وهبت فاطمة المرنيسي نفسها لعلم الاجتماع، ولخدمة القضية النسائية، زاوجت بين قراءتها للواقع والتراث، لتسليط الضوء على عتمة ذكورية طمست فاعلية المرأة في المجتمعات العربية الإسلامية، كما نتابع في الجزء الأول من هذا البوتريه.
كريم الهاني
خمسة وسبعون عاما من النبض. خمسة عشر كتابا بترجمات عالمية عدة، من بينها “الحريم السياسي”، “شهرزاد ترحل إلى الغرب”، “نساء على أجنحة الحلم”.
واحدة من النساء المائة الأكثر تأثيرا في العالم وفق صحيفة الغارديان البريطانية لسنة 2011.
فاطمة المرنيسي. امرأة مغربية وهبت نفسها لعلم الاجتماع، ولخدمة القضية النسائية، زاوجت بين قراءتها للواقع والتراث، لتسليط الضوء على عتمة ذكورية طمست فاعلية المرأة في المجتمعات العربية الإسلامية.
في هذا البورتريه، نسبر وإياكم بعض أفكار هذه المرأة، التي شكلت، وفق بعض الباحثين، نقطة ضوء ساطعة في تاريخ علم الاجتماع المغربي.
رأت فاطمة المرنيسي، النور، في مدينة فاس، سنة 1940. هناك نشأت وسط عائلة محافظة، ودرست في مدرسة وطنية خاصة، أُحدثت كي لا يدرس أبناء الوطنيين في المدارس الفرنسية، لتصبح مع توالي السنوات، عالمة اجتماع وكاتبة ذائعة الصيت في المغرب وفي العالم بأسره.
درَست المرنيسي العلوم السياسية بجامعة السوربون بفرنسا، ثم حصلت على شهادة دكتوراه في علم الاجتماع من جامعة برانديس كنتاكي في الولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن تعود سنوات بعد ذلك، لتصبح أستاذة باحثة في علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، عاصمة المغرب.
… والرباط بالنسبة لفاطمة، لم تكن فقط مجرد أفق علمي لتحقيق أهدافها وأحلامها، ففاطمة تسميها “مدينة النور”. تقول في حوار مع قناة الجزيرة: “لم أر البحر إلا بعد أن بلغت 18 عاما، وحين كنا نجلس على ضفة “جنان السبيل”[1] بفاس، كنا نسأل سيدة عن شكل البحر، فكانت تقول لنا: أرأيتن هذه البحيرة؟ البحر خَمس منها”. “الإسلام جاء ليبني العلاقات بين الرجال والنساء، على الحوار والتفاهم والرحمة. اليوم إذ تتحدث عن قضية المرأة، يقولون إنها قضية قادمة من الغرب، أنا أتفاجأ جدا من هذا القول، كيف أمكن أن ننسى ذاكرتنا؟”، تقول فاطمة.
تضيف فاطمة، مفسرة دور البحر في حبها للرباط: “أول مرة رأيت فيها البحر حين قدمت إلى الرباط، أحسست بانبهار لا يوصف. منذئذ بدأ حبي لهذه المدينة. بالمناسبة، أحب جدا السباحة، ولم أتوقف عنها إلا حين جاوزت سن السبعين، وكدت أغرق مرتين. أضف إلى هذا أن جو المدينة، جنّة بينما هو في فاس بارد جدا، لكون المدينة محاطة بالجبال”.
يقول أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس، يونس الوكيلي، في مقال نشرته مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” إن فاطمة المرنيسي انتبهت مبكرا إلى أن تناول المشاكل الاجتماعية اليومية للنساء في مسارها العلمي، “سيتعذر دون قراءة نقدية تفكيكية للخلفيات الثقافية التي تؤسس لكل مظاهر معاناة المرأة، ومن هنا رأت أنه ينبغي عليها الاشتغال على الواقع والتراث”.
تستشهد فاطمة على ذلك في حديثها مع قناة الجزيرة، بـابن سينا، فتقول إن الأخير في زمنه قال: “إننا بلينا بقوم يعتقدون أن الله لم يهد سواهم”، وهذا يعني أن المشاكل التي كانوا يعيشونها في تلك الفترة هي نفس المشاكل التي نواجهها في وقتنا هذا.
أما كيف يمكن مواجهة هؤلاء، فتقول على لسان ابن سينا أيضا: “العارف لا يعنيه التجسس والتحسس، لا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر بل تعتريه الرحمة، أما إذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح لا بعنف معير”، ثم تتساءل بعدها: “كيف أمكننا أن ننسى هذا التراث؟”.
الواقع أن الوكيلي يؤكد أن هذا الوعي ظهر عند المرنيسي منذ إنجاز أطروحتها لنيل الدكتوراه بالولايات المتحدة الأمريكية، سنة 1973، تحت عنوان “ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية”. درَست المرنيسي العلوم السياسية بجامعة السوربون بفرنسا، ثم حصلت على شهادة دكتوراه في علم الاجتماع من جامعة برانديس كنتاكي في الولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن تعود سنوات بعد ذلك، لتصبح أستاذة باحثة في علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط.
