(ق ق ج) وأخطاء الكتابة..
إنّ القصّة القصيرة جداً، تمرّ بنكسةٍ إبداعية، لسوء الفَهم، و الانجرار و راء الاسْتسهال، و الاسْتعجال ، والرَّغبة في الظّهور و لو بِدون اسْتيعاب لهذا الجِنس، و لا لِمقوماتهِ الفنِّية ولا لفلسفَته التي منْ أجْلها وُجد و عمَّ و انْتشر …و إن كانَ ــ مع الأسَف ـ قد حقق انْتشاراً مَرضياً.و ككلِّ مرضٍ لهُ أسبابٌ. سَنحاولُ باقتضابٍ رَصد بعضها:
1ــ اللّغــة: ليسَ كلُّ لغةٍ و تَركيبٍ، يَصلحُ لهذا الجنْس، فكَما أنّ للشِّعرِ لُغته الخاصَّة، و للرِّوايةِ و القصَّة القصيرةِ.. كلّ لهُ لغتهُ الخاصَّة و المُتميِّزة .. فللقصِّ القصيرِ جداً لُغتهُ التي أساسُها “الزّايات الثلاثة”:التّركيزُ، و الإيجاز، و المَجاز. التّركيز: إبعاداً لأيّ شططٍ أو ألفاظ زائدة، و التّمركز حول فكرة النّص أولاً و أخيراً. الإيجاز: حفاظاً على الحجم و قصره، و تحقيق مُبتغى و دلالة كلمة (جداً) فضلاً عن تحقيق جانبٍ هامٍّ من التَّكثيف اللُّغويّ. أمّا المَجاز: تجنّباً للمباشرة و التّصريح، و رغبة في تحقيق الإشارة و التّلميح. و بثّ الحكي و الحلم و التّخييل…
والخطأ هنا ،أنْ نجعلَ التّركيزَ مُهلهلاً كتوظيف السّارد الثّرثار..أو الإيجاز مجحفاً، مبالغاً فيه. فيضيع المَسار السّرديّ، و الخطاب القصصيّ بسبب جمل مُتقافزة، لاهتة.. و الخطأ أيضاً أن يُصبح المجاز إشكالية فهم، لسوء التّركيب، و قصور البِناء، و ضحالة المَعنى.. فالمشكلة ليسَ في عدم استحضار أدوات العمل بشكل كامل، و لكن أيضاً في سوء استعمالها. و من تمَّ، فكاتب القصّة القصيرة جداً، لا بدّ أن يكون مُلمّاً و مُتمرّساً بضروب البلاغة.و مُقتضيات سيميائية النّص.. تجنباً لِلُغة المعنى الحقيقيّ المُباشر. وعملاً بظلالِ الدّلالة (Connotation) .
2 ــ الرَّمــز. القصّة القصيرة جداً، قصّة رمزية بامتياز. و الرَّمز يُساعد على تحقيق خاصية الإيجاز، والتَّكثيف (la condensation) اللّغوي. لأنّه هو نفسه يوجز كلاماً مُستفيضاً، و يلمِّح لأشياء لا تُكتب، و لا يُفصح عنها السَّارد، فيحقِّق المقاربة الاختزالية ، و يكتسب النَّص أبعاداً أخرى متنوعة،و مختلفة، تحفّز القراءات،و تثير التّأويلات،انطلاقاً من البنية الرَّمزية، و تقنية القصّ، و أسلوب السَّرد، و لغة الحكي..
و الخطأ هنا، أنْ يصبح الرّمز هو الهدف و الأساس، بيد أنّه مجرّد وسيلة، و تقنية فنّية ليس إلاّ.و الخطأ أيضاً، أنْ يُفهم الرَّمز كشرط ضَروري (ِCondition nécessaire). فالنَّصّ وفكرته، و ظروف الكتابة، و احتمالاتها .. هي التي تسمح به أو تتلافاه، رغم أهميته و دوره في بناء النَّص القصير جداً، كما هو شأنه في مختلف صنوف الإبداع.
