التأويل عند العرب: من التراث إلى الفلسفة الحديثة
محمد الديهاجي
عن القدس العربي
تعني كلمة «تأويل»، في اللغة العربية، إرجاع الشيء إلى أصله أو تفسيره. نقول مثلا «أوّلَ الشيء» أي أرجعه إلى سيرته الأولى (معجم الوجيز). أما التفسير الاصطلاحي للكلمة، فهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتمله لدليل. وفي السياق الديني الإسلامي، يشير التأويل إلى محاولة فهم المعاني العميقة، أو الخفية للنصوص القرآنية والحديث النبوي، بما يتجاوز الفهم الظاهري أو الحرفي.
وغير خاف أن التأويل عند العرب والمستعربين القدامى، أو ما يعرف بالتفسير الباطني للنصوص، لعب دورا كبيرا في الفكر العربي منذ بداياته الأولى، سواء في العلوم الدينية، أو الفلسفية. كان التأويل وسيلة لفهم المعاني العميقة والرمزية للنصوص، بحيث بدأ بتفسير النصوص الدينية، كما أسلفت، لكنه سيتطور ليشمل الفلسفة والفكر الصوفي، وصولا إلى العصر الحديث، حيث سيعرف نقلة نوعية بتفاعله مع الفلسفات التأويلية الغربية.
التأويل في الفكر العربي القديم
من المعلوم أن بداية الفكر العربي الإسلامي، ارتبط بشكل أساس بفهم النصوص القرآنية والأحاديث النبوي. فعلماء التفسير مثل فخر الدين الرازي (مفاتيح الغيب) والطبري (جامع البيان عن تأويل آيات القرآن) والزمخشري (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) وغيرهم، طوروا مدارس مختلفة في شرح النصوص، محاولين استكشاف الطبقات العميقة من المعاني، والبحث عن تفسير دقيق للنصوص الدينية من منظور عقلي وروحاني، معتمدين على الآلة التأويلية وإن في مستوياتها الدنيا.
بعد ذلك سوف يتطور التأويل، في ظل هذا النقاش، مع تطور علم الكلام، خاصة مع المعتزلة والأشاعرة. فالمعتزلة (واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وابن سيار النظام) كانوا يفضلون استخدام العقل في تفسير النصوص الدينية، مؤكدين أن النصوص التي تتعارض مع العقل يجب أن تخضع للتأويل. ومن هذا المنطلق، فسروا الآيات التي تتحدث عن صفات الله بطرق مجازية، تجنبا للتشبيه أو التجسيم.
على الجانب الآخر، اعتمد الأشاعرة (أبو الحسن الأشعري والباقلاني والجويني) تأويلا محدودا، حيث اعترفوا بأن بعض النصوص يمكن أن تُفهم على مستويين: ظاهر وباطن، لكنهم أصروا على أن التأويل يجب أن يكون منضبطا بأدوات الفهم اللغوية والشرعية.
مع تطور الفلسفة الإسلامية في العصر العباسي، ظهر فلاسفة مثل الفارابي (الرسالة والعقل) وابن سينا (الإشارات والتنبيهات) وابن رشد (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) متأثرين بالفلسفة اليونانية، خاصة أفلاطون وأرسطو. لقد استخدم هؤلاء الفلاسفة التأويل كأداة لفهم العلاقة بين العقل والنقل، وتقديم رؤية فلسفية تتعامل مع النصوص الدينية والفلسفية بطريقة عقلانية. ومن ثم فإنهم لم يترددوا في التأكيد على أن النصوص الدينية تحتوي على معان رمزية، تُظهر حقائق فلسفية لا يمكن للجميع إدراكها.
ابن رشد كان بين أبرز هؤلاء الفلاسفة الذين اهتموا بمسألة التأويل، خاصة في سياق العلاقة بين الفلسفة والدين. فهو يرى أن التأويل وسيلة لفهم النصوص الدينية، خصوصا عندما تتعارض مع العقل أو العلوم البرهانية. فمن خلال التأويل، يمكن للنصوص الدينية أن تتوافق مع الفلسفة والعقل، دون أدنى تعارض. لقد اعتبر ابن رشد أن الشريعة تحتوي على حقائق يمكن للجمهور فهمها بظواهر النصوص، بينما الفلاسفة يجب عليهم أن يتعاملوا مع النصوص الباطنة والعميقة عبر التأويل، أي بما يتماشى مع العقل الفلسفي. وفي هذا السياق، يشرح ابن رشد ضرورة التأويل لأصحاب الفهم العميق قائلا:
«فإذا كانت هذه الشريعة حقا داعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنّا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له». (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ج1). في هذا المقطع، يؤكد ابن رشد بصفة قطعية، أن الحقيقة المستخلصة من النصوص الشرعية يجب أن تتوافق مع الحقيقة المستخلصة من العقل والفلسفة.
