من ذكريات نقد ال (ق ق ج)
في قاعة الانتظار بالمصحة كانت بيدي مجموعة حسن البقالي: (تكلم كي لا أموت ). فحين حان دوري لاحظ الطبيب المجموعة القصصية. فسألني عن مطالعاتي و اهتماماتي الأدبية.. و أخبرني بأنه يهوى الأد ب رغم اتجاهه العلمي.بل أخبرني وهو في كلية الطب في فرنسا كان يكتب شعرا و قصة. فسألته عن نوع القصة التي يكتبها ففجئت أنه يكتب ال (ق ق ح). و لكن سرعان ما زال عجبي حين تذكرت يوسف إدريس ، و مصطفى محمود ،و عبد السلام العجيلي، و شريف عابدين، و محمد فؤاد منصور، و زهير سعود، و سوزان اسماعيل .. و كلهم أطباء، إنما الذي فاجأني، أنه يكتب ال (ق ق ج) في موضوع ” الرعب” . و كنت لأول مرة أعرف هذا ..أي نعم، اعرف أن ال (ق ق ج) تتسع رغم قصرها لكل المواضيع. و كأنني كنت غافلا عن موضوع الرعب، أو كنت أستثنيه عن غير قصد. و لربّما كان في اعتقادي أن ذلك يخصّ القصّة القصيرة و الرّواية.. فحين لاحظ الطبيب اندهاشي بادر إلى القول:
سأبعث لك بعض محاولاتي على ” الواتساب”.
انتظرت كثيرا محاولات الطبيب. و لكن يبدو أنه نسي..لكثرة انشغالاته في العيادة، فالتمست له العذر . إلى أن زرته بعد أشهر للمراقبة الطبية . فوجدته حقا قد نسي الأمر . فاعتذر و ألح في الاعتذار و سجل الأمر في مذكرته حتّى لا ينسى , و في مساء ذلك اليوم بعث لي بأربعة نصوص. و كنت لأول مرة أقرأ نصوصا قصصية قصيرة جدا في الرّعب.على حد تعبير الطبيب القاص نبيل العساوي .و التي أراها تندرج في إطار الخطاب الفانطاستيكي: الغرائبي و العجائبي
(Fontastiki Speech: Exoticism and Miraculous )
(1) حالة
في الصباح عند باب العمارة، كان وجه مسودا قاتما. بعد ساعة في مكتبه وجدت وجهه استعاد بياضه المعتاد. في المساء خروجا من العمل طلب مني ان يصاحبني في سيارتي. لم نتكلم إلا قليلا طوال الطريق.. و لكن حين غادر و التفت ليودعني كان وجه كانه طلي بحبر اسود .!
حكيت الأمر لزوجتي فلم تهتم. سألت حارس الأمن في الشركة ابتسم و لم يعقب. هل وحدي أرى ما أرى؟!
في المساء، ارتفع صراخ امرأة في الطابق الرابع. هبّ سكان العمارة مندفعين، حين اقتحمنا الشقة، كانت زوجته تتشبث به تمنعه من القفز من الشرفة. و كان وجهه و جه زنجي يستعطفها أن تحلق معه.
*****
(2) القـط..
بعد الفحص الإكلنيكي، دخلنا مكتبها الأنيق لتكتب قائمة الدّواء. فوق المكتب كان يتمدّد قط أبيض. حاولت أن أصرف نظري عنه دون جدوى. كان ينظرني بنظرات غريبة، يتابع كلامي ..حركاتي .. قلت للطبيبة مجاملا:
ــ إنه قط جميل..
قمت لأمسح على رأسه. صدر منه مواء كزمجرة ..قفز من أعلى المكتب و خرج. نظرتني الطبيبة مندهشة..