3 ــ المفارقة: (Paradoxe / L’ironie) تقنية أخرى تستند إليها القصّة القصيرة جداً. لخلق و تعميق الصّراع المَشهدي، و الفكري، و بث الدّهشة و المسارات الصورية الغرائبية، و فق بنيات لغوية مختلفة، انتهاكاً للمألوف، و خرقاً لنسقية المَعروف، و الإيغال في كسر أفق المتلقي .. و ذلك بالجمع بين المتنافرات، و الأضداد ، و التئام بين النقائض في صور مركبة، تفيد: التعريض و التّورية، و الذّمّ بما يشبه المدح، و المحاكاة الساخرة و ; و السّخافة والتّهريج (Grotesque) و التهكم و الهزل .. و ليس دائماً، فقد تأتي المفارقة في التّوافق و التشابه فتحدث الدّهشة و تدعو للتّأمل و التّدبّر كالذي نجده في نص “توافق” للقاص العراقي : مجيد حنون:
” يراقبه الرجل العجوز من فتحة الباب، يتشمّم رائحة طعام..يفتش حواليه، ثم يتسلّق جسد برميل القمامة، ليستوي عليه. يتحسّس بأنف مرهف مرتجف رائحة الطعام المخبأ هناك. فيدور حول الفوهة المستديرة. ثمّ يدور و يدور ليجدها مغلقة بإحكام. يهبط الأرض خائباً مخذولا و يولي الأدبار.. كان العجوز الرابض على كرسيه في المطبخ جائعاً ينتظر بلهفة من يَستيقظ من نومه الثَّقيل ليعدَّ له طعام الإفطار.”
و الخطأ في المفارقة على أهميتها، قد يُهملها البعض، فيأتي النّص كموجز إخباري، أو في أحسن الأحوال مجردَ سرد أفقي لحدثٍ ما، خالٍ من الدّهشة أو المفاجأة. و هذا يعني، أنَّ شيئاً هامّاً و مُميَّزاً في هذا الجنس قد ألغى، إمّا إهمالاً، أو نِسياناً، أو جهلا..
و الخطأ أيضاً أنْ تأتي المُفارقة غير مَحبوكة ومَسكوكة بل تبدو و كأنَّها مُفتعلة، و مُصطنعة فتفقد قيمتها الدّلالية و الفنّية، و الفعلية.. و يكونُ لذلك تأثير سلبي على بنائية النّص برمَّته،إذْ ينطفئ فيه الوَهج الفنّيّ الابداعيّ لانعدام أنطلجية التَّخييل المُلْهِم ( L’inspirateur).
4 ــ التَّشاكل (Isotopie)
و المراد به الخلط و عدم التّمييز بين (ق ق ج) و الشّذرة و غيرها..
وهو أمر شائع بشكل فظيع، فأغلب ما يكتب تحت مسمى ( ق ق ج) إنّما هو شذرة. و الغريب، أنّ الكاتبَ يكتب شذرة و لا يعلم ذلك. وشتّان بين (ق ق ج) و الشّذرة. فإذا كانا معا يتّفقان حول قولة فيثاغورس: ( لا تقل القليلَ بكلماتٍ كثيرة، بل الكثير بكلمات قليلة.) فهذا جعلهما يعتمدان التّكثيف، والإضمار، والإيجاز، والحذف، والتّركيز، والتّبئير.. إلا أنّهما يختلفان في التّجنيس و الإبداعية (Créatrice) فالشّذرة نفور من التّحليل العقلانيّ المنطقيّ، وتفاد للكتابة النّسقية، و اتباع شِعرية الانفصال، و بلاغة التّشظي. و التّأملات الذّهنية و الوجدانية، و المبالغة في الخيال، و الذّاتوية و الرّؤى الفلسفية في علاقة بالذّات و المجتمع …
و ( ق ق ج) على خلاف ذلك تماماً، لأنَّها سرد قصصي، بين جملته الأولى و الأخيرة حكي نسقي، وغير نافر من التّحليل العقلانيّ، و لا متشظ متفكك، و لا يَغرق في الخيال..بل القصّ ومساره و إنْ كان يتقاطع و مسار الشّذرة في بعض الوجوه الفنّية، إلا أنّه لا يمعن فيما أمعنت فيه. و تبقى بذلك الكتابة الشّذرية (l’écriture fragmentaire) مختلفة كلّياً عن الكتابة القصصية. كما يوضّح ذلك علم السّرد.
