ليس ثمة مدرسة اسمها روب غرييه
رولان بارت / ترجمة: يوسف خليل السباعي
يبدو أن ميشال بوتور مريد لروب غرييه، فعبرهما علا عرضا نجم نفر قليل من الكتاب الذين يشكلون مدرسة جديدة للرواية ( ناتالي ساروت، مارغريت دوراس وكلود سيمون، لكن ما الحائل دون ذكر كايرول الذي غالبا ما نعتبر تقنيته الروائية مبتكرة وجسورة جدا)، علما بأننا عندما نسعى – ولسبب بدهي – إلى تحديد وبشكل مضبوط الرباط المذهبي أو التجريبي الذي يوحد ببساطة فيما بينهم، فإننا نصبهم خلطا ملطا في الطليعة: ذلك لأننا نحتاج إلى الطليعة: فلا شيء يطمئن على الإطلاق عدا تمرد مسمى. ومما لاشك فيه أن الوقت قد حان لمعرفة أن الجمع الاعتباطي فيما بين الكتاب الروائيين كما هوحال بوتور وروب غرييه – حتى لا نتحدث إلا عمن تم التوحيد بينهما- قد بدأ يغدو أمرا مزعجا ومكدرا سواء بالنسبة للأول أو الثاني. فبوتور لا ينتمي إلى مدرسة روب غرييه لسبب رئيسي وهو أن هذه المدرسة غير موجودة، أما فيما يرتبط بالآثار الأدبية بالذات فهي آثار تعارضية. إن محاولة روب غرييه ليست محاولة إنسية، فعالمه لا يتطابق ويتوافق مع العالم، ذلك أن ما يبحث عنه هو التعبير عن سلبية ما، بمعنى، أنه يبحث عن أمر مستحيل في الأدب.
إننا نعلم أن ثمة في الوقت الراهن آثارا أدبية عظيمة جدا – صحيح أنها نادرة – بيد أنها كانت وما تزال تعتبر عمدا بقية المستحيل البهية: كأعمال ما لا رمي وبلانشو مثلا. إن الجدة لدى روب غرييه تتمثل في محاولة الإمساك بالسلب على صعيد التقنيات الروائية ( وهذا ما يبين بصورة أفضل وجود مسؤولية للشكل، مما يجعل المقاومين للشكلانية لا يملكون عنها أية فكرة). ثمة إذن، على الأقل بشكل نزاع، في الأثر الأدبي لروب غرييه في الآن ذاته رفض للقصة، للأحدوثة، لسيكولوجية المحفزات ورفض لدلالة الأشياء. ومن ثمة الأهمية التي يكتسيها الوصف العيني عند هذا الكاتب : فإذا كان روب غرييه يصف الأشياء على نحو هندسي تقريبا فذلك لأجل تحريرها من الدلالة الإنسانية وتخليصها من الاستعارة والتشبيه. إن دقة النظرة عند روب غرييه ( يتعلق الأمر من جهة أخرى باختلال أكثر مما يتعلق بدقة ما) هي إذا محض نظرة سلبية، إنها لا تعين أي شيء أو،على الأصح، إنها تعين بالضبط اللاشيء الإنساني للشيء. فهي أشبه بالغيمة المتجمدة التي تحجب العدم، ومن ثم، فإنها تحدده. إن النظرة لدى روب غرييه هي جوهريا سلوك تطهيري، قطيعة مؤلمة لتعاضد بين الإنسان والأشياء، وعليه، فإن هذه النظرة لا يمكن لها أن تعطي أي شيء للتأمل: لا يمكن لها أن تسترد أي شيء للإنسان ، كان الأمر يتعلق بعزلته أو ميتافيزيقيته. إن الفكرة الأكثر غرابة والأكثر تنافرا لفن روب غرييه هي بلاشك فكرة التراجيديا، مادام لم يعط هاهنا أي شيء يرتبط بالإنسان في عرض ما حتى ولا طبيعته، والحال أن هذا الرفض الحاسم للتراجيديا، هو الذي يعطي، في رأيي، لمحاولة روب غرييه أهمية بالغة. فالتراجيديا ليست إلا ذريعة لاجتناء الشقاء الإنساني، لاحتوائه، ولإثباته على شكل ضرورة ما، حكمة ما أو تطهير ما: ذلك أن رفض هذا الاسترداد والبحث من جديد عن الطرائق والوسائل التقنية حتى لا نستسلم لذلك الأمر غدرا ( فلاشيء أقرب إلى الغدر من التراجيديا) يعد اليوم مشروعا متميزا، ومهما كانت الخفايا ” الشكلانية” المهمة. ليس أكيدا أن روب غرييه قد كمل مشروعه : ذلك لأن الإخفاق قائم في مبدأ الأمر في طبيعة هذا المشروع نفسه ( فليس ثمة درجة الصفر للشكل، ثم إن السلبية تتحول بلا فتور إلى يقينية) وفوق ذلك لأن أثرا أدبيا ما ليس قطعا، وببساطة التعبير المؤجل عن مشروع بدئي: إن المشروع هو كذلك استدلال للأثر الأدبي: يبدو أن رواية ” التبديل” الأخيرة لبوتور تتقابل تدريجيا مع الأثر الأدبي لروب غرييه.
