قراءة لـ (ق ق ج ) ” استتباب” للقاص هاني أبو انعيم / الأردن.

قراءة لـ (ق ق ج ) ” استتباب” للقاص هاني أبو انعيم / الأردن.

   إنّ القصّة القصيرة جداً، رغم قصرها الشّديد، إلا أنّها تتّسع لكلّ المواضيع، و بدون استثناء. و من ذلك المواضيع الاجتماعية. حقاً، إنّ المُعالجة مختلفة، بينها و بين القصّة القصيرة أو القصّة، أوالرّواية. و ذلك مردّه للحجم و ضرورة تحكّمه في اللّغة والأسلوب…
   و إنّ من قصّاصينا العرب، الذين استهواهم الجانب الاجتماعيّ بشكل لافت ، بكلّ أوضاعه و تناقضاته، و حيثياته… القاصّ هاني أبوانعيم، فجلّ كتاباته القصيرة جداً، تتمحور حول قضيا اجتماعية، سواء كفضاء واسع لعدّة أسر، و قيم، ومبادئ، و تقاليد، وأعراف… أو كأسرة واحدة، في معاناتها مع اليومي المُعتاد، والمَعيش و مفجآته و مسرّاته…و شقائه ومُكابداته… ومن ذلك نصّ ” اسْتتباب”

العنوان : استتباب.
لغويا :استتباب : اسم، و هو مصدر استتبّ ، و تفيد الاستقرار بعد فوضى و رعونة و اضطراب. كأن نقول: استبّ الأمن: أي استقر، و عاد كما كان منتظماً. و بذلك يكون  الاستتباب : اطّراد الشيء، و استقامته، و استقراره…
النص:
استتباب
لاحظ تزامن دخول أمه إلى البيت مع عودته كل مساء، سأل زوجته عن أسباب قد تعرفها، ردت بسخرية إنها تميل لرفقة الأرملة في الشقة المجاورة، قبل أن يغادر إلى عمله صباحا، طلب إلى والدته ألا تخرج بعد اليوم، فالجارة ستكون رفيقتها الوحيدة.

    النص يدخل في إطار ما نسميه قصة الحالة ( case) اجتماعيّ يخصّ الأسرة، حين لا تقتصر على زوج و زوجة ، بل تكون بإضافة أحد الأقارب. و القريب في هذا النص هي أم الزّوج. التي اعتادت أن تخرج رفقة الجارة الأرملة، و لا تعود إلى البيت إلا وقت عودة ابنها من عمله. الشّيء الذي أثار حافظته . فسأل زوجته فأخبرته بسُخرية بما تعرف.
 صباحاً، و قبل أن يغادر إلى عمله، طلب أمّه ألا تخرج، لأن الجارة الأرملة ستكون رفيقتها الوحيدة.

   كما نلاحظ، النص يعلن ببساطة عن نفسه. فلا غموض، و لا إبهام، و لا رمز ، و لا أسطرة … كما هو مألوف في مثل هذا الجنس و كتابته. إلاّ أنّ هذه البساطة غير بريئة ، لأنّها تقود المتلقي إلى تلمّس بعض الأشياء المَسكوت عنها ( things unspoken)  في حياتنا الاجتماعية، الشّيء الذي يثيرُ جذوة النّقاش، و يدعو لتدبّر الأمر. كما سنلاحظ :
النّص مكون من خمسة مقاطع دلالية :
1 ــ [لاحظ تزامن دخول أمّه إلى البيت مع عودته كلّ مساء ]
كلمة ” لاحظ” لا تخص الشّخصية وحدها، بل هي  تخصّ المتلقي أيضاُ، كتنبيه من أوّل النّص. لأنّها تدعوه للتّساؤل:
ــ لماذا تغادر الأمّ البيت بعد خروج ابنها؟
ــ و لماذا تعودُ وقت عودته بالضّبط ؟
ــ و لماذا يحدث هذا كلّ يوم؟
ــ و لماذا تفعل ذلك الأم ّ؟
ــ هل لكونها لا تطيق زوجة ابنها؟
ــ أم لكونها لا تطيق البقاء في البيت ؟
ــ ………………..؟
سيل من الأسئلة، قد يتوارد  إلى ذهن المتلقي ،فيثيرُ فضوله ، و رغبته في معرفة سرّ الخروج المستمر! الذي ليس عادياً، حتى يمكن غض الطرف عنه. و بخاصّة أنّه أصبح يومياً. و كأنّ الأمّ لا ترتاح في البيت إلا بوجود ابنها.