وقد توالت فيما بعد كتابات المرنيسي التي تزاوج بين قراءتها للواقع والتراث، في محاولة لتشريح مشكلة المرأة في العالم الإسلامي وسبل تحريرها. مثال ذلك، “الإسلام والديمقراطية”، “الحريم السياسي”، شهرزاد ترحل إلى الغرب”، “نساء على أجنحة الحلم”، وغيرها كثير من الكتب، التي ترجمت إلى لغات عالمية عديدة.
“حينما أذهب إلى الغرب، يظهر لي جليا أنهم لا يعرفون شيئا عما يقع في العالم العربي، فأكثر من دافع هنا عن المرأة هم رجال، مثل قاسم أمين وكمال آتاتورك وعلال الفاسي وغيرهم كثير”، تقول فاطمة.
وتضيف موضحة دور الإسلام في ذلك: “هذا المعطى انبثق عن الإسلام، فهذا الدين جاء ليبني العلاقات بين الرجال والنساء، على الحوار والتفاهم والرحمة. اليوم إذ تتحدث عن قضية المرأة، يقولون إنها قضية قادمة من الغرب، أنا أتفاجأ جدا من هذا القول، كيف أمكن أن ننسى ذاكرتنا؟”.
في الجزء الثاني: إلى ماذا خلصت فاطمة المرنيسي خلال دراستها مفهوم الحريم بين الغرب والشرق؟ ما كانت نظرتها إلى موقف الإسلام من المرأة؟ كيف تعاطت مع القضايا النسائية؟ ثم كيف تقيم وجود المرأة في الفضاء العام بالمغرب اليوم؟
تعرضت المرنيسي لوابل من الانتقادات، خصوصا من طرف زملائها في الجامعة، الذين كانوا يعتبرون أنها ليست سوسيولوجية حقيقية مادامت، في مختلف أعمالها، لا تحترم الشروط الأكاديمية بحذافيرها. ولعل هؤلاء لم يعترفوا بها إلا بعد بروز نجمها في العالم وترجمة كتبها لمختلف اللغات.
زاوجت فاطمة المرنيسي، كما تابعنا في الجزء الأول، بين قراءتها للواقع والتراث قصد تسليط الضوء على عتمة ذكورية طمست فاعلية المرأة في المجتمعات العربية الإسلامية، وقد آخذت كما رأينا من يقولون إن قضية المرأة آتية من الغرب كما لو أننا نسينا ذاكرتنا على حد تعبيرها.
في هذا الجزء الثاني والأخير، نتابع رأي فاطمة المرنيسي في مفهوم الحريم وفروق وجوده في مخيالي الغرب والشرق، ثم ما كانت نظرتها إلى موقف الإسلام من المرأة؟ كيف تعاطت مع القضايا النسائية؟ وتقيم وجود المرأة في الفضاء العام بالمغرب اليوم؟
يقول أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس، يونس الوكيلي، في مقال نشرته مؤسسة “مؤمنون بلا حدود”، إن فاطمة المرنيسي فاجأت الباحثين، حينما بينت في كتابها “شهرزاد ترحل إلى الغرب” أن مفهوم الحريم لا يصلح وحسب لقراءة التراث الإسلامي فقط، بل أيضا يفيد في قراءة تراث الفكر الغربي حول النساء.
هكذا، لم تتردد المرنيسي في القول بناءً على نتائج أبحاثها، إن مفهوم الحريم في الغرب أشد احتقارا للمرأة من مفهوم الحريم في الشرق، فـ”إذا كان الحريم في الشرق يحيل على واقع تاريخي ومتخيل للنساء قوة فيه، وأبعد ما يكون عن الشهوانية والفراغ والعري، فإنه في المخيال الغربي يحيل على نساء خاضعات ومستسلمات، يشكلن مرتعا للهو”. المنع الذي حيطت به كتب المرنيسي عربيا، بسبب جرأة أفكارها وتناولها لمواضيع عدت من الطابوهات، ساعدت في الحقيقة كثيرا على انتشارها، حسب بعض الباحثين. بل إن ما لا يعرفه الكثيرون عنها أنها أصدرت أول كتبها باسم مستعار وهو “فاطنة آيت الصباح”.
فاطمة المرنيسي وفق كتاباتها، لم تخالف ما ينبع عن الإسلام كديانة، فهي رأت في الحجاب مثلا، وسيلة لتبخيس المرأة جاءت من طرف مَن تناول النص الديني بالتفسير؛ أما موقف الإسلام من المرأة، فهي قد دافعت عليه قطعا، حسب بعض الباحثين.