أما الصوفية، فقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث رأوا أن للنصوص معاني باطنية يمكن فهمها فقط من خلال تجربة روحية عميقة، لذلك نراهم يعتمدون على التأويل الرمزي والروحاني الذي ينقل النص من المستوى الظاهري إلى مستوى أعمق بكثير، معتبرين أن الحقائق الإلهية مخفية وراء الحروف والكلمات. والبين أن ابن عربي «الفتوحات المكية»، وشمس الدين التبريزي «مقالات شمس التبريزي»، وجلال الدين الرومي «المثنوي»، والنفري «المواقف والمخاطبات»، وغيرهم من المفكرين المتصوفة، طوروا طرقا جديدة لفهم النصوص الدينية بشكل رمزي وروحاني، مانحين التأويل بذلك بعدا آخر. فالنصوص بالنسبة لهم، ليست مجرد كلمات، بل إشارات إلى حقائق روحية عميقة تستوجب تأويلا قلبيا.. تأويلا يعتبر القلب مصدر فهم سرعان ما يتحول إلى حجاب. يقول النفري في هذا السياق:
وقال لي: كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة.
وقال لي: العبارة تُظهرُ عني، وتُقصي عني.
وقال لي: الفهم فناء، والفناء بقاء.
وقال لي: القربُ قرب الفهم، والفهم هو الحجاب».
(«المواقف والمخاطبات»، دار المعارف، مصر، تحقيق: آرثر جون آربري، 1969، الموقف الأول).
يتبين كيف أن النفري ، من خلال هذا النص، يشير بوضوح، عبر تأملاته الصوفية التأويلية العميقة، كيف أن المعاني الروحية قد تتجاوز حدود اللغة، وأن الفهم قد يكون حجابا يعيق الوصول إلى الحقيقة الأعمق.
التحولات في التأويل العربي المعاصر
قدمت التأويلية الغربية، خاصة عند غادامير وهيدغر، مفاهيم جديدة للفهم، مثل الأفق التاريخي والحوار، التي أثرت بشكل كبير على الفلاسفة العرب. فغادامير، على سبيل المثال، قدم فكرة مفادها أن الفهم ليس موضوعيا، بل هو نتيجة تفاعل بين النص والقارئ في سياق تاريخي وثقافي محدد. هذه الفلسفة سوف تجد لها صدى في العالم العربي، وإن بكثير من الحذر، أو لنقل بنوع من المواءمة تارة، أي بالتوفيق بين التراث والفلسفة الغربية. أفكر هنا في حسن حنفي، الذي حاول تطوير تأويلية إسلامية تأخذ بعين الاعتبار التراث الصوفي والفلسفي العربي، لكنها تستفيد أيضا من الفلسفة الغربية. يقول: «التأويل هو المفتاح الأساسي لفهم التراث وتجديده. فإذا كان النص الديني ثابتا، فإن تأويله يمكن أن يكون متعددا ومفتوحا، يُخضع للواقع والتطور» (التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم. الطبعة الثانية 1980)، وتارة أخرى بتبني النظريات الغربية جملة وتفصيلا. ولعل نصر حامد أبو زيد كان من بين أبرز هؤلاء. لقد كان أبو زيد يلح على أن النصوص ليست ثابتة المعنى، بل تتغير دلالاتها حسب السياق التاريخي والاجتماعي. ومن ثم فإن التأويل، بالنسبة له دائما، ليس مجرد استكشاف لمعنى مخفي، بل هو حوار دائم بين النص والقارئ في إطار التاريخ والثقافة. يقول: «النص ليس كيانا ثابتا جامدا، بل هو منتج ثقافي يتفاعل مع الواقع الاجتماعي والسياسي. وتأويله يجب أن يكون مرتبطا بالتاريخ والواقع الذي يعاش فيه» («مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن» ط1، 1990)
من خلال ما تقدم، يتبين أن التأويل عند العرب قد تطور من مجرد ممارسة دينية بحتة إلى ممارسة فلسفية وروحانية شاملة، متأثرة في هذا المسار الغني بالفلسفات اليونانية والعقلانية الإسلامية في أول الأمر، ثم الفلسفة الغربية الحديثة لاحقا، خاصة مع غادامير وهيدغر. هذا التفاعل أتاح للفكر العربي المعاصر إعادة النظر في النصوص، سواء كانت دينية أو فلسفية أو أدبية، من منظور جديد يجمع بين التراث العربي والفلسفة الغربي.
شاعر وناقد مغربي