2 ــ [سأل زوجته عن أسبابٍ قد تعرفها ]
أمرٌ عادي، أن يرتاب الابن في حالة خروج أمّه ، و عادي جداً أن يسأل زوجته ما دام يجهل حقيقة الأمر. لكنّه ليس من العادي أن تخبر الزّوجة زوجها بالحقيقة في مثل هذا الوضع. لأنّها تدرك مسبقاً أنّ أيَّ كلامٍ، ستكون مسؤولة عنه، إن لم تتحمّل تبعاته كلّها. ثمّ إنَّ الصَّمت لا يفيدُ في هذه الحالة. و قد يزيد من حيرة الزّوج، فيُمعن في الشّكّ و الارْتياب …

3 ــ [ردّت بسخرية إنّها تميل لرفقة الأرملة في الشّقة المجاورة ]
و مع ذلك ، فكان من الضّروري أن تردّ الزّوجة. فجاء ردّها متضمناً بعضَ الحَقيقة، ــ و كما يتبين من السّياق ــ  ليس في صالحها أن تقول كل شيء. فاكتفت أن أخبرت زوجها أنّ أمّه تميل لرفقة الجارة الأرملة. و في هذا بعض الحقيقة، لكن المسكوت عنه، والمُضمر من ذلك:
ــ لماذا تميل الأمّ لرفقة الجارة الأرملة ؟!
ــ لماذا تؤثر صحبة الجارة عن البقاء مع زوجة ابنها، أو الخروج معها ؟
حسبت الزّوجة أنّها بردّها هذا. قد أنهت حيرة الزّوج ، و لم يعدْ هناك ما يَشغل باله، أو يدعوه للتّساؤل، إلا أنّ طريقة ردّها التي وصفها السّارد لم تكن بريئة. بل كانت بـ “سخرية” والسّخرية، دائماً لغة أخرى، قابلة للقراءة والتّأويل، و هذا ما غفلت عنه الزّوجة في لحظة مُكاشفة. الشّيء الذي جعلَ الزّوج يستنبط سبب خروج أمّه من البيت على إثر مُغادرته، و عودتها المتزامنة مع عودته، و الذي مصدره الزّوجة، وعلاقتها غير المُنسجمة ولا الملائمة  مع أمّه. وهنا السّارد يفتح المَجال رحباً للمتلقي، لتخيل و تأويل عدم الانْسجام، و إن كان  من خلال السّرد، يتبين أنّ الزّوجة حاقدة على الأمّ لسبب ما، ولا تريدها في بيتها لاعتبار ما…و الأمّ من جانبها ــ و ككلّ أمّ تريد الاستقرار في بيت ابنها متجنبة المشاكل ــ لذا كانت تبادر بالخروج. و في عودتها كانت تعلم جيداً أنّ الزّوجة،لا تستطيع مُضايقتها أثناء حضور ابنها. فالأمر كان بالنسبة لها معادلا موضوعيا. إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا…

4 ــ [قبل أن يغادر إلى عمله صباحاُ، طلب إلى والدته ألاّ تخرج بعد اليوم ]
يتبين الآن بوضوح أنّ الابن/الزّوج. أدرك الحقيقة أخيراً، فجعله إدراكه  في مقام اختيار صعب، و الحلُّ بين حلّين: إمّا الأمّ أو الزّوجة. و مادام لا يستطيع التّضحية بأمّه كأنْ يَتخلّى عنها بطريقة أو بأخرى ،إرضاء لرغبة زوجته، تلك الّرّغبة المضمرة الحقودة. طلب من والدته ألاّ تخرج بعد اليوم. و بذلك كانت بداية  تحقيق الاستقرار واستتباب الأمر.