في الزّيارة الموالية بعد ثلاثة أشهر، لم يكن هناك القط فوق المكتب . كانت صورته على الجدار.بنظراته الغريبة. حاولت أن أصرف نظري عنه بدون جدوي. فجأة سقطت الصّورة. و انتشر زجاج اطارها .انتفضت الطّبيبة ذعرا. نظرتني بارتياب..كانت نظراتها نظرات القط الغريبة !
*****
(3) النّفق.
كان القطار ينهب السكة الحديدية نهبا. السّائق كان متيقظا. يعلم أن مخرج النفق قبل المجطة قد يأوي إليه متشردون سكارى.. خفّف السّرعة ، ارسل تنبيها كالزّعيق.. لم يكن هناك أحد. لكن ما كاد ينهي النّفق حتّى سمع قرقعة اصطدام طمأن نفسه أنّ السكة كانت خالية.
حين وصل القطار المحطة. تفقد مقدمة القاطرة. كان هناك أثر دماء.. تقطع صوته متهدجا:
ــ …إنّ.. النّفق كان خاليا l!
*****
(4) هل كانت هناك؟
جدي وجدتي كانا يقطنان في بيتهما القديم الذي لم يغادراه رغم إلحاح والدي. ..كانت تؤنسهما عمّتي التي لا أذكرها، ماتت في ريعان شبابها. حدثني جدتي عنها و كيف كانت تعتني بالبيت. و تطبخ طبيخا في لذة الشهد..كانت على وشك ان تزف إلى زوجها. لكنّها فجأة رحلت. . تصرّ جدّتي أنّها تراها في رحاب البيت . يبتسم جدي بأسى. و ينظرني كي لا أصدق.
في ذلك المساء كنت أنام في سرير عمتي.. كنت بين اليقظة و النّوم.. شعرت بالغطاء يُسحبُ عنّي ببطء. أنرت المصباح مذعورًا !فإذا الغطاء كلّه على الأرض ..
*****
د نبيل العساوي تحية طيبة و بعد:
اطلعت على نصوصك الأربعة ( حالة ، القط ، النَّفق، هل كانت هناك؟ ) وجدتك تنعتها بقصص الرّعب.
لا أكتمك ــ و أنا المتتبع للـ (ق ق ج) ــ قد عجبت أن يكون الرّعب في هذا الابداع القصير جدًا. و إن كنت واثقا أنّ ال (ق ق ج) تتّسع لمختلف المواضيع. إنّما خيال الرّعب (horror fiction) كان و مازال راسخا في ذهني أنّه في بعض القصص القصيرة، و بشكل أوضح في الرّواية. و ذلك مع ظهور روايات الرّعب القوطي، و بخاصّة مع نهاية القرن الثّامن عشر، كالذي نجده في قّصّة : أسرار أودولفوـ (Mysteries of Udolpho) أو راد كليف ، و رواية: قلعة وأترانتو The Castle of Otranto).) فضلا عن رواية دراكولا و ما تبعها من روايات مصّاصي الدّماء، و قصّة” جاك السّفاح ” وقصّة ” الأميرة المفقودة ” في بريطانيا، وقصّة ” العائلة المرعبة ” في أمريكا، وقصّة “الأشباح ” في اليابان..
و لعلّ أهمّ ما ظهر في العصر الحديث من أدب الرّعب:
1 ذا شاينينج” (The Shining) لستيفن ” كينج.
2. دار الأشباح” (The Haunting of Hill House) لشيرلي جاكسون”
3. دراكولا” لبرام ستوكر”
4. فرانكنشتاين” لماري شيلي”
5. أمريكان بسايكو” (American Psycho) لبريت إيستون إليس”
6. المسكن” (The Residence) لأندرو بير”
7. صمت الحملان” (The Silence of the Lambs) لتوماس هاريس”
8. الموتى السائرون” (The Walking Dead) لروبرت كيركمان “
9. الشيطان وماري أن” (The Exorcist) لويليام بيتر بلاتي “
10. الحمامة السوداء” (The Black Dove) لستيفن كينج. “
و أساسُ كلّ ذلك شّخصيات غريبة الأطوار: شكلا و سلوكا ..
