في الذّكريات موعظة (5)

     لم يسبق لي أن رأيته أو التقيت به قبل ذلك اليوم من خريف سنة 1987 و كلّ ما كنت أعرف عنه، صورته في الجرائد، و المجلات، و مجموعاته القصصية، و الرّوائية.. و خلال زيارة إلى الدار البيضاء، و في إحدى مكتباتها بحي الأحباس، التقينا مصادفة، و لم تكن مفاجأة اللّقاء بأغرب من مُفاجأةِ أنّه يَعرفني و يتابع كتابتي الأدبية في الصّحف، رغم أنّني يومئذ لم أكن بعد قد كتبتُ عن انتاجه الغزير شيئاً..فوعدني أن يُسلّمني آخر ما نُشر له ..فحدّدنا مَوعداً للقاء في إحدى المقاهي، و في الغد من ذلك، و جدته ينتظرني، و هو يحمل رواية و مجموعتين قصصيتين، إحداهما نشرت له في العراق …فتحدثنا طويلاً، عن القصّة، و هموم النّشر، و مشاكل التّوزيع،و هموم الإبداع.. و في لحظة هدوء، أخرج من محفظته ورقة و قال :
ــ أريد رأيك في هذا النّص ؟
كان نصاً قصيراً جداً، و الذي أعرف عن القاص أنّه يكتب الرّواية و القصّة القصيرة، و ما قرأت له نصاً قصيراً جداً قطّ . و لم يكن هذا الجنس السّردي قد استقام عوده في الكتابة المغربية بعد. و إن كانت بعض الومضات تظهر في الصّحف من حين لآخر ..

فلّما قرأت النّص مراراً..لم أجد فيه ما يمتّ للقصّة القصيرة جداً بأيّ صلة، أو هكذا اعتقدت، فحرت في أمري و اضطربت.. ما عساني أقول لقاص كبير، و مشهور في المغرب و على الصّعيد العربي؟! فأحسست به ينظرني بلهفة و ترقّب، و شوق لمعرفة ما سأنطق به.
فقلت بعد تردّد كبير …
ــ أظنّ.. أن هذا النّص.. ليس لك ؟!
فصمت، و لم ينبس بكلمة، و اكتفى بابتسامة بلا معنى. الشّيء الذي عمّق من حيرتي . و حاولت التّملّص من حرجي و ارتباكي، فحدثته عن القصّة القصيرة جداً في أمريكا اللاتينية، و بعض روادها كخورخي لويس بورخيس، و خوليو مورتازار، و جابريال قارسيا ماركيز… فكان يستمع إلي باهتمام، فحسبتني شغلته بموضوع آخر، و تخلّصت من الورطة و الحرج. و لكنّه عاد يسألني بإلحاح:
ــ و ما رأيك أستاذ في النّص الذي قرأته ؟
فشعرت بتحدٍّ ما شعرت به منذ زاولت النّقد، مع بداية السّبعينات، فتهربت عمداً إلى الشّكل، و البنية، و قلت:
ــ النّص بدأ بكلمة، و انتهى بها، هي نفسها، و طرح قضية غامضة، و انتهى بغموضها بشكل حلزوني ….
فانفجر القاص ضاحكاً مَرحاً…حتّى كاد يسقط من فوق كرسيه، اندهشت!
و إذا به يقول :
ــ الرّسالة وصلتْ، إنّه العبث ، حقاً أنت لم تقلها، و لكنّه العبث …حياتنا عبث، كتابتنا عبث، إنّنا عبث في عبث، ذاك ما أردت من هذا النّص العبثي.. اشعار القارئ بالعبث ليس إلا، العبث الذي يتغلغل حلزونياً في حياتنا و قيّمنا..
اندهشت..! لم أعقب، شعرت أنّني فقدت حبل الكلام، و اكتفيت بالصّمت و الابتسام..و كأنّني أبارك ما قاله..
افترقنا و لم نلتق إلا عن طريق المراسلة، من حين لآخر، إلى أن توفي رحمه الله .. و لكن، منذ ذلك اللّقاء، تعلّمت أنّ النّص،حمّال تداعيات،و أنّه يُضمر أكثر ممّا يبوح، و حتّى حين نُقرّ بأنّه لا يَعني شيئاً.. فهو لاشك ينطوي على شيء ما، لم يُفصح عنه السّارد، و لكن قد يُقرَأ من خلال السّطور، و بِنيةِ النّص ….

تحياتي/ مسلك

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.