التّعبيرية ( Expressionisme) التي جاءت بعد التأثرية فاستفادت منها و خالفتها في خصائص فنّية.. استطاعت في فترة وجيزة لم تتجاوز خمسة عشرة سنة أن تفرض نفسها في مختلف فنون الإبداع كظاهرة فرضتها ظروف العصر أوائل القرن الماضي و ما تمخض عنه من حربين عالميتين، و جوائح و أمراض فتاكة..جعلت الإبداع يميل إلى التّعبير/ الحلم، أو التّعبير عن وا قع مشوّه، أو عن فنون مختلفة في إطار الإبداع من ذلك : فنّ الرّسم عند ” فان غوخ ” وفي المسرح جورج كايزر ، وبرتولت بريشت، و في السينما يوجين أونيل، وفي الموسيقى شتراوس .. و كما أثّرَت فهي نفسها تأثّرَت بأسلوب السّويدي “أوجوست سترندبرج ” و الشّاعر الأمريكي ” والت وايتمان ” و امتد تأثيرها من ألمانيا إلى روسيا فاعتنقها من حيث المضمون كل من : ليو تولستوي ودستوفسكي، و في فرنسا تأثر بها رامبو في ” الإشراقات” و بودلير في “أزهار الشّر “ فلا غرو أن نجد لها تأثيراً في الأدب العربي في مختلف الأجناس…أي التّعبير عن الذّات في علاقتها بالواقع على اختلافه و تباينه..
ففي قصيدة ” عاصمة البرتقال” نجد لفتة تعبيرية ذاتية، تربط الذّات الشّاعرة بواقع، يَختلف عن واقع االنّشأة: ظروفاً و ملابسات..فكان التّعبير عن واقع الاستقبال و الضّيافة:
القصيدة : عاصمـة البرتقــال
(بن خلاد)
بينَ أفنان الرُبا والبرتقــــــــالْ /// حالني السِحرُ نسيجاً من خيالْ
في(ابنِ خلّادٍ)تبدّا عابقـــــــــاً /// بالنسيمِ العذبِ مابينَ الظــلالْ
فانبرى الروضُ بهيّا خالِبــــاً /// أنعشَ الروحَ بِأبهى من مثالْ
طوّقونا كلَّ أصنافَ النّـــــدى /// كرماً ينضو نساءً والرجــــالْ
عَبِقٌ خُلقهمُ لمّا ســـــــــــرى /// لايُضاهيهِ على الجدودِ جمالْ
لمْ تزَلْ.منهمْ بروحي نكهـــةٌ /// مُذْ إليها الشِعرُ قد شدّ الرِّحالْ
وكأنِّي في رُباهــــا زورقٌ /// رامَ للدفء بطيّاتِ الرمـــــــالْ
كم سقتني من نـداها مطراً /// رائعَ المسرى بأرضِ البرتقالْ
فيُحاكيني على قيثــــارتي /// بصدى الأشواقِ واللقيا مُحالْ
لمْ أزَلْ للآنَ أشدو ذِكــــرها /// بقصيدٍ ينتضي حُسنَ المقـــالْ
على بحر الرمل جاءت قصيدة ” عاصمة البرتقال” للشّاعرة وفاء دلا
مطلعها مُصرّع:
بينَ أفنان الرُبا والبرتقالْ /// حالني السِحرُ نسيجاً من خيالْ
وكما يبدو جاءت العروض و الضرب محذوفين، أي حُذف سببهما الخفيف (تن) فبدل (فاعلاتن) أصبحتا ( فاعلا ) و قلبتا ( فاعلن )
و هذا يذكرني بقصيدة على نفس البحر ،جاء مطلعها مصرعا، و عروضها و ضربها أصابهما الحذف، كما أن رويها جاء (لاما ) تماماً كما هو الشّأن هنا . يقول الشاعر:
قلْ لمن يُضحي و يُمسي في مِطالْ/// جُدْ لمنْ أضحَى لدَيكم في خَبالْ
ــ العنوان: في كلّ عمل إبداعي يكون العنوان البؤرة ( Focus ) التي تحدّد الرّؤية و مجالها، أو تسمح بالتّخييل، و استشفاف المعنى.
