وهو يستحيل تقديمه لعباس بالذات بعد كل التنازلات المستخلصة من السلطة عن تلك الحدود، ولن يلبيه أيضا مجلس الأمن، ناهيك عن أن يضع المجلس جدولا زمنيا واضحا لإنهاء ذلك الاحتلال.
أما تهديدات عباس بأنه في حال عدم تحقق ذلك فإن “جميع الأبواب مفتوحة لطلب العضوية في جميع وكالات ومنظمات وهيئات الأمم المتحدة وسنوقع على جميع الاتفاقيات, ونوقف التنسيق الأمني.. إلخ” فقد باتت معروفة عن عباس وتؤشر على استهتار لا يجوز من “مفاوض”, وكأن ما يتم التفاوض عليه “كيس بالة” لا تهم تفاصيل فحواه!
والحقيقة أن وقف التنسيق الأمني يقع من “آخر” قعر الكيس, ولن يقاربه عباس لأنه بصراحة بات يعني تنسيق أمنه هو! والمضحك أن تتضمن “المفاجأة غير التقليدية” التي أخرجها عباس من قبعة الحاوي أنه سيذهب لاجتماع الجامعة العربية “على مستوى وزراء الخارجية” ليطلب “دعمهم” في الأمم المتحدة!! أي أن ما يسعى له عباس هو توزيع دم “القضية” على القبائل العربية.. بل وغير العربية!
فالذهاب لمنظمات الأمم المتحدة المختطفة أو المخترقة هو استكمال لما سبق وأعلنه عباس من نيته بعد مواجهته بحقيقة مفاوضاته إلقاء “القضية” في حضن الجمعية العامة للأمم المتحدة ذاتها التي توسط لدى العديد من أعضائها كي لا تصوت على محاسبة إسرائيل على جرائمها في عدوان “الرصاص المسكوب”!
ويقول مسبقا إنه يقبل بقرار الجمعية العمومية, وهو ما يوازي “تدويل كامل فلسطين التاريخية” بطرحها في “مزاد” دولي يتيح لدول “عالمثالثية” بعضها لم نسمع باسمه من قبل أن ترحّل أيا من أزمات مديوينتها أو فسادها, أو أن تغض الدول الكبرى- التي تتحدث عن ضرورات “الدمقرطة”- الطرف عن مطالب شعوب تلك الدول الإصلاحية التي باتت السمة العالمية للعقد الحالي.
كل هذا وأكثر سيصبح متاحا بسخاء للعديد من “المزاودين” مقابل تصويتهم حسب رغبة حلقة الدول الكبرى على مصير “دائم” لقضية مضمخة بتضحيات أجيال! وهو ما يجعل إعلان عباس السابق لهذا كأحد حلوله “غير التقليدية” -التي يزعم أنه يهدد بها إسرائيل- خطوة لا سابقة لها في عالم السياسية وتنتمي فقط لعالم “المقامرة”!
والحديث عن “تدويل” القضية الفلسطينية برمتها هكذا يشمل حتما “تدويل القدس” أو ما هو أدهى, أي “التهويد” الذي تقوم به إسرائيل الآن وأشبع مقالات ودراسات، وجاء تملص عباس وسلطته من مصير “القدس” بزيارة مفاجئة إلى عمان ليضع القدس بمعنى “المقدسات” في عهدة الملك عبد الله الثاني “بشخصه”, بزعم وراثة الأخير بيعة ووصاية على المقدسات (فندت كل مزاعمها تاريخيا وقانونيا ودينيا في مقالتي “ذرائع اتفاقية القدس” المنشورة على موقع الجزيرة).
والجديد الذي زيد هنا على وعد إسرائيلي في اتفاقية وادي عربة -بأنها “عند مفاوضات الوضع النهائي ستعطي أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في الأماكن الإسلامية المقدسة”- أن عباس أضاف إليها المقدسات المسيحية في القدس، ولو جاز له وضعها في رقبة الأردن كدولة -وهو لا يجوز- لوجب رفضها كونها مسؤولية بحاجة لقوة سياسية وعسكرية بقدر تلك التي كانت لدى صلاح الدين لا أقل.
وحال العرب في الأمم المتحدة يؤشر عليه تجنب السعودية حرج الجلوس على المقعد المؤقت في مجلس الأمن وإحالته للأردن ضمن ما تحيل من مهام، وهو تصرف حكيم بالنظر لمشروع القرار الذي قدم باسم الأردن الآن, والذي لا يختلف كثيرا عن مشروعي القرار الأوروبي والأميركي.
ولأن انتظار صدور القرار طال، فيما مكوناته محسومة لتقاطع النصوص المعلنة وتطابق المواقف غير المعلنة بين العرب والغرب, يتوجب القول لاستباق ضرره إنه سيكون مستنسخا عن القرارين رقم 1850 و 1860 بحيث يجمع أسوأ ما فيهما.
وسنعود في مقالة تالية لبيان أثر “الوكالة” الممنوحة لعباس من غير الشعب الفلسطيني, من أميركا وأوروبا وإسرائيل ذاتها, واعتماده “بشخصه” ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني في صدور ذينك القرارين اللذين سيركّب منهما قرار المسخ الجديد!