سألني الصّديق القاص عباس عجاج من العراق:
( أود معرفة رأيكم الشخصي في نصوص ناتالي ساروت “انفعالات” هل يمكن اعتبارها ق ق ج؟)
ــ نتالي ساروت ( Nathalie Sarraute ) قرأت لها روايتها الأولى ” صورة مجهول ” التي نشرت سنة 1948 و كنت يومها ما أزال طالباً في الجامعة. و لم تكن مصادفة، فاهتمامي بالسّرديات جعلني ألتهم التهاماً كلّ رواية تقع في يدي، أو نقد، أوتعليق…و أذكر في تلك الفترة كانت صرخة الرّواية الجديدة ( le nouveau roman ) عالية مدوية ، و كان فضولي السّردي يدفعني إلى تقصّي مستجدات هذا النّوع الجديد بالنسبة لي، لا أكتم أنني وجدت رواية (صورة مجهول ) لنتالي ساروت غامضة بعض الشّيء ما جعلني أعيد القراءة مراراً لبعض الصّفحات، لقد واجهت أسلوباً جديداً و مختلفاً عمّا اعتدته في الرّوايات الفرنسية السّابقة، فتفهّمت لماذا بعض دور النّشر رفضت نشرها و منها (جاليمار).و التي عادت و نشرتها بعد أن قدّمها جان بول سارتر. فلمّا حدّثتُ أستاذي في النّقد عن صعوبتها. قال لي و ماذا لو قرأت لها (Tropismes) ؟ ( انفعالات ) بحثت عن الكتاب فلم أجده، و لكن ظلَّ عنوانه راسخاً في، ذهني.و انتهت سنوات الدّراسة والتّخرج،و في ذات صيف من سنة من سنوات السّبعينات، و في مكتبة قديمة تبيع الكتب المُستعملة في باريز، و قع نظري فجأة على كتاب نتالي ساروت (Tropismes) تمسكت به و كأنّني كنت أخشى أن يضيع منّي. فلم أقرأ في تلك العطلة الباريزية إلا هذا الكتاب. و بعد ذلك قرأت مقالات حول الرّواية الجديدة و أعلامها مثل: نتالي ساروت، كلود سيمون، مارجريت دورا، روب جرييه، كلود مورياك .. و حين ظهرت القصّة القصيرة جداً، و عمّت في الوطن العربي، و انشغلتُ بها، فوجئت بمن يجعلها تتفتق من كتاب نتالي ساروت! كما اكتشفت بعد ذلك أنّ الكتاب ترجمَ إلى العربية تحت عنوان ( انفعالات )، و أنّ هناك من انتقد ترجمة العنوان و عرّبه بـ (انتحاءات ) كما اقترح ذلك نهاد التكرلي، فعاد اهتمامي بالكتاب من جديد, فوجدتني أغرق في حمأة السّؤال: هل كتاب نتالي ساروت رواية كما قرأتها و فهمتها منذ زمن؟أم هي مجموعة قصص قصيرة جداً.؟
وجدت المترجم فتحي العشيري يصنفها ببداية الرّواية الجديدة فيكتب : ( و لقد بدأت ملامح الرواية الجديد في الظهور منذ ثلاثين عاما إذا اعتبرنا نقطة انطلاقها ” انفعالات ” ساروت التي كتبتها سنة 1938) ص/21.من المقدمة. ثمّ يقول كلاماً حذراً متوجساً: (أما “انفعالات ” فيمكن إدراجها تحت بعض أنواع الخلق الأدبي كالقصّة و الشّعر الحر.. و لا يمكن في الوقت نفسه إدراجها تحت نوع من الأنواع الأدبية المعروفة أو غير المعروفة ) ص/27
و الغريب أنّ ساروت نفسها لم تشر لا من بعيد و لا من قريب إلى أنّ كتابها هو مجموعة قصص. و لم تكن روائية مبدعة فقط، بل كانت ناقدة أيضاً، و لها كتاب جمعت فيه مجموعة مختارة من مقالاتها النّقدية تحت عنوان : ( عصر الشّك ) سنة 1956
ثمّ أنّها أعادت نشر (انفعالات ) في طبعة ثانية سنة 1957 أي بعد تسعة عشر سنة، و لم تشر بأنّها مجموعة قصصية، فمن كان يمنعها أن تفعل ذلك؟ بل إنّها حذفت منها،و أبقت ثمانية عشرنصاً، و أضافت ستة نصوص فأصبح المجموع أربعة و عشرين نصاً .