و الخطأ هنا ، الخلط بين (ق ق ج) كحكي متكامل شكلا و مضموناً، و(الشّذرة) كتأمّل وشعرية، و تشظ، و ذاتوية نرجسية.
و الخطأ أيضاً في اعتبار الطّرفة السّاخرة، و الحكمة المنطقية ، و المثل السّائر، و الخاطرة التأمّلية .. (ق ق ج) ،و النّسجُ على منوالها.
5 ــ البنية النّهائية (Dénouement)
ما يسميه بعض منظري هذا الجنس بـ ( القفلة)، و لا أجده مصطلحاً مناسباً، و أفضل بدلا من ذلك مصطلح ( الخَرجَة) لأنّ (ق ق ج) لا قفل لها.بل تنتهي بأبواب و نوافذ مُشرعة، رغبة في التّأويل، و تعدّد القراءات..
لهذا كانت بنية الخَرجَة تتطلب حرصاً، و تقنية دقيقة، و وعياً بالكتابة، لأنّها الجملة الأخيرة في النّص، فينبغي أن يكون لها بالغ الأثر و التّأثير في نفسية المتلقي، سواء في اختيار كلماتها،أو تركيبها،أو دلالتها،أو تلميحها و إشارتها..
الخطأ هنا، أنّ جملة الاختتام، تأتي في بعض النّصوص نهاية للقصّىة بمعنى الكلمة. و الواجب في هذه الحالة، أن تكون ختماً افتراضياً مفتوحاً للمكتوب على الورق، لتقصي أبعاده و مراميه، و التماس مساراته التّأويلية…
و الخطأ أيضاً، الإتيان بخرجة لا تنبثق من فكرة النّص، أو أن تكون ارتجالية، أو تجريدية تستعصي على الفهم، بله التّأويل، فبدلَ أن تساعد على فسح مجال القراءات تصبح معضلة، و أزمة نصّية. تحول دون المتعة القرائية، و الفائدة الدّلالية ..
6 ــ الرّؤية الإنشائية ( vision poétique)
و نعني بها الاهتمام ـ خطأ ـ بالقيمة الجمالية بدل الدّلالية، أي الحرص على اللّغة الشِّعرية المُكثّفة. بتوظيف لضروب البلاغة: من كناية، و استعارة، و مجاز.. و لكن بشكل مبالغ فيه.
لا نختلف أنّ الكتابة الإبداعية، فنّية، و جمالية، تخصّ كلّ الأجناس السّردية. و منها القصّة القصيرة جداً ، التي تحتفي بكلّ ما هو شاعري، فمن وراء ذلك ــ لا شكّ ــ صور سردية، و إيحاءات سيميائية، تضفي على النّص روعة و جمالا فنّياً، يعمِّق من فكرةِ النّص، و يجعله في إطار من الاهتمام و التّدبّر. و بِخاصّة إذا ما استفيد من الرّؤية الإنشائية استفادة ذكية، تكون في خدمة النّص، و أبعاده التّأويلية ..
و لكن الخطأ هنا،هو اعتبار الشّكل منتهى المَرام، حتّى و لو عن غير قصد، و منتهى الإبداع..و لو دون إقرار بذلك ..علماً أنّ الشّكل رغم كلّ فنّيته، إن لم يكن في خدمة النّص كفكرة و مضون، فهو لا يعدو أن يكون بهرجة لغوية ليس إلا. وهذا لا يعني أنّ المضون أهمّ و أولى، ولكن أهمية النّص القصصيّ في تكامله، و وحدته، و انسجامه، و تلاؤمه.. شكلاً و مضموناً.
و من الخطأ أيضاً، أن تكون كثافة اللّغة الشّعرية تشكِّل بنية مُهيمنة ، و سواء عن قصد أو عن غير قصد. فإذا كان الشّكل الشّاعري أهمّ ما يسترعي انتباهَ المُتلقي، فهذا قد يصرفه عن دلالةِ النّص، و خطابه المُرتقب.
يتبع … تحياتي/ مسلك