(محمود محمد شاكر شيخ العربية وأديبها الكبير.. بلا منازع) .

أبو فهر محمود محمد شاكر

كتب الدكتور: يعرب بن قحطان:.

شهد عام 1997م رحيل رجالات علم وأئمة بيان وفكرٍ لا نظير لهم ولا خلف عنهم، بدءاً من شيخ نحاة العصر الأستاذ سعيد الأفغاني (18 فبراير/شباط 1997م) وانتهاءً بشيخ أدباء العصر محمود محمد شاكر (7 أغسطس/آب 1997م) ومروراً بمحمد مهدي الجواهري (29 يوليو/تموز 1997م) وبشيخ مؤرخي العصر د. شاكر مصطفى (1 أغسطس/آب 1997م).- لكنَّ أبعدهم أثراً في حمل راية العربية ونصرتها والدفاع عنها، والذَّود عن حماها، والتَّصدي لمن ابتلاها] هو محمود محمد شاكر الذي تفرَّد بالسؤدد بعد أن مضى عصرُ العمالقة، وغيَّب الثرى كبار أئمة البيان أمثال الرافعي والعقاد والمازني والزيات ومحمد كردعلي وزكي مبارك. فكان الشاهدَ الوحيد على ذلك العصر، والبقيةَ الباقية لثلَّة نفحت العربية بروح نابضة حيَّة بعد أن أتى عليها حينٌ من الدهر لم تعد شيئاً مذكوراً.-
ولا أحسب أحداً أوتي في ملكة النقد الأدبي وتذوُّق الكلام العربي عموماً والشعر العربي خصوصاً، واكتناه أسراره وتحسس خباياه ودفائنه – بعد الإمام الجرجاني- مثلما أوتي محمود شاكر، ومن شاء الوقوف على حقيقة ذلك فليقرأ كتابه (أباطيل وأسمار) حيث قرأ أبو فهر شيئاً من شعر أبي العلاء ففهمه على وجهه، وهدى الناس إلى فهمه، وأماط عنه ما لحقه من أذى أدَّى إليه سوء الفهم ؛ وَلْيقرأ مقالاته التي جعل عنوانها (نمط صعب ونمط مخيف) حيث تناول القصيدة اللامية المنسوبة إلى تأبَّط شرًّا.-
قراءة لا تحقيق:- كان شيخ المحققين كما نعته كثير من علماء عصره، ووصفه به الأديب العقاد حين قال: ((هو على رأس المحققين لأنه أديب فنّان)).. ولد في الإسكندرية 10/1/ 1327 الموافق 1/2/ 1909م، وانتقل إلى القاهرة في العام نفسه مع والده، إذ عُيّن والده وكيلاً للجامع الأزهر، وأخوه العلامة أحمد شاكر واحد من كبار محدثي العصر.
ويعد محمود شاكر ظاهرة فريدة في الأدب والثقافة العربية، فهو كاتب له أسلوبه المميز، وشاعر مبدع، بلغ إبداعه الشعري الذروة.
وظل سنوات طويلة في عزلة اختارها لنفسه، يقرأ ويدرس ويصدح في واحته الظليلة، لا يسمع شدوه إلا المقربون منه، تاركًا الدنيا ببريقها وأضوائها وراء ظهره، ولم يخرج من واحته إلا شاكي السلاح، مستجيبًا لدعوة الحق، حين يشعر بأن ثقافة أمته يتهددها الخطر.
بدأ بإعادة قراءة الشعر العربي كله، أو ما وقع تحت يديه منه على الأصح، وقرأ ما يقع تحت يديه من كتب أسلافنا من تفسير لكتاب الله، إلى علوم القرآن.
