من ذكريات نقد ال (ق ق ج) (9)

من ذكريات نقد ال (ق ق ج) “9”

في شتاء 2006 جمعني ملتقى القصّة ببيروت بمثقف أردني، إذ كنّا معا نشترك حجرة الفندق، كان رجلا في الستين أو أكثر قليلا. علمت أنه كان أستاذا متقاعدا قاصا بشوشا طلقا ..من مدينة الزّرقاء، كثير النّكت و المُستملحات، كلامه في الغالب باللّغة العربية الفصحى، و قليلا ما يتكلّم بلهجة أردنية. حدّثني كثيرًا عن الأعراف و التقاليد الأردنية و بخاصّة في مدينة الزّرقاء التي كان يبدو أنّه معجب بها.لأنّه ولد و نشأ فيها، كما حدّثني عن أصوله الفلسطينية.. وعن أبنائه و حفدته …

بعد انتهاء عروض الملتقى، خرجنا معًا نكتشف شارع الحمراء. فباغثنا المطر. فلجأنا إلى متجر لبيع الحلويات و بخاصّة الشكولاطة التي عُرضت في أشكال مُغرية. كان المتجر دافئًا تغمره رائحة الحلويات المختلفة.. و فجأة ظهرت فتاة كملاك نزل من السّماء. لم تقل شيئًا ،استقبلتنا بابتسامة عذبة، فانبرى رفيقي و هو ينظرها قائلا بدهشة و بلهجته الأردنية :

ــ شو هاد.. شو هاد ؟ أترى ما أرى ؟
فاستمرت الفتاة مُبتسمة، كما لو راقها إعجاب الرّجل، فتلعثم و هو يسألها عن أثمنة الحلويات، و كأنّه لم ير أثمنتها مثبتة ثمّ قال لها فجأة:
ــ أيّتها الحلوة .. هل كلّ ما في المتجر للبيع..؟
فأومأت برأسها، و الابتسامة تتلألأ في ثغرها.. فقال لها :
ــ ما دام كلّ شيء للبيع، أريد أن أعود إلى الأردن بأحلى تذكار من بيروت..
فطافت الفتاة بعينيها الكبيرتين في محتويات المتجر، و كأنّها تقول له لك الاختيار، كلّ ما هنا فهو لك..
التفت إلي، فنظرني بمكر و أنا غارق في خجلي..ثمّ قال لها:
ــ أنا لا أريد أن أعود إلى الأردن إلا و أنتِ معي…
فضحكت الفتاة.. التفتُ فوجدت المطر خلف الزّجاج قد توقّفَ ، و سير المارة بدا عاديا. فقلت لرفيقي:
ــ لننصرف إنّ …
فقاطعني و هو ينظر الفتاة ..
ــ انصرف أنت كما تشاء..أنا سأمكث هنا إلى الأبد …
حاولت أن أغريه بالمغادرة بدون جدوى، خرجت و أنا أظنّه سيتبعني و لكنّه لم يفعل. في المساء، في الفندق، جاء يحمل علبة شكولاطة.. فبادرني :
ــ ما بك أيّها المغربي؟ ! أكلّ المغاربة مثلك ؟! مَلاك و الله ملاك.! كأنّها تاهت عن الجنّة، و انت تمضي و تتركها، و تأتي إلى غرفة الفندق المملة؟ خذ هذه العلبة، أنا لا آكل الشكولاطة. و لا الحلوى، يكفي ما بي من سكّر ..
ــ و لكن لماذا اشتريتها ما دمت تعاني من السّكّري؟
ــ أنت السّبب.. لقد رفعت درجة سكّري.. لو بقيت معي ما فعلت …
* * *
كان شخصية غريبة الأطوار…! و لكنّه رغم كبر سنّه.. كان مَرحًا بشكل لا يتصور.. لا تملك إلا أن تحبّه..
في الصّباح و على مائدة الفطور بالفندق، فاجأني بنص (ق ق ج ) قائلا:
ــ لا فطور حتّى تقول لي رأيك في هذا النّص، لقد كتبته ليلة أمس، و أنت في شخيرك المزعج. .
ــ أوَ تكتبُ ال (ق ق ج) ؟!
ــ لا تندهش، هذا نصي الأوّل أو الثّاني ..أكتب القصّة القصيرة فقط.
و أنا أتسلّم منه ورقة النّص، خمنت أنّه مجرد خاطرة أو كلام عاد..ليس إلا .
فكان النّص كالتّالي:

“حين طلعت كشمس فجر و ليد.. ! وقف دونها كلّ جميل و انحسر .. استعدتُ شبابا ولى.. غادر صاحبي.. مكثتُ وحيدًا أُسائل بَسمات ثغرها.. لم تقل شيئًا أبدًا .. كلّ أسئلتي ذابت في متجر الحلوى، كأنّني لم أسال، كأنّها لم تسمع.. لا.. لقد راقها مزاحي ! فجأة.. ظهر من خلفها أنيقٌ، سألني عن حاجتي، و أخبرني أنّ الشّمس لا تتكلّم .”

* * *

اندهشت مرتين : لقد كانت الفتاة الجميلة بكماء ..؟!
و كان النّص بهذا البهاء ؟ !
فألحّ رفيقي أن يعرف رأيي و أنا مشدوهًا.. فقلت له:
لو كتبتُ في نفس السّياق، لن أكتب أجمل من هذا .. فما عنوانه؟
تنهد ..ثمّ قال و هو ينظر سقف الحجرة:
ــ شمس .

* مسلك *

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.