هذا في الأدب الغربي .أمّا أدب الرّعّب في الوطن العربي فقد بدأ خجولا، و لازال كذلك. أوّل رواية رعب تعود لسنة 1935 (الطريق إلى الجحيم ) و تعود للكاتب المصري محمد علي الذياب. و من أبرز كتاب أدب الرّعب العرب : “خالد توفيق. الرجل الذي أحدث ثورة في أدب الرّعب والخيال العلمي في العالم العربي، وفتح أبواباً من الخيال والتّشويق لم تكن مألوفة .” و من مؤلفاته : سلسلته الشهيرة “ما وراء الطبيعة” و سلسلته الأخرى “فانتازيا” و روايته “يوتوبيا”، التي نُشرت في 2008
و أغلب ما كتب في مجال الرّواية العربية باسم أدب الرّعب إنّما يندرج في إطار الأدب العجائبي/الغرائبي، و من ذلك أيضاَ جلّ نصوص القصّة القصيرة. و بشكل يكاد لا يذكر ال (ق ق ج).
دكتو ر نبيل العساوي، حين نتفحص نصوصك الأربعة : ( حالة ، القط ، النفق، هل كانت هناك )لا نجدها تبثّ الرّعب، بقدر ما تثيرالغرابة و الدّهشة ، و الشعور بحالات الفانتازية و تهويمات الخيال.. حقا الغرابة أحيانا تبعث على الخوف من المجهول. و لكن تبقى في حدودها التي يستوعبها العقل، أو يجد لها مجالا للتأويل… و في ذلك نشط النقد الحديث من أجل تأطير الأدب العجائبي كالذي نجد لدى الكاتب الفرنسي فرانز هلنس في بداية القرن الماضي و الذي خلف كتبا منها : “العجائبي الواقعي”، و “الواقعية العجائبية”، و “الواقعية العجائبية الجديدة”، و ” أساليب وسيمات”.. وكتبا أخرى تتضمن روايات ومجموعات قصصية. و عن الأدب العجائبي قال د كمال أو ديب في تصدير كتابه: ” الأدب العجائبي و العالم الغرائبي” : ” الأدب العجائبي” أو “الأدب الخوارقي”، هنا يجمح الخيال الخلاق مخترقاً حدود المعقول والمنطقي والتاريخي والواقعي، ومخضعاً كل ما في الوجود، من الطبيعي إلى الماورائي، لقوة واحدة فقط: هي قوة الخيال المبدع المبتكر الذي يجوب الوجود بإحساس مطلق بالحرية المطلقة.”
و العجائبية كما ظهرت في الرّواية بجلاء تميّزت بصنفين: عجائبية تقليدية كما هي في كتابات كل من بلزاك وميريمي وهوغو وفلوبير وموباسان .. و عجائبية جديدة مختلفة كالذي نجده في كتابات كافكا .. و روايته ” المسخ ” أو كتابات كوكل و روايته ” الأنف ” مثلا . و في كلّ ذلك خرق للواقع وللطبيعي.. في تماد إلى ما فوق الطبيعة..
دكتور نبيل العساوي ربّما كان من الضّروري هذا التّصدير بين شكلين للأدب: أدب الرّعب و الأدب العجائبي، اللذان قد يتداخلا في بعض محطاتهما تداخلا مزجيا يفرضه النّسق السّردي ، و الأحداث و ما يترتب عنها. و قد ينفصلان في جلّ المحطات:
فعودة إلى نصوصك الأربعة : ( حالة ، القط ، النّفق، هل كانت هناك؟
********
قراءة لقصة ” حالـــة ” للدكتور نبيل العساوي
حالـــة
في الصباح عند باب العمارة، كان وجه مسودا قاتما. بعد ساعة في مكتبه وجدت وجهه استعاد بياضه المعتاد. في المساء خروجا من العمل طلب مني ان يصاحبني في سيارتي. لم نتكلم إلا قليلا طوال الطريق.. و لكن حين غادر و التفت ليودعني كان وجه كانه طلي بحبر اسود .!