ثم انصرف إلى التعليم المدني، فالتحق بالمدارس الابتدائية والثانوية، ثم تعلق بدراسة الأدب وقراءة عيونه، وحفظ وهو فتى صغير ديوان المتنبي كاملاً، وحضر دروس الأدب التي كان يلقيها الشيخ المرصفي في جامع السلطان برقوق، وقرأ عليه في بيته: “الكامل” للمبرد، و”الحماسة” لأبي تمام.- وبعد اجتياز الثانوية ـ ورغم حبه للرياضيات، وإجادته للإنجليزية ـ فضل أن يلتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية لما شعر به من أهمية “الكلمة” في تاريخ أمته قديما، فلا بد أن يكون لها الدور الأكبر في مستقبلها. ولأنه كان من القسم العلمي فقد تعذر دخوله لكلية الآداب بداية، إلا أنه بوساطة من طه حسين لدى أحمد لطفي السيد رئيس الجامعة المصرية آنذاك استطاع أن يلتحق بما يريد سنة 1926.
ولكنه سرعان ما ترك الجامعة نهائيا بعد أن سمع من طه حسين أن الشعر الجاهلي منتحل وأنه كذب ملفق لم يقله أمثال امرئ القيس وزهير، وإنما ابتدعه الرواة في العصر الإسلامي.يقول عن نفسه: (فدخلت يومئذ بفضله- طه حسين- كلية الآداب، قسم اللغة العربية، وحفظ الجميل أدب لا ينبغي التهاون فيه. وأيضًا فقد كنت في السابعة عشرة من عمري، والدكتور طه في السابعة والثلاثين، فهو بمنزلة أخي الكبير، وتوقير السن أدب ارتضعناهُ مع لبان الطفولة.
وظللت أتجرع الغيظ بحتًا، وأنا أصغي إلى الدكتور “طه” في محاضراته، ولكني لا أستطيع أن أتكلم، أو أناظره كِفاحًا، وجهًا لوجه، وكل ما أقوله، فإنما أقوله في غيبته. تتابعت المحاضرات، وكل يوم يزداد وضوح هذا السطو العريان على مقالة “مرجليوث”، ويزداد في نفسي وضح الفرق بين طريقتي في الإحساس بالشعر الجاهلي، وبين هذه الطريقة التي يسلكها الدكتور “طه” في تزييف هذا الشعر. وكان هذا “السطو” خاصة مما يهز قواعد الآداب التي نشأت عليها هزًّا عنيفًا، بدأت الهيبة مع الأيام تسقط شيئًا فشيئًا، وكدت ألقي حفظ الجميل ورائي غير مُبال، ولم يبق لتوقير السن عندي معنىً.
وجاءت اللحظة الفاصلة في حياتي. فبعد المحاضرة، طلبت من الدكتور “طه” أن يأذن لي في الحديث، فأذن لي مبتهجًا، أو هكذا ظننت. وبدأت حديثي عن هذا الأسلوب الذي سماه “منهجًا” وعن تطبيقه لهذا “المنهج” في محاضراته، وعن هذا “الشك” الذي اصطنعه، ما هو، وكيف هو؟ وبدأت أدلل على أن الذي يقوله عن “المنهج” وعن “الشك” غامض، وأنه مخالف لما يقوله “ديكارت”، وأن تطبيق منهجه هذا قائم على التسليم يداخله الشك، بروايات في الكتب هي في ذاتها محفوفة بالشك! وفوجئ طلبة قسم اللغة العربية، ولما كدت أفرغ من كلامي، انتهرني الدكتور “طه” وأسكتني، وقام وقمنا لنخرج. وانصرف عني كل زملائي الذين استنكروا غضابًا ما واجهت به الدكتور “طه”، وبعد قليل أرسل الدكتور “طه” يناديني فدخلت عليه وجعل يعاتبني، يقسو حينًا ويرفق أحيانًا، وأنا صامت لا أستطيع أن أرد. لم أستطع أن أكاشفه بأن محاضراته التي نسمعها كلّها مسلوخة من مقاله “مرجليوث”، لأنها مكاشفة جارحة من صغير إلى كبير، ولكني على يقين من أنه يعلم أني أعلم، من خلال ما أسمع حديثه، ومن صوته، ومن كلماته، ومن حركاته أيضًا! وكتمان هذه الحقيقة في نفسي كان يزيدني عجزًا عن الرد، وعن الاعتذار إليه أيضًا، وهو ما كان يرمي إليه. ولم أزل صامتًا مُطرقًا حتى وجدت في نفسي كأني أبكي من ذلِّ العجز، فقمت فجأة وخرجت غير مودع ولا مبال بشيء. وقضي الأمر! ويبس الثرى بيني وبين الدكتور “طه” إلى غير رجعة!-
ثم انصرف إلى قراءة الأدب ومطالعة دواوين شعراء العربية على اختلاف عصورهم، حتى صارت له ملكة في تذوق الشعر، والتفرقة بين نظمه وأساليبه، وبدأ ينشر بعض قصائده الرومانسية في مجلتي “الفتح” و”الزهراء” لمحب الدين الخطيب، واتصل بأعلام عصره من أمثال أحمد تيمور وأحمد زكي باشا والخضر حسين والرافعي، الذي ارتبط بصداقة خاصة معه. ولم يكن محمود معروفًا بين الناس قبل تأليفه كتابه “المتنبي” الذي أثار ضجة كبيرة بمنهجه المبتكر وأسلوبه الجديد في البحث، وهو يعد علامة فارقة في الدرس الأدبي.
