(الق ق ج ) و الفانتازيا

(الق ق ج) و الفـانتـازيـا

حين تقرأ نصا في (الق ق ج) و تقول هذا نص غير واقعي فأنت تعني أن النص لا ارتباط له بحياتك أو حياة الناس، و ربّما تتسرّع و تنعته بالخيال المريض، و بالهلوسة، و الهذيان..و ما إلى ذلك.. و لكن بفعلك هذا تكون قد ألغيت أدبًا كاملا ذو نسق خاص، عمّر طويلا ولازال بين أيدينا، يعاصرنا ، و منذ عهد الأساطير و المثيولوجية اليونانية الاغريقية الرومانية و الأشورية و البابلية.. إلى عهدنا هذا، عهد المسرحية، و الرّواية، والقصّة القصيرة و القصيرة جدًا. ذاك هو أدب الفانتازيا.( 1)
و كما عَرفه الغرب في كتاباته السّردية، و ملاحمه الشّعرية ، عرفه أيضًا العرب و من ذلك حي بن يقظان لابن طفيل، و رسالة الغفران للمعري، و ألف ليلة و ليلة…و تعريفُه في الموسوعة العربية:” الفانتازيا fantasy/fantasia في الأدب هي الأثر الأدبي الذي يتحرّر من قيود المنطق والشّكل والإخبار، ويعتمد اعتماداً كلياً على إطلاق سراح الخيال .. ويطلق هذا المصطلح على جنس أدبي قصصي تقع أحداثه في عالم متخيل، يخضع لقوانين فيزيائية تختلف عن العالم الذي نعيش فيه، ويتناول شخوصاً غير واقعية وخيالية محضة وغرائبية غالباً، أو يصور عالماً يخضع لقوانين فيزيائية لم تُكتشف بعد، أو ميتافيزيقية تتناقض والحاضرَ والتجربة الواقعية.”
و الفانتازيا في معجم المصطلحات الأدبية المعاصر:(عملية تشكيل تخيلات، لا تملك وجوداً فعلياً،ويستحيل تحقيقها)(2) ، أو لتعريف مصطلح (الفانتازيا الأدبية) في نفس المعجم: (عمل أدبي يتحرّر من منطق الواقع والحقيقة في سرده، مبالغاً في افتتان خيال القراء) (3 )

إذاً الفانتازيا: كتابة تحرّرية بالمطلق، ليس من حيث القواعد الضّابطة للّغة، و لكن من حيث التّراكيب، و إيحاءاتها، و سحر دلالاتها، اللاّ واقعية التّخييلية، التى تخترق حدود المنطق، و تجنح إلى الخيال، و التّحليق بعيدًا عن العالم المألوف . فتصنعُ عوالم كالحلم، كالخوارق ..تتَّسم بالغرابة..مصدرها الأسطورة، و التّراث الشّعبي و الخرافة .. و مع ذلك يشعر المتلقي بأنّها واقع داخل إطار الفانتازية..فيقبلها كمتخيل (Fantasmé) لأنّ الإسقاط الذّهني الذي يتأتّى بعد قراءة عمل قصصي فانتازي يوحي بأنَّ الواقع نفسه يتّسم بالغَرائبية (Instinctif) في بعض وجوهه : غرابة بعض طباع البشر، و الكائنات، و الأماكن..و هذا يسمى في النقد بفانتازيا الواقعية السّحرية. و إن كان للواقعية في الأدب وجوه منها: الواقعية والاجتماعية، والسّياسية، والتاريخية، والكلاسيكية،والشّعرية، والرّومانسية، والكوميدية.

و يبقى السّؤال: لماذا الهروب إلى خيال عجائبي بدون ضفاف ؟
1ــ إنّ الطّبع الإنساني يلتمس العجائبية في كلّ شيء، و يجد في ذلك جاذبية و متعة لاكتشاف عوالم موازية أو جديدة . يقول (خوليو كورتاثر): (الفانتازي والمُلغز ليسا فقط الخيالات العظيمة في السينما والأدب والقصص والروايات. بل حاضر فينا أنفسنا، في تكويننا النّفسي، ولا يستطيع العلم ولا الفلسفة أن يقدّما لنا إلا تفسيرات بدائية وأولية)( 4)
2 ــ إنّ النّصوص الفانتازية في مختلف الأجناس، لا تطرق العقل لعدم منطقيتها و لكن تستفزُّ اللاّ شعور، و تثير كوامنَه ، و مدّخراته المكبوتة، فيُحالُ كلّ ذلك على الوعي.
3 ــ واقعية الحياة، لا تدرك دائمًا بما هو واقعي حسّي كما تذهب إليه النّظرية الظّواهرية ، و إلا ما جدوى الخيال و التّخييل؟ فالمدرسة الخيالية تقوم على دعائم أبرزها الرّعب، والفانتازيا، و الخيال العلمي.

