قد يحسبُ البعض عنْ قلّة اطلاع و فهم… أنّ الق الق جداً نمط و اتّباع لمَساراتٍ نَمطية (Stéréotypes) فيعمَدُ إلى التّقليد عن غير وعي و يبقى سجين ذلك الاعتقاد لا يَحدُ عنه كمن يعتقد أنّ الوزن هو الشّعر، مع أنّه كم من قصيدة مَوزونة لكنّها مجرد نظم ليس إلا .
فالقاص حامد حجي في كتابته القصصية يحاول في كلّ مرّة تكسير هذه الطابوهات، و التّمثلات الخاطئة، لا أدري هل عن قصد أو عن غير قصد ؟ و هل ذلك حبّاً في التّجديد و التّجريب؟ أو رغبة ذاتية في التّميّز بطريقته في الكتابة؟ المهم أنّه جنح إلى التّغيير، و طرق أبواباً ظلّت مُغلقة، و انتهج سبلاً ظلّت موحِشة مُقفرة…
ونصّ ” مجنون ” نصّ من نصوصه الجديدة، في إطار الق الق جداً. قد يتساءل البعض و هو يقرؤه، و هل هذا نص قصصي ؟!
سؤال مشروع بالنسبة لمن ألف نمطاً أحَدياً و لم يَحد عنه. و غفل أنّ هذا الجنس المُستحدث يتّسع لمختلف التّجارب الكتابية، شريطة الالتزام بمبدأ الحكي، و لهذا كان و مازال يتقاطع و أجناس أخرى، دون أن يتماهي في نَسقها أو يستنسِخها.
فنص “جنون” يدخل في إطار ما يعرف نقدياً بالنصوص المسنّنة أو المُشفّرة (codifices) فلا تكتبُ الجملة إلا وهي متضمنة تمرير: شفرة مُعينة، علامة دالة، برقية خاصّة…
لهذا لا نجد فائض الكلام، في مثل هذه النّصوص، أو ما ينبغي التخلّص منه، أو ما هو في علم المتلقي سابقاً. فالكتابة تأتي و كأنّها ماء مقطر، لا تعتريه شوائب من أيّ نوع …
العنوان:
جاء مفرداً، اسم لمبتدأ محذوف تقديره ( هذا ) لم يأت معرفا بل نكرة ليتّسع لكلّ أصناف الجنون…
لغوياً،”جنون ” بمعنى فقدان للاتزان العقلي، أو فساد العقل أمّا منطلقاته و أصنافه فكثيرة ، كلّها تدلّ على تصرّفات خارقة غير عادية، و منها جنون العظمة، جنون الارتياب، جنون السّرعة، و من الأقوال الجنون فنون. مجنون ليلى، مجنون بثينة، أراغون مجنون إلسا..و طبياً ما يعرف بجنون البقر…و من مرادفاتها : أَبْلَه ، أَحْمَق ، أَخْبَل , أَخْرَق ، أَرْعَن ، أَهْبَل ، أَهْوَج ..و من أضدادها : حاذِقٌ ، حكيمٌ ، حَصِيفٌ، ذكيٌّ ، رصينٌ ، رَزِينٌ ، عاقِلٌ. و لقد وردت كلمة ” مجنون” إحدى عشرة مرة في القرآن الكريم.
إذاً نستشفّ من العنوان ” جنون ” حدثاً خارقاً، أو حالة ذهنية خاصّة.إنّما غير عادية … بهذا الشّعور، الذي يلفّه الغيب و الحَيرة ، و التَّوجس و الرّيبة… نقرأ النّص..
( ليلتئذ خرج ) [ التّسريد] (Narrativisation) “ليلتئذ ” : كلمة مركبة من “ليلة ” و “إذ ” أي في تلك اللّيلة. و هي ظرف زمان بمعنى حينئذ و فتِحتِ التاء على البناء. “خرج ” مَن؟ لا نعرفه، السارد جعله ضميراً مستتراً…ما يزيد في لوعة التّشويق و التّساؤل…
” عيناه سحابتان و صدره هدير ” [ وصف ] (description) و لكنّه ليس وصفاً لملامح الشّخصية قصد التّعريف بها فسيولوجياً، و لكنّه وصف فنّي للحالة التي خرج بها الرّجل : عينان في سواد غيمة، تمنع أي قراءة، أو استنتاج، سواد في سواد، و هدير كصوت الموج أو الرّعد ينبعث من صدره، وصف غير بَريء لأنّه يشي بما يعتملُ داخل نفسية البطل، من اضطراب، و انفعال هو نتيجة حالة ذهنية حادّة.
