قصص الفاخري أنموذجًا
محمد الغربي عمران *
قرأت ثلاث مجاميع قصصية قصيرة جدًّا, هي :عناق ظلال مراوغة, سحابة مسك, قهقهة شهيَّة. للقاصّ الليبي جمعة الفاخري ، صادرة عن الدار العالمية للنشر والتوزيع الإسكندريَّة لعام 2014.
والجميل أن الكاتب قد حدَّد زمان ومكان كتابته لكل نص, بحيث وضع تاريخ كتابته والمدينة التي كتبه فيها, لنجد تلك النصوص التي تجاوزت المئتي نص وقد توزعت بين عدة أمكنةٍ منها : اجدابيا وهي مدينة الكاتب، البيضاء بليبيا ، الإسكندرية ،القاهرة، طرابلس ،الدار البيضاء، الناظور، ومكناس.
جمعة الفاخري شاعر عربي من ليبيا، لديه ملكة حفظ لأجمل القصائد العربية, فكثيرًا ما نسمعه يترنَّم بأسلوبه الاحتفالي المميَّز وقد تجمَّع حوله الأصدقاء والصديقات في تلك الملتقيات الأدبية التي تنظم في مدن متفرِّقة من وطننا العربي، ولذلك جاءت قصصه القصيرة بنكهة شعرية مميزة, التي قل أن نلحظها في نصوص غيره، فتجد نصوصه وقد غمست بروح الشعر وفن السرد, ما يمنحها جزالة اللغة وثراء تراكيبها، إضافة إلى أسلوب الكاتب في توظيف مفردات إيحائيَّة من حكايات الأقدمين وقصص القرآن والتراث العربي.
وما بين يدي كتبها الفاخري بين سنة 2004 و 2013, حسب ما دون نهاية كل نص, وكون كاتبنا قد هبط من برق الشعر متمكِّنًا من خطواته مالكًا لأدواته, فلن يلحظ القارئ أي اختلاف بين بداية نصوصه وجديده كما هي لدى غيره حيث تكون البدايات ضعيفة .. فذلك النهر المتدفِّق منذ بداية أول نص والمطعَّمة بروح الشعر الذي يجيده الفاخري أيَّما إجادة قد منح تلك النصوص بريقًا خاصًّا ومميَّزًا.
إذًا هو وعي الكاتب بما ينجزه هو أول خطوات النجاح والتميُّز الواضح , والمعرفة بأركان القص وعناصره. بعد أن مهَّد له الشعر الطريق إلى التكثيف والاختصار غيرِ المخلِّ, وها هي المفارقة وكذلك عمق الفكرة وما تتركه في وعي القارئ من دهشة وتأمل.
الفاخري لم يقدِّم للقارئ تلك النصوص القصيرة بفكرة مختزلة، أو بشكلٍ جافٍّ مهموم كاتبه بالجانب الفنيِّ واكتماله دون الموضوعيِّ, بل نجد كاتبنا يهتم بالفكرة كمحور مهم وإيصالها إلى ذهن القارئ بشكل جذَّاب ومغاير. متميِّزًا في عدة جوانب منها:
– استخدامه وبشكل ملحوظ لنقاط الحذف في عدد كبير من نصوصه.. وهذا ما يجعل القارئ يقف مبهورًا لكثرتها , مشغولاً بمشاركة الكاتب في التخييل ومنها نصوص :ختام, التصاق, أمومة, التفات, أدوار, اختطاف, انطباق, مطر, مسك, نصفان, إعراض, استجواب,إلخ تلك النصوص الموشاة بالحذف. ما يعطي القارئ مساحة لإعادة تركيب النص استحضار ما يمكن استحضاره من كلمات لملء تلك المساحات, وهنا قد ينتج القرَّاء نصوصًا تختلف باختلاف قرائها, حسب تلك المفردات أو الجمل التي تخيَّلها كل قارئ لملء نقاط الحذف , وعلاقة تلك الكلمات والجمل بما سبقها وما يليها من كلمات النص الموضوع من الكاتب. فلو جئنا بعشرة قرَّاء وسلَّمناهم أحد النصوص التي توجد بها مساحة من الحذف وطلبنا تكملة فراغ المحذوف لقدَّم لنا كلُّ قارئ نصًّا جديدًا.
