د. أحمد العمري*
من أكبر العقبات التي مررت بها في حياتي، تجربة كلية الطب. ليس فقط لأنِّي لم أرغب في الطب كمهنة، بل لأن تعلم الطب بدا لي غريبا عن طبيعتي. فالمناهج تجبر دماغك على طرق معينة من التفكير بجسم الإنسان وعلاته، وأنا لا أجيد حفظ القوائم الطويلة من العضلات والعظام ومسببات الأعراض. كما لم يستسغ عقلي أن يحتفظ بكلمات ورموز وأرقام لا تربطها ببعضها إلا الحاجة لها عند الامتحان.
وقد اعتقدت، غرّاً، أن المشكلة فيّ فقط، ما زاد في كآبتي عبر سنين الطب الأولى. ووددت أن أترك الطب مراراً، لكن في ذاك الزمان كان هذا أشبه بعارٍ لا تمحوه السنون.
أذكر حجم القلق بانتظار نتائج المواد الثلاث في سنتي الثانية بجامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، وهي مواد حاسمة ومفصلية؛ إذ كان يُفصل من الدفعة آنذاك قرابة ربعها، فيكفيك لهذا أن ترسب في مادة واحدة كبيرة. وعلى ما أذكر، كانت نتيجة المادة الأولى 57، والثانية 60. وقد فُصل من الكلية وقتها طلبة مثابرون كانت معدلاتهم 59 ونيفا، وما احتاجوا إلا أعشاراً. وتأخرت نتائج المادة الثالثة، وارتفع القلق معها أضعافاً. وعندما رأيت رقم 66 أمام اسمي، تظاهرت بالسكون وأنا في داخلي مغتبط للغاية؛ فمعدل 61 لم يكن مفخرة يمكن أن “ترفع بها رأسك”.
أكملت كلية الطب وسنة الامتياز، ولم يدخل الطب إلى قلبي. وكنت أتوق إلى أي فرصة للالتفاف عليه والهروب من مصيره. وأنهيت الاختصاص في الجامعة الأردنية بصعوبة، تابعت هز ثقتي بقدراتي؛ وبدت صورة “الولد الشاطر الأول في صفه دائماً” بعيدة باهتة، يلفها إطار من الشك.
ثم حصل أن قبلت في مستشفى جبل سيناء في نيويورك. ومع فرحتي المتحفظة بهذه الفرصة، شعرت بالحنق عندما فشلت في تحصيل ابتعاث من الجامعات الأردنية، بينما حصل عليه كل أقراني (فيما بعد تبين لي أن ذلك كان نعمة كبرى).
في أول فترة لي هناك متدرباً، لم أفهم كثيرا مما كانوا يقولون؛ لغة وطباً. فقد كنت لا أعلم حتى أبجديات قسطرة الشرايين، ولم يسبق أن أجريت تداخلاً واحداً على مريض من قبل. وزاد في قلقي وتثبيطي رؤية زملائي في التدريب ينهون العملية من أولها إلى آخرها من دون مساعدة الاختصاصي. بداية هذه الرحلة كانت كما لو كنت أجري خلف السراب.
لكن الذين كانوا حولي كانوا صبورين معي ومشجعين لي بطريقة لن أنساها. ولأول مرة أشعر أن ما أقوله لهم مهم ولا يرتبط بحفظ قوائم وأرقام. وغدا بإمكاني الارتجال في تفكيري، واقتراح حلول قائمة على تحليل مجرد للحالة. وكان هذا ينزل لدى الاختصاصيين منزل الإعجاب، فغدوا ينعتوني بـ”الأردني الذكي” الذي يرى الأشياء بشكل مختلف. عندها تغير كل شيء.
أنا وإن كنت فشلت في حفظ المطوّلات من الأسماء والأرقام التي لا ترتبط في دماغي بشيء، إلا أني أخيرا وجدت ما يمكن أن يستثير طاقة دماغي ويسخرها في عمل يمكن أن يكون مهماً. وكان أن انتقلت بعدها إلى مستشفى أطفال بوسطن، وأكملت سنتين من التدريب فيه. وتفاجأت يوماً بعرض الإدارة علي وظيفة اختصاصي وعضو هيئة تدريس في هارفارد؛ إذ لم أكن حاصلا على أي شهادة تؤهلني لهذا، ولم يكن لدي أيا من “البوردات الأميركية”، ولم أكن مؤهلاً لها.
كان انضمامي إلى مركز تشوه الأوعية الدموية في مستشفانا نقطة تحول أخرى. فقد صرت أجلس إلى جانب علماء أنشأوا التخصص، ويعرفهم العالم بإنجازاتهم. وقد عمنا الحزن عندما كاد زميلنا عملاق الطب فولكمان يفوز بجائزة نوبل مرتين، ولكن عاجله الأجل.
هذا المركز كان منجم ذهب لمن هم مثلي. هناك أكثر من 12 ألف حالة محولة من بقاع الأرض كافة، فيها من التعقيد والتشوه ما لم يخطر ببالي قط. وكان الآلاف منهم ما يزالون يحملون تشخيصات خاطئة، أو لم يكن لهم تشخيص معروف في الطب.