5 ــ [فالجارة ستكون رفيقتها الوحيدة. ]
الخرجة، أو الجملة الأخيرة،  جاءت في صورة الحل، حلّ مفاجئ و غير منتظر. أساسه عملية هدم و بناء من جديد. و على المُتلقي. أن يفهمَ أنَّ عدم الاستقرار في البيت انْتهى. و أنّ الزّوجة التي كانت مُشاكسة، و حاقدة، على امْرأة في سنّ أمّها و ربّما أكثر، غادرت البيت، لتعوضَها الجارة الأرملة، التي عن قصد أو عن غير قصدٍ، امتلكت بديل ما فقدته منذ زمن. فاسْتتبَّ البيت و استعاد اسْتقراره.
فنّيــأا :
1 ــ العنوان ، و إن لم يأت كاشفا لفكرة النّص من أوّل وهلة، و هذا جيّد، إلا أنه لخّص نتيجة الحدث. بمعنى كان مؤطّراً للنّصّ.
2 ــ هناك علاقة وطيدة بين العنوان [ استتباب ] و أوّل جملة تتصدر النّص :[ لاحظ تزامن دخول أمه إلى البيت مع عودته كل مساء ] و الخرجة / آخرجملة في النص: [فالجارة ستكون رفيقتها الوحيدة. ] بمعنى :
الاستتباب الذي فقِدَ في البيت، و الذي دلّ عليه خروج الأمّ يومياً اسْتعيدَ برفقة الجارة.

3 ــ اللغة لغة دلالية، (Referentical) بمعنى أنها ناقلة للمعنى، مهيأة للسرد و ليست مجازية (Figurative) و الجمل: فرغم هيمنة الفعلية منها، و هذا ما ألفناه في القصة القصيرة جداً، إلا أنّها جاءت طويلة. الشيء الذي انعكس بوضوح على الرّؤية السّردية، و سمة اللّغة المُوظفة. على غير المألوف في هذا الجنس الذي يَعمدُ إلى الإيجاز، والتّكثيف قدر الإمكان .

4 ــ الخرجة و كما أسلفنا جاءت حلاًّ. و القاص هاني أبو انعيم شغوف بهذه الطريقة. و هذا ما يلاحظ في مجامعه القصصية. نصوص كثيرة، لا ينهيها إلا بحلّ فاصل. تلك طريقة متداولة انتهجتها القصة القصيرة ، بل والرّواية أيضاً ، في كثير من عناوينها. ولها روادها. في مجال السّرديات .و لكن القصة القصيرة جداً، تجنح إلى نهاية مفتوحة للتّأويل و تعدّد القراءات، و شغل ذهنية القارئ…بل ذلك يعدّ من خصائصها الفنّية.

5 ــ طريقة و أسلوب كتابة النّص كانت استفزازية لذاكرة المتلقي، و مُثاقفته. و بخاصّة لبعض النّساء المتحرّرات اللّواتي ينبذن التّقاليد، و أحكام المجتمع. وظروف العيش المشترك  .السارد لم يكشف الحقيقة المضمرة، أو المعنى الكامن من وراء ذلك، و إن أشار لأحد تداعياته : خروج الأم. و في ذلك فسحة تأملية تأويلية. جاءت نتيجة توظيف الحذف الذي كان موفقاً، دعماً للخيال و التّخييل (Fiction)

     فهنيئاً للقاص هاني أبو انعيم على هذه اللّقطة الاجتماعية، التي يعاني منها المجتمع العربيّ في صمت. و كأنّها غير موجودة، و لكن، ما هذا النّص إلا شهادة، تميط اللثام عن وجه كالح ، و صورة بائسة، يعيشها بعض كبار السّن من الأمّهات و الأباء ، الذين لم يبق لهم من سند، ولا من معيل، و لا من ملجئ إلا ابن أو ابنة تتولاهم. وقد يحدث هذا في ظل ظروف قاهرة. يعانون من فظاعة الآخر. الذي لا يرغب في وجودهم معه، و يسعى ما أمكنه للتّخلص منهم. لا لشيء إلا ليخلو له جو البيت.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.