(عاصمة البرتقال) جملة اسمية من مبتدإ محذوف تقديرها:(هذه عاصمة البرتقال) و من خصائص الجملة الاسمية أن تكون ساكنة، على عكس الجمل الفعلية التي تعتريها الحركة و الديناميكية . و هذا يلائم طبيعة الشّيء، إذ لا يمكن تصور البرتقال متحركاً، و لا أرض مَنبته متحركة، و بذلك تكون سميائية العنوان (Titrologie ) قد حققت بؤرة قصدية، مكانية.
الدّلالة : تنحصر في وصف مدينة ابن خلاد من خلال الأبيات الثلاثة الأولى: [ الأفنان ، الروابي، البرتقال، سحر (الطبيعة ) ما تثيره مــن ( خيال)، هبات (النسيم ) و وارف (الظلال)، و بهاء الرّوض..]
أمّا الأبيات الأربعة الموالية فكانت في مدح الخلادين و كرمهم:
[ الندى ، الكرم، من النّساء و الرّجال، و طيب الأخلاق ، و الجمال، ذكراهم لا تنسى، سيحتفي بها الشّعر و يردّدها بأحسن مقال ..)
و تنتهي القصيدة بثلاثة أبيات، تعود إلى الطّبيعة، لا وصفاً كالأبيات الأولى و لكن لما تركته بعناصرها المختلفة من أثرٍفي نفس الشّاعرة، و ما بثته من خيال و رؤى، فكانت أبيات تستلهمُ الجمال وبصماته في النّفس:
وكأنِّي في رُبـــاها زورقٌ /// رامَ للدفء بطيّاتِ الـــــرمالْ
كم سقتني من نداها مطراً /// رائعَ المسرى بأرضِ البرتقالْ
فيُحاكيني على قيثارتـــي /// بصدى
الأشواقِ و اللقيا مُحالْ
و الشّاعرة وفاء دلا كما هي في الشّعر الحديث ، أو حتّى في قصيدة النثر ..كلّما رامت إلى مجال الخيال، و التّصوير الشّاعري كلّما رقَّ شعرُها تعبراً،و انساب خيالًها انسياباً.. كما هو في هذه الأبيات الثلاثة، إذ راقتها الرّوابي المتموجة بالخضرة النّضيرة، فجعلت من نفسها زورقاً يخترقها، ويمخرها .. و يروم الدّفء بين طيات رمالها.. صورة ذهنية، قد لا تحاكي الواقع، و لكن تستلهم منه أجمل ما فيه، كما عبر عن ذلك أندري بروتون ( A. Breton) في عبارة شهيرة إذ قال: ” إنّ الصّورة إبداع خالص للذّهن ( Esprit) و لا يمكن أن تصدر عن مجرد المقارنة أو التّشبيه، إنّها نتيجة التّقريب بين واقعتين متباعدتين قليلاً أو كثيراً و بقدر ما تكون علاقات الواقعتين بعيدة وصادقة بقدر ما تكون الصّورة قوية و قادرة على التّأثير الانفعاليّ و محقّقة الشّعر.” ( Image et métaphore – Bordace- Paris- p5 et11 )
و يؤكد هذا محمد الوافي في ( الصّورة الشّعرية في الخطاب البلاغي و النّقدي ص/18) إذ يقول :” جوهر الصّورة الشّعرية ( الحسّ) و الصّورة المجردة هي شيءٌ مجرّدُ الدّلالة على آخر ملموس أو مجرد..”
الشّاعرة وفاء دلا في أغلب شعرها الذي اطلعت عليه تميل إلى التّعبيرية الشّعرية بمعنى محاكاة الواقع المعيش و مدى تفاعله و تأثيره في الذّات الشّاعرة. التي تبلور ذاك الدّفق الشّاعري الذي يجمع في تجانس تام بين واقع فنّي، و مشاعر ذاتية تنعكس على المتلقي في شكل رؤى ، و انفعالات تأثرية، و أحلام مضمّخة بالأمل ..