حكيت الأمر لزوجتي فلم تهتم. سألت حارس الأمن في الشركة ابتسم و لم يعقب. هل وحدي أرى ما أرى؟!
في المساء، ارتفع صراخ امرأة في الطابق الرابع. هبّ سكان العمارة مندفعين، حين اقتحمنا الشقة، كانت زوجته تتشبث به تمنعه من القفز من الشرفة. و كان وجهه و جه زنجي يستعطفها أن تحلق معه.
الدكتور/الطبيب نبيل العساوي
نص” حالة “هو فعلا يروم حالة ما ( Situation) تجعل المتلقي أمام شخصية غير عادية، من جهة تلون وجهها من البياض إلى السواد و العكس.. هذا من حيث الشكل. أمّا من حيث السّلوك فالشخصية قد تتصرف عادية كأي شاب في مقتبل العمر . و قد تاتيها حالة مرضية كمحاولة القفز من شرفة في الطابق الرابع رغبة في التحليق.
إذًا ،عدم اتزان الشّخصىة، يشعر بمعاناتها المرضية ، و معاناة من يعاشرها أيضا.
و السّؤال: إذا كانت شخصية النص ترغب في التحليق/ الانتحار.فماذا عن تغيير لون الوجه؟
إن تغيير لون الوجه نتيجة، كتحصيل حاصل للمعاناة المرضية. فالطب الحديث ــ كما يعلم د نبيل العساوي ــ يثبت أن تغيير لون البشرة يعود لبعض الأمراض التي يهمل معالجتها في وقت مبكر .من ذلك :
أمراض الكبد.،و مرض أديسون (قصور الغدة الكظرية).و داء ترسب الأصبغة الدموية (داء يتسبب في زيادة امتصاص الحديد) و أورام الغدة النخامية. و السّكري.. و لكن أعراض هذه الأمراض تبقى ما بقي المرض و لم يعالج كدليل عنها .إلا أ.نّ شخصية النص لا تلازم لونا واجدا . و هذا يحيلنا على مرض أخر غير عضوي بل نفسي . و إنّ ‘خرجة” النص، و رغبة الشخّصية في الانتحار، لأبلغ دليلٍ عن ذلك . إذًا، نحن أمام شخصية سيكوباتية، تعاني من اضطراب عصبي نفسي، يؤدي غالبا إلى سلوك غير اجتماعي، وأحيانا إجرامي ، عن غير قصد ..
من حيث المكونات البنيوية :
ــ المفارقة في النص : الوضع العادي مقابل الوضع المرضي.
ــ اللغة، لغة حكي،سريع و مركز، تتناول موضوعا محصورا ،لا توضح، و لا تفسّر. . تترك للمتلقي حرية التّأمل و التّأويل
فهي لغة الإحالة ((Langage de référence
ــ الرؤية السردية تبدو واضحة من خلال السيّاق, لذا لازم السّارد جانب الحياد في تحديد مسار النّص، و اكتفى فقط باندهاشه و تساؤله . ( هل وحدي أرى ما أرى؟! )
ــ السارد حاضر في النص ( Narrateur homdiegetique) كما أّنّه مشارك في بناء الحدث وجدت وجهه..طلب مني ..إلتفت ليودعني .. حكيت الأمر لزوجتي ..سالت حارس الأمن ..]
ــ كما أنّ نص ” حالة ” احتفى بالتّعبيرية السّردية حسب ما يسمح به حجم النص، و ذلك من خلال المشهدية الشّعرية : (في الصباح عند باب العمارة، كان وجه مسودا قاتما. بعد ساعة في مكتبه وجدت وجهه استعاد بياضه المعتاد. في المساء خروجا من العمل طلب مني ان يصاحبني في سيارتي.)