و يعود المترجم فتحي العشيري بعد أن صنّفها رواية جديدة ، و بعدما لم يجد لها تصنيفاً فيما هو معروف و ما هو غير معروف ليقول عنها ( .. و كلّها قصص قصيرة جداً لا تتعدى أطولُها ثلاث صفحات، و يقع معظمها في صفحة أو صفحتين ) ص/ 29 من المقدمة.
إذاً هذا الخلط، في التّجنيس هو الذي أوحى ما أوحى ..فالمترجم يحتكم إلى الحجم…و الحجم لا يُقاس عليه في تحديد الجنس الأدبي . كما يحتكم لبعض الخصائص اأسلوبية مثل: ( عباراتها منفصلة، وكلماتها متباعدة )، و ( لا تستعمل العبارة إنّما تنثر الكلمات)،و ( كتابتها صعبة و لكنّها شيقة)…فهذه الخصائص لا تجعل كلّ نص ـ كما اتّفق ـ قصّة قصيرة جداً،لأنّها خصائص مشتركة، بين أجناس مختلفة…
ثمّ لماذا اعتبار كتاب ( انفعالات ) مصدراً للقصّة القصيرة جداً، كما يرى بعض النقاد العرب ، و هو ليس كذلك، فهناك من كتب القصة القصيرة جداً، و لم يطلع قطّ على هذا الكتاب. ثمّ أليس من الخطأ اعتبار كتاب ( انفعالات) الأوّل في مجال القصّة القصيرة جداً و قد سبقها همنجواي في العشرينات من القرن الماضي و عربياً نجد بعض كتابات جبران خليل جبران، كما نجد القاص العراقي (نوئيل رسام ) و قد كتب قصة قصيرة جداً بعنوان : ( موت فقير) سنة 1930 ثمّ قصّة أخرى بعنوان: ( قصة قصيرة جداً) فيكون بذلك قد سبق نتالي بسنتين، لأنّ أوّل نص كُتب في ( انفعالات ) كان بين 1932 و1933 و الكتاب كاملا نشر سنة 1938، و الملاحظ أنّ رسام وظّف المصطلح كعنوان: ( قصة قصيرة جداً).
بعد كلّ هذا ، يمكن أن أحدّد رأيي في كتاب ( انفعالات ) و قد قرأته بلغته و مترجماً إلى العربية ، كالتّالى :
1 ــ إنّ عاشق الرّواية الجديدة، بأسلوبها غير المَعهود و الذي يُخالف الأسلوب الكلاسيكي كلّيا. سيجد في كتاب ( انفعالات ) ضالته ، و لن يصنّفه إلا في إطار الرّواية الجديدة.
2 ـ إنّ المولع بالحكايا، و الأحداث التي لا تخلو من طرافة، و متعة ..سيجده كتاب حَكايا ليس إلا، لأنّه ـ فعلا ـ جُملة من الحكايا يميّزها التّنوع، و الغموض، و التّلميح .
3 ــ أمّا النّاقد الحصيف.. و بخاصّة ناقد القصّة القصيرة جداً ، فقد يجدها صنفاً من السّرد، و شكلا من الحكي .. و لكن لا يجدها قصصاً قصيرة جداً، ليس من حيث الحجم و الشّكل فحسب، بل من حيث النّسقية السّردية، والمَقصدية (L’intentionnalité) التّمييزية، و الانجاز الفنّي، و الخلاف الكبير في المقاربة التّركيبية فيما يُكتبُ من نصوص قصصية قصيرة جداً، وما كَتبَتْ نتالي ساروت يومئذ ..
موقع الدكتور مسلك ميمون
شاكرين لكم فيض ما تفضلتم به من جواب شاف و كاف
بوركت استاذي