بدأت رحلتي مع البحث في هؤلاء المرضى كما لو كنت مخلوقا لهذا الغرض. ولم أكن أرى أمامي سوى هؤلاء المرضى وإصاباتهم البالغة. وقد قضيت آلاف الساعات أعمل على أجسادهم المريضة التي تتراوح بين رضيع لا يزيد وزنه على 1 كغم، إلى ساق تزن وحدها أكثر من 250 كغم.
في وسط هذه “المعركة”، كانت هناك نجاحات باهرة، لكن شابها أيضا بعض الإخفاقات المتتالية. إلا أنها إخفاقات لم تثن عزيمتي عن الاستمرار قط. وأذكر أني رأيت الأسبوع الماضي إحدى المريضات على أفضل هيئة لها؛ لكن خلف هذا عمل أكثر من 200 ساعة تحت التخدير، عبر 8 سنين.
أما ما تبقى من الوقت، فكان يصرف في البحث السريري، متضمنا في العادة نهاية الأسبوع. وكنت أغلق الباب وأطلب من السكرتيرة أن لا تسمح لأحد بالدخول إلا لطارئ. ما حدا بأحد الزملاء أن يعلق يافطة كتب عليها “Ahmad in natural habitat”.
ويستمر تدفق هذه الأمراض المعقدة إلى مستشفانا، وما نزال نقضي الساعات الطويلة مساء نناقش حالاتهم، وكيفية علاجهم. ومع الوقت، باتت قائمة مرضاي تشمل ما لا يرغب الآخرون بلمسه.
الحرب ضد هذه الأمراض المتوحشة تصبح حربك الشخصية؛ لا قوانين تقيد يديك ضدها، إلا عموميات السلامة والأخلاق الطبية. كل مريض هو معركة يجب كسبها بأي طريقة، حتى لو فشل كل ما هو معروف في الطب. عندها، يحدث تلقائيا أن يتم اكتشاف أمراض جديدة وتسميتها، واستبدال القوانين الطبية البالية ببروتوكلات جديدة مختلفة تماماً، وتغيير الأسماء الطبية غير الدقيقة، وتصميم تقنيات علاج جديدة، وتحوير القديم منها ليصبح أكثر أمانا وفاعلية. وستغير ممارسة الطب في مجالك، ويتبعك العالم في هذا!
عندما تمتلك المعرفة والخبرة والدافعية، تتفتح لك آفاق لم تكن تعلم بها، وتعجز العقبات أمام تقدمك؛ حاصدا إنجازات كنت تعتقد أنها حكر على من قرأنا أسماءهم في كتب الطب. ولا ريب عندي أن هذا في مقدور الكثير من شبابنا الطامح الذين قد لا يعلمون عما يمكنهم إبداعه!
لكن العلم مستبد. فهو لا يكتفي بفضلة وقتك أو جزء من انتباهك. وفي محرابه قد لا يسمح لك بأن تشرك به الكثير من المكاسب السريعة. وهو يدفع رغباتك التي يمليها عليك المجتمع إلى آخر القائمة. في البداية، فإن الخيار هو خيارك، ولا يمكنك اختيار الاثنين كلية.
عندما اتحدث إلى طلبة الطب الزائرين من بلادنا أقول لهم: إذا كان طموحك أكاديمياً قويا، فلا تطمح بأقل من جائزة نوبل. الذين فازوا بها لا يختلفون تركيبا عنا، ولدينا من العقول ما لديهم.
الخيار الآخر هو البحث عن وظيفة مغدقة، وزوجة جميلة، وأطفال أذكياء، وبيت فاره، وإجازات طويلة. لا عيب في ذلك على الإطلاق. لكن يجب أن تحدد خيارك أولا، ثم تبحث عن المكان الذي تجد فيه متسعاً لاستخدام طاقاتك. رغم ما قد يحيط بك الآن من مثبطات وعوائق وشكوك حول قدراتك الشخصية، فإن ثمة مكانا ما في هذا العالم الفسيح قد يمنحك الفرصة لتكتشف ما أنت قادر على الإبداع فيه. لدينا من القدرات ما قد يفشل في مكان، لكن ربما أبدعت في مكان آخر. لكن لا تتوقف في منتصف الطريق ولا تغير وجهتك.
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تطمح بما دون النجوم
وفي طريقك إلى النجوم، تصرف كالنساك، وابتعد عن الشهرة والأضواء والمغريات التي قد تشتت انتباهك. فإذا خلت عيناك من أي شيء سوى النجوم، فلربما يا عزيزي كنت الذي سيصل إليها من بيننا، وتأخذنا معك!
* أستاذ الطب بجامعة هارفارد. وقد تم تكريمه مؤخراً من قبل الجامعة بمنحه كرسي “دراسات بوروز” لتشوهات الأوعية الدموية مدى الحياة.