والعجيب أن محمود شاكر الذي ألف هذا الكتاب لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره، ولم يكن يقصد تأليف كتاب عن المتنبي، إنما كان مكلفًا من قبل فؤاد صروف رئيس تحرير مجلة المقتطف بأن يكتب دراسة عن المتنبي، ولكن هذا التكليف تحول على يد شاكر إلى كتاب مستقل، أنجزه في مدة قصيرة على نحو غير مسبوق، ونشرته مجلة المقتطف في عددها الصادر في يناير 1936م.وقد اهتدى شاكر في كتابه إلى أشياء كثيرة لم يكتبها أحد من قبله، استنتجها من خلال تذوقه لشعر المتنبي، وتم استقبال الكتاب بترحاب شديد، وكتب عنه الرافعي مقالة رائعة، أثنى عليه وعلى مؤلفه.
وكان هذا الكتاب فتحًا جديدًا في الدرس الأدبي، وتحديًا لأدباء العصر، فكتب بعده عبد الوهاب عزام كتابه “المتنبي في ألف عام”، وطه حسين “مع المتنبي”، واتهمهما شاكر بأنهما احتذيا منهجه، وسطوا على بعض آرائه، وهاجم شاكر ما كتبه طه حسين في سلسلة مقالات، بلغت 12 مقالاً في جريدة البلاغ، تحت عنوان “بيني وبين طه حسين”.وكانت حقبة الخمسينيات حقبة مشهودة في حياة شاكر، فقد ترسخت مكانته العلمية، وعرف الناس قدره، وبدأت أجيال من الدارسين للأدب من أماكن مختلفة يفدون إلى بيته، يأخذون عنه، ويفيدون من علمه ومكتبته الحافلة، فضلاً عن كثير من أعلام الفكر الذين كانوا يحرصون على حضور ندوته الأسبوعية كل يوم جمعة.
وقد انتفع بهذه الدروس كثيرون، وكان الأديب الكبير يحيى حقي يعلن في كل مناسبة: أن شاكر هو أستاذه الذي علمه العربية، وأوقفه على بلاغتها، وأن ترجمات كتب مالك بن نبي خرجت من بيت شاكر،.وفي ندواته الفكرية في بيته كان عارض عبد الناصر علانية، فألقت القبض عليه سنة 1959م، وبقي رهن السجن 9 أشهر حتى تدخلت شخصيات عربية، فأفرج عنه، وعاد لمواصلة نشاطه في تحقيق كتاب تفسير الطبري، الذي بدأ في نشره من قبل، وانتظمت ندوته مرة أخرى.وظل شاكر في عزلته الاختيارية بين كتبه وتلاميذه ومحبيه، لا يشارك في الساحة الفكرية بمقالاته وآرائه حتى بدأ لويس عوض في نشر سلسلة مقالات له في جريدة الأهرام سنة 1964م، تحت عنوان “على هامش الغفران”، وكان الكاتب قد لمع نجمه بعد تعيينه مستشارًا ثقافيًّا لجريدة الأهرام، وأصبح مهيمنًا على أمور الثقافة في مصر، وصار له حواريون وسدنة يبشرون بآرائه.وقد أثارت مقالات لويس عوض موجة من الشغب بين أوساط كثير من المثقفين، لما فيها من تحامل على المعري، ولم يجرؤ أحد على الرد سوى محمود شاكر الذي خرج من عزلته، وانبرى للويس عوض في سلسلة من المقالات المبهرة في مجلة الرسالة، كشفت عما في مقالات لويس عوض من الوهم والخلط التاريخي والتحريف في الاستشهاد بشعر أبي العلاء المعري، وعدم تمحيص الروايات التاريخية، والادعاء بتلقي المعري علوم اليونان على يد أحد الرهبان. وكانت مقالات شاكر التي ظهرت تباعًا حدثًا ثقافيًّا مدويًا، كشفت عن علم غزير ومعرفة واسعة بالشعر وغيره، وقدرة باهرة على المحاجاة والبرهان، ولم تقف هذه المقالات عند حدود الرد على كلام لويس، بل انتقلت إلى الحديث عن الثقافة والفكر في العالم العربي والإسلامي، وما طرأ عليها من غزو فكري، ولا سيما حركة التبشير التي غزت العالم الإسلامي.
