عبدالرحمن الطويل٢٠ يونيو ٢٠١٧ ·
لا أعرف قارئًا – ولا أيَّ مشهور – كان أكثرَ بَرَكةً في العُمر من الشيخ #محمد_صديق_المنشاوي ، فهو آخر الكبار التحاقًا بالإذاعة ، وبين قراءته بها لأول مرة منتصف العام 1954 ووفاته منتصف 1969 خمسة عشر عامًا فقط ، ملؤها بركة .
سجل فيها تراثه الكبير الذي أقام الدنيا وشغل الناس ، فسجل عددًا جيدًا من تسجيلات الاستوديو في بدايات دخوله كان فيها صوته متفجرًا شبابًا ونداوة ، رغم أنه فاتته فرصة التسجيل في ختمة عام 1952 التي تنتمي إليها معظم التسجيلات الإذاعية القديمة لسائر القراء ، كما سُجل له عدد كبير من الحفلات ، يقترب – في حدود الظاهر المعلن منه – من 200 حفلة ، وهو رقم كبير نسبةً إلى قصر عمره الإذاعي وتاريخ وفاته المُبكر.
لكنها البركة أيضًا ، ومتى كانت الإذاعة صاحبة فضل في ثروة الحفلات الباقية لأي قارئ! على أنها – بلا شك – الأثرى خزانة بالتسجيلات.
ظللته البركة حين سُجل له عدد كبير من الحفلات في الصعيد منذ أوائل الخمسينيات حتى وفاته ، ويُعتبر عدد التسجيلات الباقي له من الصعيد عجيبة من عجائب الدنيا لم تتكرر لأي قارئ آخر من قراء الصعيد في هذه الحقبة ، فقد كان التسجيل في القاهرة نادرًا ولا يقوم به إلا قِلة من الهُواة الميسورين ، أما في الصعيد فرُبما لم يكد يكون موجودًا.
ثم ظللته البركة حين سافر إلى ليبيا عام 1957 بمناسبة افتتاح الإذاعة الحكومية ، فحظي عند الملك محمد إدريس السنوسي وصار يُدعى إلى ليبيا كل عام ، ويقيم فيها فترات طويلة ، حتى كانت عودته مِن سَفرته الأخيرة في يناير من عام وفاته ، وسجّل له الليبيون كثيرًا ، ولعل تسجيلات ليبيا صاحبةُ السهم الأكبر في ثروة حفلاته الباقية، وكان من العجيب أن الملك السنوسي الذي أحبه واستضافه لم يبق في العرش بعده إلا شهرين.
والشيخ محمد صديق المنشاوي ابن قارئ كبير كان الأعرق والأشهر في الصعيد ، وُلد قبله باثنين وعشرين عامًا ، ومات بعده بخمسة عشر عامًا ، لكنه كان ضمن نماذج قليلة في تاريخ أبناء العباقرة ، سبقوا آباءهم بأشواط بعيدة ، وصاروا كالآباء لهم.
ولا علاقة لهذا بأن الشيخ صديق المنشاوي لم يقرأ في الإذاعة ولم يشتهر خارج الصعيد كابنه ، فإن الشيخ محمد ورث طريقة أبيه قائمة على الارتجال والقراءة السلَقية الصرفة ، فأفاد من غير أبيه ، وهندَسَ طريقته بأصول الصنعة ، حتى استوَت مدرسةً فنية متينة من أهم عشر مدارس في تاريخ التلاوة ، ثم خرج بعده قراء آخرون من آل المنشاوي ، فتسلموا منه الطريقة المنشاوية وقد بلغت أوجَها فنًا وإبداعًا ، فهُم جميعًا إلى اليوم يقلدونه ولا يقلدون أباه ، ولا يزيدون عليه .
على أن الشيخ محمد ورث من أسلوب أبيه مرونةً واسعة في الحركة بين القراءات ، حتى تكاد تكون تلاوته محاضرة في القراءات ، والجمع بين القراءات مِن محاسن مدرسة التلاوة المصرية ، فإنك لا تجد أحدًا في العالم الإسلامي يعرف شيئًا عن القراءات إلا المتخصصين فيها وفي التفسير والنحو ، إلا سمّيعة مصر ، فقد شربوا القراءات من قُرائها حتى صاروا يعرفونها ويُسمُّونها ، فضلًا عما يُحدثه التنويع بين القراءات للسامع من طرب سمعي ونشاط عقلي ، فهي كألوان البديع في النصوص الأدبية ، إلا أنه بديع إلهي أغنى به الله كتابه المقدس.
والشيخ محمد صديق المنشاوي القارئ الوحيد الذي شدَّت الإذاعة رحالها إليه قبل أن يشد رحاله إليها ، فقد سافرت إليه حين كان يقرأ في إسنا عام 1953 ، على بُعد سبعمئة كيلو متر من القاهرة ، فرغبت فيه ودعته إليها ، وسجلت له تسجيلًا – كالعادة – لا نعرف عنه شيئًا.
مع إنشاء التلفزيون في مصر عام 1960 قرأ الشيخ فيه وسُجل له كثيرًا ، وبعد وفاته بأعوام قليلة دخل الفيديو إلى مصر فسجل السميعة لأقرانه الذين عاشوا قليلًا بعده ، ثم إنَّ مسئولين في التلفزيون – بالتأكيد ليسوا بسمّيعة ولا يعرفون للقراء أقدارهم – قرروا أن تُحجب صور القراء ويُعرض بدلًا منها الآيات مكتوبة ، واختفى القراء من الشاشات ، وصارت علاقة الناس بهم سماعية صِرفة ، حتى ظهر الإنترنت ونشأت المنتديات القرآنية فبدأ أصحاب الفيديوهات يعرضون عليه تسجيلاتهم المصورة لكبار القراء ، ولم يكن بينهم المنشاوي لأن الفيديو لم يُدركه ، وصار السميعة يرون كل القراء إلا المنشاوي ، ويقولون متى نراه ! وتحدثنا عن هذا الموضوع طويلًا على المنتديات ، وراسلنا من نصل إليه من مسئولي التلفزيون ، حتى أفضينا إلى اليأس ، وظننا أن أشرطة القراء لديه قد مُحيَت ، وأننا لن نشاهد الشيخ المنشاوي كما تمنينا .
وحين هُدي التلفزيون بعد ثورة يناير المجيدة إلى عرض أشرطة القراء ، تأخر المنشاوي ثلاث سنوات ، حتى عادني هاجس اليأس مرة أخرى ، أن تكون أشرطته بالذات مُحيت وسُجل عليها توفيرًا للنفقات ، هو خصيصًا لأنه توفي مبكرًا ولن يسألهم عن أشرطته يومًا! لكن البركة كانت باقية ، والأشرطة باقية ، اهتدى إلى بعضها الأستاذ عبد العزيز عمران ، وعرض أحدها لأول مرة قبيل مغرب فاتح رمضان منذ ثلاث سنوات ، بعد أن أعلن البشرى ، أذكر يومها أني تسمّرتُ أمام الشاشة قبل الموعد لا أصدق نفسي ، أحق أننا سنشاهد الشيخ المنشاوي أخيرًا بعد أن يئسنا .. حتى أشرق، وعُرض له بعدها حتى بلغت الأشرطة المعروضة تسعة .. نسأل الله أن يزيدها.
*الصورة للشيخ في مرضه الأخير قبيل وفاته في مثل هذا اليوم العشرين من يونيه عام 1969.
#ذكرى_المنشاوي٣٩