أخيرا نلاحظ أنّ الرّعب في النّص هو وليد الدّهشة و الغرابة ليس إلا و كذلك كل النصوص التي تعالج حالات سوسيو بسيكولوجية
في الأدب العجائبي، الغرائبي، لغرض” جعل المعنى كيانا قادرا على التّدليل” ( Mettre le sens en état de signifier) ) على حدّ تعبير كريماص:
د نبيل العساوي .
دائما في إطار موضوع ( الرّعب ) في ال (ق ق ج) فماذا عن نصك ( القط )؟
القـــــط..
بعد الفحص الإكلنيكي، دخلنا مكتبها الأنيق لتكتب قائمة الدواء. فوق المكتب كان يتمدد قط أبيض. حاولت أن أصرف نظري عنه دون جدوى. كان ينظرني بنظرات غريبة، يتابع كلامي ..حركاتي .. قلت للطبيبة مجاملا:
قمت لأمسح على رأسه. صدرمنه مواء كزمجرة ..قفز من أعلى المكتب و خرج.
نظرتني الطبيبة مندهشة..
في الزيارة الموالية بعد ثلاثة أشهر لم يكن هناك القط فوق المكتب . كانت صورته على الجدار .بنظراته
الغريبة. حاولت أن أصرف نظري عنه بدون جدوي. فجأة سقطت الصورة. و انتشر زجاج اطارها .انتفضت الطبيبة ذعرا. نظرتني بارتياب..كانت نظراتها نظرات القط الغريبة !
الجميل في نصوص د نبيل العساوي، أنه لا يتبع أسوب الاخبار إلا عند الضرورة، بل أسلوبه من النوع الذي يجعل المتلقي في حيرة من أمره، تعترضه جمل متنوعة، تحيل و لا تخبر، تلمّح و لا تفشي سرَّ المعنى ، بمعنى أنّ كتابته تثير تساؤلات. والمتلقي النّبيه الذي يستطيع تسج إجابات تأويلية، تشكّل معالم النّص. و بمعنى آخر فالقاص لا يقدم نصًّا جاهزّا للقراءة الأفقية، و الانتهاء بفهم كامل. .بل هدفه أن يجعل المتلقي يتدبَّر أمر النّص، و المشاركة في نسجه و كتابته. فهو لا يعنى بالمتلقي المستهلك الذي ينتظر الفكرة طازجة معدّة.. لنتأمل نص ( الــقــط ) و أن نراعي ما يثيره من ملاحظات و تساؤلات :
ــ (فوق المكتب كان يتمدّد فط أبيض.)
تبدو المسألة غريبة ! نحن لسنا بصدد طبيب بيطري، بل طبيب بشري. و وجود قطّ ممّدد على مكتب الطبيبة. لافت للانتباه. و باعث للغرابة و الدّهشة ..
ــ ( حاولت ان اصرف نظري عنه دون جدوى) لماذا لم يستطع السّارد تجاهل القط، و يصرف نظره عنه ؟ هل اندهش من هذا الوجود غير المنتظر؟ . أم هناك سرٌّ خفي يعيه و لا يعيه السّارد ؟
ــ ( كان ينظرني بنظرات غريبة ! تابع كلامي ..حركاتي) نظرات القط دائمًا تكون عادية مسالمة، ما لم يستفز. و لكن هنا كانت نظرات القطّ غريبة ! هل لم يتعّوّد رؤية السّارد؟ هل توجس خيفة منه ؟ و لماذا يخاف و قد تعوّد زيارة المرضى؟ و لماذا بالضّبط يتابع بنظراته الغريبة كلام و حركات السّارد ؟
ــ ( صدرمنه مواء كزمجرة ..قفز من أعلى المكتب و خرج): ما من قط إلا و يحبّ أن يلامس برفق، و يَجد في ذلك متعة و رأفة و حنانا و اهتماما.. و لكن ما حدث هنا العكس ّتمامًا. زمجرة، و الزمجرة: صوت الأسد من الجَوْف فوق الزئير؛ أو صوت الحيوان الغليظ من صدره؛ أو هزيم الرّعد الشديد.. ثمّ ما لبث أن قفز من أعلى المكتب وغادر. لم يكن الأمر عاديا لأنّ الطّبيبة نفسها نظرت السّارد مندهشة !