وتدخل الناقد الكبير محمد مندور عند شاكر ليوقف مقالاته دون جدوى، وأصاب لويس عوض الذعر والهلع من مقالات شاكر التي فضحته بين أوساط المثقفين، وكشفت عن ضعف ثقافته حتى في تخصصه في الأدب الإنجليزي، حين كشف شاكر عن فساد ترجمته العربية لمسرحية الضفادع لأرسطوفان، وراح لويس يطوف على المجلات والصحف، يستنصرهم ضد شاكر، ويزعم أن المعركة بينهما معركة دينية، ولم يتوقف شاكر عند كتابة مقالاته حتى أغلقت مجلة الرسالة نفسها، وألقي به في غياهب السجن سنتين وأربعة أشهر من أغسطس 1965م، إلى ديسمبر 1967م، وقد جمعت هذه المقالات في كتابه “أباطيل وأسمار” الذي يعد من أهم الكتب التي ظهرت في المكتبة العربية في النصف الأخير من القرن العشرين.
وبعد خروجه من السجن عاد إلى ما كان عليه من قبل، فكتب في مجلة “المجلة” 7 مقالات إضافية تحت عنوان “نمط صعب، نمط مخيف” استجابة لصديقه الأديب يحيى حقي، حين أشاد بترجمة الشاعر الألماني “جوته” لقصيدة الشاعر الجاهلي “تأبط شرًّا”،
وعاش على أقل القليل يكفيه ويسد حاجته، ومرت عليه سنوات عجاف، لكنه لم ينحن أو يميل على الرغم من أنه لم يكن له مورد سوى عائده من كتبه، التي كان يقوم بتحقيقها، وكان اسمه على صدرها يضمن لها النجاح والرواج، ولم يكن يأخذ شيئًا على مقالاته التي يكتبها، فأعاد لمجلة العربي الكويتية سنة 1982م مئة وخمسين دولارًا، نظير مقالة كتبها ردًّا على الكاتب اليمني عبدالعزيز المقالح حول طه حسين، ورفض أن يتسلم من دار الهلال مكافأته عن تأليفه كتابه المهم “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”.
مؤلفاته:
1. المتنبي 1936.
2. القوس العذراء 1952
.3. أباطيل وأسمار 1965
.4. برنامج طبقات فحول الشعراء 1980
.5. نمط صعب ونمط مخيف 1969
.6. قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام
7.رسالة في الطريق إلى ثقافتنا 1987.
تحقيقاته:
1. فضل العطاء على العسر لـأبي هلال العسكري.
2. إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع لتقي الدين المقريزي.
3. المكافأة وحسن العقبى لأحمد بن الداية.
4. طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي.
5. تفسير الطبري للإمام الطبري
6. جمهرة نسب قريس وأخبارها للزبير بن بكار.
7. تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار للإمام الطبري.
8. دلائل الإعجاز لعبد القادر الجرجاني.
9. أسرار البلاغة لعبد القادر الجرجاني.دكتور: يعرب بن قحطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.