وهذا الأمر ما يجعل نصوص الفاخري مميزة أسلوبًا وشكلاً .. حيث جعل القارئ شريكًا مباشرًا وتحويله إلى مؤلِّفٍ ثانٍ لنصوصه.
– استدعاء التراث والقصص القرآنية وحكايات وأمثلة عربية قديمة من خلال مفردات ترسَّبت في وعي القارئ , بما يخدم فكرة النص وإيصاله بشكل أكثر ثراءً دلاليًّا ورمزيًّا . وهناك عشرات النصوص التي يقف القارئ لحظة قرأتها متأمِّلاً ورابطًا بين تلك النصوص التراثيَّة ونصوص الفاخري التي بين يدينا.
وبتلك الطريقة استطاع الكاتب استخدام مخزونه الثقافي وتوظيفه لإعادة إنتاج نصوصٍ تمزج بين الأمس البعيد وحاضرنا. وهذا ما يتطلب قارئًا غيرَ تقليديٍّ لفكِّ دلالات ذلك الربط بالكلمات بين ما هو كائن وما قد كان.. فمثالٌ : نص بعنوان كأكأة:
“تكأكأ النقاد على نصي,ككاكأتهم على ذي قصةٍ، صلبوه ، قتلوه نقدًا فحيا، أسرى على براق فصاحته معراجًا إلى القلوب…………أما أنا فأفرنقعت عنهم.”
وسيلاحظ القارئ مفردات ستوحي له بالكثير، مثل: صلبوه.. فحيا، أسرى ،براق، معراجًا.
ونصٌّ ثانٍ بعنوان ( تقارير) :
” أكدت تقارير صحفية ما يلي : أن كليبًا لم يقتل الناقة.. وأن البسوس لا تمتلك ناقة.. وجسَّاسًا لا قوس لديه ولا سهم ..فما مبرِّرك أيها المهلهل في هجر النساء وترك الطهارة ومعاقرة الخمر وإدمان الحروب؟ إنها صفقة مع الرواة المفلسين..وسماسرة التاريخ .. ومرتزقة الدراما ..!”
هنا اِستدعى كاتبنا تلك الحكاية التي يضرب بها المثل في الحروب الخاسرة والتي تقوم لأسباب خاسرة . هذه النصوص وغيرها استخدمها الكاتب , كما استعار مفردات من ( سورة يوسف ) في القرآن,مثل نص بعنوان سبق” أعدت لهن متكأً .. ذهبت لتحضره,…….. فاكتشفتهن قد سبقنها إلى قدِّ قميصه من ألف اتجاه” وقصة يوسف وما تحمله من رمزية ودلالة أعطت القارئ أفقًا واسعًا من التخيل في ثراء المعنى .
وهناك نصوصٌ عديدة استخدم مفردات الأمثال القديمة ,كـ ” قشَّة قصمت ظهر البعير”. وغيرها من الحكايات التراثية والدينية التي استدعاها الفاخري ليقرب للقارئ غاية النص ورسالته.
– الإيحاء للقارئ بفكرة موازية تتخلَّق في ذهن القارئ أثناء قراءته لنص ما لتكتمل تلك الفكرة الموازية للنص مع نهاية القراءة, وعلى سبيل المثال في نص بعنوان ( تشيُّؤ ) ، يقول: “رأى القلم الورقة فانتصب.. رأت الورقة القلم فانتفضت..بينهما كانت فكرة تتشيَّأ..!”
ذلك ما كتبه الفاخري.. ولكن ما أوحى به النص وما يمرز إليه من قلم وورقة.. وكذلك انتصب انتفضت.. فكرة تتشيَّأ.
وفي ظني أن هذا النص من أروع ما خطه الفاخري من حيث التكثيف والدلالات والترميز وما يدفع القارئ بخيال الفاخري إلى خياله.