بل وتؤكد المرنيسي أن النساء لعبن دورا مؤثرا وإيجابيا في التاريخ العربي الإسلامي وتقلدن أحيانا أدوارا سلطوية، غير أنه تم إقصاؤهن من كتب الوصف التاريخي البطولي للحضارة العربية الإسلامية، بمقابل حصر هذه الإنجازات على الرجال.
المنع الذي حيطت به كتب المرنيسي عربيا، بسبب جرأة أفكارها وتناولها لمواضيع عدت من الطابوهات، ساعد في الحقيقة كثيرا على انتشارها، حسب بعض الباحثين. بل إن ما لا يعرفه الكثيرون عنها أنها أصدرت أول كتبها باسم مستعار وهو “فاطنة آيت الصباح”. الكتاب كان “المرأة في المخيال المسلم”، وقد صدر في فرنسا (باللغة الفرنسية) سنة 1982، قبل أن تبدأ المرنيسي بنشر كتبها باسمها الحقيقي.
تعرضت المرنيسي لوابل من الانتقادات، خصوصا من طرف زملائها في الجامعة، الذين كانوا يعتبرون أنها ليست سوسيولوجية حقيقية مادامت، في مختلف أعمالها، لا تحترم الشروط الأكاديمية بحذافيرها. ولعل هؤلاء لم يعترفوا بها إلا بعد بروز نجمها في العالم وترجمة كتبها لمختلف اللغات.
في السنوات الأخيرة من عمرها، توقفت فاطمة عن التعاطي المباشر مع القضايا النسائية، ذلك أنها رأت أن المرأة قد بدأت أخيرا تخطو في الطريق الذي كانت تحلم به.
تقدم فاطمة مثالين، يفسران حسب رأيها هذا التراجع. أولا، لأن المرأة قد بدأت تخرج اليوم للشارع، بعدما كانت فيما قبل، مثلا، تعجن الخبز ولا تخرج لبيعه. تقول فاطمة: “نرى أن جل الباعة المتجولين نساء، ومن ثم فالمرأة لم تعد حبيسة بيتها، إنما صارت هي أيضا تخرج إلى الشارع، وهذه بالنسبة لي ثورة اقتصادية باهرة”. في السنوات الأخيرة من عمرها، توقفت فاطمة عن التعاطي المباشر مع القضايا النسائية، لكنها استمرت في إطار نضالها من أجل المساواة وحقوق المرأة، إذ أسست ما سمي بالقوافل المدنية. هذه القوافل قادتها إلى جبال الأطلس بغية إشراك المرأة القروية في خضم أسئلة المجتمع.
أما المثال الثاني، فتقدمه عن ولوج النساء إلى القنوات الفضائية العربية، إذ تقول أن هذا الأمر غيّر تماما من عقلية وتفكير منطقتنا، وتضيف: “نجد في هذه القنوات حوارات تجمع بين النساء والرجال، وهذا الحوار حوار رمزي أساسا، وهذا الأمر بالنسبة لي يعد ثورة أيضا، فالإسلام في الأصل، حوار، حوار بين الجنسين”.
لكن فاطمة، استمرت في إطار نضالها من أجل المساواة وحقوق المرأة، إذ أسست ما سمي بالقوافل المدنية. هذه القوافل قادتها إلى جبال الأطلس بغية إشراك المرأة القروية في خضم أسئلة المجتمع. ويُعرف عن فاطمة حوارها الدائم مع الشرائح المهمشة في المجتمع، إذ تعتبرها شرائح خلاقة ولها قدرة فائقة على الابتكار.
تقول كاشفة عن سر ذلك: “ولدت في مدينة فاس، في شارع يوجد قبالة جامعة القرويين، وهذه الجامعة لديها 17 بابا. وهكذا كانت جامعة مفتوحة، فالبائع المتجول بعد أن يبيع ما يبيعه، كان يدخل بعد العصر إلى الجامعة ليستمع إلى المحاضرات التي يلقيها الأساتذة هناك”.
وتضيف: “هكذا، ولدت في عالم ليست فيه أي قطيعة بين الشارع والنخبة المثقفة، الشهادة فيما قبل لم تكن تباع، وكانت أبواب العلم والمعرفة مفتوحة للجميع، لكن ما حصل للأسف في العالم العربي أن هناك قطيعة بين النخبة المثقفة والشارع”.
لقاء ما قدمته لعلم الاجتماع، للمرأة وللمجتمع كافة، ستحصل فاطمة المرنيسي سنة 2003 على جائزة أستورياس الإسبانية للأدب، وسنة 2004، على جائزة إراسموس الهولندية عن محور “الدين والحداثة”، بل وصنفت حسب صحيفة الغارديان البريطانية، ضمن النساء المائة الأكثر تأثيرا في العالم سنة 2011.
…عن عمر يناهز 75 عاما، تحديدا، في 30 نونبر 2015، ستفارق فاطمة المرنيسي الحياة، والعالم في غمرة حديث عن أعمالها وعن أفكارها، لتشكل بذلك، أحد أبرز علماء الاجتماع في تاريخ المغرب.
المصدر/ ماريانا