لذا كانت ـ أيضًا ـ الكتابة الفانتازية في (الق ق ج) ، فأضفت عليها رونقًا من الغموض الفنّي. حقّا لم تشكلْ لحدّ الآن ظاهرة كما هو الشّأن في الرّواية و المَسرح و الشّعر. و لكن بدأت تظهر نصوص من حين لآخر كدليل أنّ (الق ق ج) كما اتّسعتْ لكافة المَواضع، اتَّسعتْ أيضًا لكافة التّجارب التي عرفتها الأجناس السّردية الأخرى. لنتأمل هذه النّصوص في الإطار الفانتازي :

إسماعيل البويحياوي / المغرب من مجموعته: ( اشربُ وميضَ الحِبر)
طلاق
بمجرد ما لامس المخدة وجد نفسه برأسين..رأس معتكفة في غياهب النوم، و رأس تداعب قصة قصيرة جدا.. لعن الظلام، وراقص نور القلم حتى استقامت قصيصته..قبلته نسائم يوم جديد، لكن الهامة النائمة ترفض الالتحام بالهامة الكاتبة.. طلق الغافية، و عاش حياته برأس قصة قصيرة جدا .”

***
ماجد الحيدر ــ العراق”الإله الأعسر
لأنه كان أعسر.. كانت بقية الآلهة تعامله بطريقة أخرى.. تعتزله و تفرده.. و تسخر منه. تراكم الحزن في قلبه حتى أصبح عقدة مستعصية. فقرر اللجوء إلى طبيب نفسي شهير. لم يكشف شخصيته أمامه بالطبع. و مَن المغفل الذي يدخل على طبيب نفسي و يقول له:ــ مرحبا دكتور أنا الإله المختص بالـ..و لأن أولى مستلزمات التحليل النفسي هي الصراحة.. للكشف على ما ترسب في اللاوعي فقد فشل العلاج فشلا ذريعا. و ظل يعاني من عقدته..ففكر و فكر.. و أخيرا فكر أن يخلق من يشبهه في عزلته و وحدته..فانكفأ الناس عنه.. فخلق الشّعراء؟ “

****
زيد عبد الباري سفيان/ اليمن
لصوصية
شاهدتهم يُنفّذونّ حدَّ السّارق؛ فكّرت في منْ سرقتْ دموعي،قلبي، وعقلي…
ضحكت…ياللغباء كم تحتاج من الأيدي كي تتطهّر..؟!

****
محمد ياسين صبيح/ سوريا من مجموعته: نافذة بلا جدار”
رسم
خرج من اللّوحة للتّو.. سار في الشّوارع المزدحمة و المغبرة.راقب من خلف الزّجاج رواد المطاعم و سائقي السّيارات الملونة ..تحسّس جيبه الفارغ.. في آخر المدينة وجد بوابة مفتوحة.. كانت اللّوحة الآخيرة ..دخلها و لمْ يخرج..”

و لذلك نسجّل أنّ الاتجاه الفانتازي في (الق ق ج) يمدّها بقدر وافر من الخيال و فسحة أكبر للتّأمل لأجل مُعانقة عوالم موازية، و إنْ كانت منفصلة عن الواقع، فهي تُضيئه من بعيد بإيحاءات، و إيماءات.. يجد فيها المتلقي مُتعةً أخرى، و رواء قد لا يجود به دائمًا عالم المَحسوسات..فالفانتازيا أولا وأخيرًا تدميرٌ لحواجزِ الواقع، من أجلِ رؤية أرحب و أعمق..

* مسلك ميمون*

****
هوامش:
1 ــ فانتازيا: مشتقة من كلمة فانتاستيك ( Fantastic) و الخطاب الفانتازي : الغرائيي و العجائبي.
2 ــ معجم المصطلحات الأدبية المعاصر، سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني / بيروت، سوسبرس الدار البيضاء، ط1، 1985: 170.
3 ــ نفس المعجم.
4 ــ الشعور بما هو فانتازي ـ خوليو كورتاثر، ترجمة أحمد عبد اللطيف / أخبار الأدب 18 أكتوبر 2014.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.