نصٌّ آخرٌ بعنوان ( إنكار ) :
” لأول مرة ترى الصغيرة إذني حمار.. صاحت مبتهجةً: إنَّ له ضفيرتين مثلي تمامًا! بنهقة عالية,أنتفض الحمار منكرًا دعواها!” نصٌّ بعنوان ( فقدان):
” نهق الحمار فقلَّده الببغاء ناهقًا.. في صباح اليوم التالي غرَّد العصفور مبتهجًا .. أراد الببغاء تقليده فنهق!”
– صياغة نصوص تبدو ذاتية لكنها رمزية , يشير بها إلى ما هو أبعد من معانيها السطحية, مثل نصوص كثيرة يستخدم فيها الكاتب الظل ومنها نص بعنوان شجار”تشاجرت وظلي .. تدخَّل رجل الأمن لفضِّ الشجار.. اقتادني إلى مركز الشرطة..فتبعني ظلي شاهدًا” هنا لا يعني الظل بذاته, بل أنه نحن , ذلك الثنائي المتناقض, الذات وما تحمله من خير وشر, السلطة وما تعنيه من ظلم وعدل.
جلُّ نصوص الفاخري تدعونا إلى الغوص في أعماق ما أراد لها, في قراءة لا تتوقف عدن السطح ، وما يبرق به الظاهر بل أن نصل إلى باطن المعنى, أو أن اللذة في التأويل وقراءة ما خلف المفردات والجمل.
وما لاحظته أن عدة نصوص يستخدم الكاتب الظل فيها كعنصر محوري من عناصر إيصال فكرته, من نصوص الظل : انكسار, تسكُّع, تشفٍ, مرافقة, التفاف. وغيرها من نصوص الظل التي يستخدم فيها الفاخري خياله الخصب لتقديم عوالمه المدهشة.
– أمر آخر أختتم به هذه المقاربة وهو اهتمام الفاخري باللغة شكلاً وجوهرًا. فمن يقرأ نصوصه سيرى حرصه على تشكيل كل جملة ومفردة, بحيث لا يمكن لأي قارئ أن يخطئ في نطق أي مفردة وكأنه أراد بذلك إيصال المفردة ونطقها لتأتي بمعناها كما أراد.
وليس بالشكل يهتم كاتبنا بل بالتجريب في استخدامها.. ونحت مفردات واشتقاقات كثيرة سيلاحظ القارئ ذلك لحظات قراءة تلك النصوص المفعمة بالدهشة والتشويق.
والفاخري لا يسير في طريق سلكها من سبقه .. محاولاً جاهدًا التجريب موضوعيًّا وفنِّيًّا منذ أول نص له.
كما يقدِّم لنا نصوصًا مهمومة بالهم الإنساني.. مبتعدًا عن المحلية إلا فيما ندر, موجِّهًا نصوصه إلى الفرد بغض النظر عن دينه أو جنسه.
وبذلك يشعر القارئ بأن كاتبنا كائن بهم إنساني شامل , تلك النصوص تعبِّر عن إنسان الغاب والصحراء ، كما تناقش هموم وقضايا مجتمعات المدينة وتلك القضايا الوجودية.
نصوص الفاخري لا تقدِّم معالجاتٍ أو أجوبةً ؛ بل أنَّ كلَّ نصٍّ يبرعمُ لنا أسئلةً تعتملُ فينا فيما نعتقد ونجزم بأن تلك الأسئلة كانت تكمن بداخلنا .. تلك الأسئلة تفكك فينا تلك الثوابت القديمة لنحاول إعادة تركيبها من جديد.
الشكر لشاعرٍ مجدٍّدٍ .. أراد أن يدلو بدلوه في نهر السرد ، ليصدر حتى الآن أكثر من أثنتي عشرة مجموعة قصصية أكثرها في فن الق ق ج .. على الرغم من أنَّ له أكثر من خمسة دواوين شعرية مطبوعة.. وعدة كتب في الأدب.
* روائيٌّ وقاصٌّ من اليمــن.