فما هو ” التبديل”؟ إنه جوهريا طباقية عوالم عديدة يكون فيها التطابق ذاته مرصودا للدلالة على الأشياء والأحداث. إذ يوجد هناك عالم التذكرة : سفر بالقطار من باريس إلى روما. وعالم المعنى: وعي يحول مشروعه. وكيفما كانت لباقة أو رصانة الإجراء، فإن فن بوتور يبقى فنا رمزيا: إذ أنه يدلل على شيء ما. فالمسافة المكانية والمسافة الزمنية والمسافة الروحانية ( أو التذكارية) هي مسافات تبدل خطيتها، مع العلم أن هذا التبديل هو الذي يعد دلالة ما. تأسيسا على ذلك، فإن كل ما يريد روب غرييه إزالته من الرواية ( تعد رواية ” الغيرة” في هذا الصدد أفضل أعماله الأدبية) هو الرمز، أي المصير، أما بوتور فإنه يتوخاه عمدا. هذا بالإضافة إلى أن كل رواية من روايات روب غرييه الثلاثة المعروفة لدينا تشكل سخرية معلنة من فكرة المسافة ( سخرية متينة ومتلاحمة، بما أن المسافة والانكشاف ينطويان على مفهوم مأساتي) ففي كل مرة تنقفل الرواية على هويتها ووحدتها الأصلية: يحدث تغير في الزمان والمكان، ومع ذلك، لا ينبثق أي وعي جديد. أما بالنسبة لبوتور، على العكس من ذلك، فإن المسافة ( أو الطريق) هي خالقة وخالقة للوعي: فيولد على التوالي إنسان جديد: وهذا ما يجعل الزمن صالحا لشيء ما. يبدو أن هذه الإيجابية تذهب بعيدا جدا في الترابط أوالتنسيق الروحاني. فالرمز هو نهج جوهري للتوفيق بين الإنسان والعالم، أوبصورة أكثر تحديدا، إنه يفترض مفهوم العالم ذاته، أي مفهوم الخلق. والحال أن رواية ” التبديل” ليست رواية رمزية وحسب، بل هي رواية عن الخليقة بالمعنى الفعلي تماما للكلمة. ومن جانبي، فأنا لا أظن مطلقا أن تكون الصيغة التفخيمية المستعملة من طرف بوتور في رواية” التبديل” هي عبارة عن شكل اصطناعي أو تغير فطن لضمير الغائب في الرواية، الذي يفرض علينا أخذ ” الطليعة” بعين الاعتبار، إن هذه الصيغة التفخيمية تبدو لي خطية ( أدبية.م): إنها صيغة الخالق للمخلوق، المسمى، المكون، والمخلوق في جميع أفعاله من خلال حاكم وخالق. إن هذا الاستفهام هو جوهري، ذلك لأنه يشكل وعي البطل، فمن كثرة ما يكون شخص البطل موصوفا بإتقان من خلال نظرة ما، فإنه يتحول ويفتر عن تكريس التزييف، الذي ينطوي بواسطته مبدئيا على ولوع ثابت. وهكذا نرى أن وصف الأشياء لدى بوتور يعتمد على معنى يتعارض حتما مع الوصف الذي يعتمد عليه روب غرييه. إن روب غرييه يصف الأشياء من أجل إبعاد الإنسان. أما بوتور فعلى العكس من ذلك يقيم خواصا مبينة للوعي الإنساني، جوانب للمكان والزمن حيث تتشابك الأجزاء الصغيرة ومتخلفات الشخصية: فالشيء معطى في حميميته الأليمة مع الإنسان، فهو ينتمي لإنسان ما، يتحادث معه، ويستدرجه للتفكير في ديمومته الخاصة، في إبراز صفاء ما، تقزز ما، أي خلاص ما. إن أشياء بوتور تعني: كمثل هذا فهي تسعى إلى تبيان جوهر ما، وذلك لأنها أشياء تماثلية . أما أشياء روب غرييه فهي، على