يقولون إن مصر أم الدنيا، بعضهم يفسرها بشكل مادي فسيولوجي، فيحيلها إلى معان سطحية، لكن المدقق بالمثل يدرك معنى أمومة مصر الحاضنة للعرب، والتي تبنت العشرات بل المئات منهم عبر تاريخها الثقافي الطويل، وهناك مثل مصري شائع يقول «ياللي رايح مصر حتلاقي زيك ألفين» بمعنى لا بد أن تكون مبدعاً بتميز حتى تحتضنك مصر، فأنت في قلب الإبداع ولا حاجة لإنصاف المتثاقفين وأرباع المبدعين.
وحينما نستذكر أسماء من حملوا اسم مصر من العرب نصل إلى أعداد كبيرة، لكننا عرفناهم من البيت المصري الواسع الكبير، أمثال فريد الأطرش، أسمهان، فايزة أحمد، عبد السلام النابلسي، استفان روستي، نجيب الريحاني، سعاد حسني وغيرهم كثيرون جداً، وفي هذا البيت تسقط الفوارق، والأصول، وتبقى مصر هي الأم الحنون التي تحتضن كل أبنائها المبدعين.
أحد أهم من احتضنتهم مصر، العبقري بيرم التونسي، الإسكندراني الذي ولد في الأنفوشي عام 1893 من أب تونسي وأم مصرية والذي طواه رمل مصر عام 1961 وهو في قمة إبداعه، وكان قد منح الجنسية المصرية عام 1953 ومنحه عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية عام 1960.
وحينما أقول إن بيرم شاعر عبقري، لا أطلق اللقب عليه جزافاً، فهو لم يكمل دراسته الابتدائية، إذ ترك المدرسة اثر وفاة والده وهو في سن الثالثة عشرة، لكن بيرم ولد عبقرياً، معلمه الأول بحر اسكندرية الذي كان يصغي له طويلاً على حد تعبيره، وتعلم الزجل من أفواه الزجالين المداحين على أبواب مسجدي البوصيري والمرسي أبو العباس.
يقول عنه أمير الشعراء أحمد شوقي «أنا أخشى على العربية من بيرم، فإن قدرته الهائلة على التعبير بالعامية عن كل موقف من مواقف الحياة في مرونة ساحرة، قد دفعت الناس إلى ترديد أزجاله، وقد تدفع بعض شباب الشعراء إلى الاقتداء به».
أما عباس محمود العقاد فقد قال عنه «العبقري الذي فقده العالم العربي» وقال عنه أحمد يوسف أحمد الذي سجل تاريخه «لا تقف أغنية من أغاني بيرم إلى جانب أختها إلا جديدة عليها، مختلفة عنها في النسق والسياق، بل النغم والإيقاع».
وبيرم كتب أجمل أغاني الحب.. ويقال.. إنه لم يخض تجربة حب، بل عبقريته هي التي تدفعه لكتابة أعمق وأرق وأدق الأغاني التي تغنى بها العمالقة، أمثال سيد درويش، وأم كلثوم، وفريد الأطرش، وأسمهان، ومحمد عبد الوهاب، وليلى مراد، وصباح، وسعاد محمد، وصباح فخري، والكحلاوي، وزكريا أحمد، ونور الهدى، وغيرهم كثيرون.
وعلى الرغم من كونه رقيق الإحساس، عاطفيا، إلا أنه كان سليط اللسان في شعره النقدي، مما أوقعه في إشكالات كثيرة، منها النفي إلى تونس، ثم إلى باريس حوالي ثمانية عشر عاماً إثر مقطوعة زجلية بعنوان «القرع السلطاني» والتي عرض بها بالملك أحمد فؤاد وزوجته الملكة نازلي وشكك في بنوة ابنهما ولي العهد حينذاك فاروق، وقد وصل بعدها بشكل مفاجئ إلى بور سعيد، فتوسط له عند الملك فاروق كل من محمد محمود باشا رئيس الوزراء، ومحمود فهمي النقراشي وزير الداخلية وأحمد حسين باشا رئيس الديوان، واضطر لأن يتنازل عن عرشه وإبائه ويمدح الملك فاروق على مضض كما تروي عنه الحكايات.
بيرم كتب 12 مسرحية غنائية، وكان هو الرابع بين شعراء عصره من المبدعين في هذا الفن، بعد أمين صدقي، وبديع خيري، ومحمد يونس القاضي، وكتب أغاني 27 فيلماً غنائياً، وله عدد من البرامج الإذاعية المشهورة جداً، عمل في الصحافة وأصدر مجلة الخازوق، ومجلة المسلة، وكتب إلى جانب دواوينه التي أصدرها خمسمائة أغنية تعتبر من أجمل أغاني القرن العشرين، ولحن له وغنى هذه الأغاني كبار الموسيقيين والمطربين.
حتى أننا نردد حتى اليوم الكثير من هذه الأغاني الخالدة دون أن نعلم أنها لبيرم التونسي الذي عاش فقيراً، وظل العرب يرددون أغانيه على مدى قرون قادمة فإن الإبداع لا يمكن أن يكممه اضطهاد أو أن يمحوه الزمن، أو يغيبه الموت، أو تمنعه سلطة