” الرحلة بعمق المستحيل [ الحدث/ الغرض (objet) السّارد يحدّد هدف المَسعى، و سبب الهياج النّفسي. فالرحلة طويلة جداً، أو هكذا يراها البطل، فهي بعمق المُستحيل. تصوير شاعري جميل، لتبيان مدى طول الرّحلة المستحيلة، و ما دامت بهذا العمق، فهي رحلة اللانهاية و اللارجوع… لهذا…
” ضجّ فكر الغوريلا القابع بداخله “[ التأزيم] ( la mise en crise) لنتأمل هذه الصّورة السّردية المشبعة بالاستعارة. إنّ ما بداخل البطل من اندفاع جنوني لخوض الرّحلة، رغم كلّ الموانع و الإكراهات ..يشبه اندفاع حيوان الغوريلا بكلّ قوته، و جبروته…
” ما وجهتك ؟ ” [ المفارقة] (Paradox) و يأتي السّؤال المنتظر، فالكلّ فعلا يتساءل أيّ رحلة ؟ و ما وجهتها؟ إنسان مجنون، مندفع كلّ هذا الاندفاع… أيُسأل عن وجهته؟ و هل يمكن أن يجيب بمنطق و اتزان و عقله مُضطرب؟ و إن أجاب هل يمكن الأخذ بكلامه ؟ و يعتدّ برأيه ؟ أليست هذه مُفارقة درامية ؟ و مع ذلك جاء الجواب :
” المدى! ” [ الخرجة] (Résolution) منْ كان يتوقع هذا الجواب ؟ إنّها الخرجة غير المُنتظرة. و لكنّها في لفظة اختصرت كلّ شيء لأنّها و كسابقاتها من ألفاظ وجمل النّص، لفظة مُلغَّمة ، و هي فوق هذا و ذاك شفرة (code) قد لا تقول شيئاً لقارئ عادي محدود الخيال و التّخييل. فكلمة ” المَدى ” تبقى في عُرفه لفظة معُجمية تعني : الغاية.
و السّؤال: أيّ غاية يتغياها إنسانٌ يُعاني فساد العقل ؟!
إذاً ، الخرجة تجعل القارئ يُعيد النّظر في كلّ شيئ في العنوان ( جنون ) و الرّحلة التي هي بعمق المستحيل. و سبب اندفاع البطل كالغوريلا . و مسألة المَدى …
إذاك يتّضح أنّ المؤشرات المذكورة لا تعني دلالتها المَقروءة، و إنّما دلالتها هي ما يُمكن أن تؤوّل إليه.و من جملة ذلك و كشاهد فقط . هذا الشباب العربي الإفريقي الذي يندفع قوافل متتالية إلى أمواج البحر، فيجازف بنفسه في عبابٍ لا يَرحم، و خِضمٍ كالجبال في رحلة المستحيل و اللا عودة، لا تنفعه نصيحة ، و لا يوقفه خوف، و لا يثنيه عن عزمه رادع… مندفع كالغوريلا نحو هدف هو الوصول إلى أوروبا، و تحقيق الحلم الذي يراوده، و بلوغ المدى. رحلة قد لا تتمّ إلا غرقاً، و إنْ حالف الحظ البعض ، سيعيشون ظنكا من العيش و الضياع، و قد يُهَجّرون إلى بلدانهم . أليست رحلة بعمق المستحيل؟! هذه صورة من الصّور التي قد يؤول إليها النّص، و هو مفتوح على كلّ صور التّأويل الممكنة .
نشعر من كلّ هذا أنّ الهدف من النّص هو خلق إحساس بالحالة، لا قول المعنى. و بذلك كان حامد حجي قاصّاً بارعاً، عميقاً، و فنّانا في أغلب ما يكتب في هذا الجِنس الجميل.
و إن كانت كتابته تحافظ على نسقها النّخبوي. الذي يأبى أن يغيّره. إيماناً منه ككلّ فنّان يَحترم إبداعه، على القارئ أن يبذل جهداً في الارتقاء بفهمه، و استنتاجه، و استنباطه..لا على الفنّان المُبدع أن يُبَسّط فينزل إلى مستوى القارئ العادي. و المسألة فيها نظر، ليس هذا مجاله الأن. فهنيئاً للقاص حامد حجي في مساره القصصي، الذي يتوخّى من ورائه فنّية الأداء، و تنوع التّجديد ، وجُرأة التّجريب …