ــ ( في الزيارة الموالية بعد ثلاثة أشهر لم يكن هناك القط فوق المكتب ) : أين اختفى القط ؟ لعّله لم يكن في المكتب خلال الزيارة، لعلّه في أي مكان في العيادة.. أو لعلّه مات.. و ما الذي يوحي بموته؟ ( كانت صورته على الجدار بنظراته الغريبة !). و لماذا نظرات مع أنّ الصورة لا تعكس إلا نظرة معينة، و لكن نحن أمام صورة قطّ بنظرات غريبة؟ !
ــ ( حاولت أن أصرف نظري عنه بدون جدوي ) : و مرّة أخرى يتعلّق نظر السّارد بصورة القط، وبخاصّة بنظراته الغريبة !
ترى ما سرّ هذه النظرات الغريبة حتى بعد غياب القط أو موته و رحيله ؟
ــ ( . فجأة سقطت الصورة. و انتشر زجاج اطارها ) : هل كانت مصادفة ؟ أم الصّورة لم تكن مثبتة جيدًا على الجدار ؟ أم هناك علاقة خفية لا يعلم بها أحد بين عيني السّارد و عين القط حاضرا أو صورة على الجدار؟ أم ترى أنّ الامر أبعد من أن يكون مصادفة، لأنّ الطّبيبة انتفضت ذعرًا، و نظرت السّارد بارتياب، و كانت نظراتها نظرات القطّ الغريبة .
من خلال هذا، نلاحظ أنّ القاص لم يأت بنص من أجل قراءة أفقية مريحة. نص واضح بسيط مستهلك ( Texte lisible) بل على العكس من ذلك. عمد لأسلوب يثير الأسئلة ،و يبعث على الدّهشة و الاستغراب..و الميل إلى التّأويل، و الاشتغال على مخزون الذّاكرة و سعة الخيال و التّخييل.
ــ نلاحظ أن هناك تبئير ( Focalisation) أي جعل عنصر أو مكون بؤرة في الكلام . و هو هنا النظر: نظرات القط نظرات السارد ،نظرات الطبيبة و تلك النظرات الثلاث هي أساس المفارقة . نظرات السّارد التي تبدو بريئة.و لكنّها مع ذلك استفزت القط، فهل بسببها أسقطت صورة القط المعلقة؟ أم بتفاعلها ونظرات القط الغريبة. فضلا عن نظرات الطبيبة ساعة الدّهشة و الارتياب . و هذا ما يدفع المتلقي للبحث عن المدلول المؤول (Interprétant)/
ــ الخرجة غيّر متوقعة بل خرقت أفق انتظار كل ّمتلق، و ذلك بانتقال نظرات القط الغريبة إلى صاحبته الطبيبة. و كأن في الأمر تناسخ و تشكل. كما هو في الديانة الهندوسية، و الفرعونية القديمة و بعض الملل المخالفة للإسلام.. و هذا ما يدعو لتوظيف آلية الحدس و سبر أغوار المجهول. .سواء في نطاق ما هو علمي..او التوسل بما هو شائع في الخرافة (Superstition ) أو الشّعودة ( Sorcellerie ) أو المثيولوجيا / الأساطير ( Mythologiques ) و إن كان البعد شاسعا، فشتّان بين العلم الطبي، و ترهات الاعتقاد المريض.
فالنص يجمع بين الدَّهشة و الغرابة كأساس ، و بين الإحساس بالرُّعب من المجهول الذي لم يُفهم بعد، كنتيجة حتمية مترتبة..
* مسلك *