العكس من ذلك، أشياء دقيقة، إنها لا تشترك مع القارئ: حيث إنها ليست غريبة ولا مألوفة، إنها تريد البقاء في عزلة خارقة، بما أنه لا يلزم من هذه العزلة أبدا أن تحيل إلى عزلة الإنسان، مما سيجعل ذلك وسيلة لتعويض الإنسانية: بحيث سيصبح الشيء معزولا ، دونما إثارة مع ذلك مسألة العزلة الإنسانية. يستعرض الشيء لدى بوتور بالعكس من ذلك عزلة الإنسان ( لا مفر هنا من التفكير في تلك الحجيرة الموجودة في رواية ” التبديل”) ولكن من أجل انتشاله منها بصورة أفضل، بما أن هذه العزلة تتولد من خلال وعي ما، أو، بشكل أفضل، من خلال وعي معاين وأعني من خلال وعي معنوي أو أخلاقي. إذا، هل استطاع بطل رواية ” التبديل” أن يلحق بالشكل التفضيلي للشخصية، التي هي الشخص: القيم العريقة لحضارتنا المحيطة به، والتي ابتدأت مع النمط المأساتي الذي يوجد في كل مكان حيث تتجمع المعاناة كعرض ما وتتحرر عن طريق ” تبديلها”.
فنحن ليس باستطاعتنا، على ما يظهر في هذه الحالة، أن نتصور فنين أكثر تعارضا من فني روب غرييه وبوتور. فالأول يسعى إلى تجريد الرواية من شروط تصوراتها أو أفكارها التقليدية، وذلك بجعلها تستخلص عالما بدون خصائص أو مواصفات معينة، باعتبارها ممارسة لحرية قطعية ( علما أن هذه الممارسة ليست بطبيعة الحال بمثابة إنجاز ما قسرا) ومن هنا شكلانيتها المعلنة. أما الثاني فهو، على العكس من ذلك، حافل، إذا أمكننا القول، بالإيجاب: إنه شبيه بالسفح المرئي لحقيقة خفية، بمعنى، أنه في كل مرة يتحدد فيها الأدب من خلال فكرة وهمية، فإن الأثر الأدبي يغدو مرصودا لإبانة نظام عبر أدبي. وبالطبع، فإن هذا الارتباك المثبت من خلال النقد الهام الفاصل بين هذين الفنين ليس بريئا كليا. فظهور بوتور في الفضاء المخلخل للأدب المحدث قد أتاح مؤاخذة روب غرييه علانية على ” جفوفه” و” شكلانيته”، وكذا “عدم اهتمامه بالإنسانية”، كما لو كان الأمر يتعلق، هنا، بنواقص حقيقية، في حين أن هذه السلبية التي هي سلبية تقنية وليس أخلاقية ( بيد أنها ثابتة ومهتمة على الدوام بالخلط بين القيمة والعمل) هي ما ينشده بالضبط روب غرييه بخشونة، وذاك هو السبب الذي يجعله يكتب بصورة جلية. كما أن العناية المزيفة بروب غرييه تسمح بأن تخلق من بوتور، وبشكل تماثلي، روب غريييا “موفقا”، والذي يضيف برشاقة إلى جرأة الأبحاث الشكلية عالما عتيقا وبالتقريب كلاسيكيا هو عالم الحكمة والحساسية الروحية الإنسانية. وإنها لذريعة قديمة لنقدنا أن لا يعمل سوى على إثبات جميع وجوهه، وحداثته، مدخلا في الطليعة كل من يتماثل معه، وملحقا كذلك بشكل متناسق دنيية التقليد بانتفاضة الحداثة.
وبالطبع، فإن هذا الارتباك ليس له إلا أن يضايق كلا من بوتور وروب غرييه : فبوتور الذي نشكلنه بلا حق من خلال البحث هو أقل شكلية جدا مما نعتقد. وروب غرييه الذي نقلل من قيمة شكلانيته ذاتها، وذلك في نطاق أن نجعل منها نقصانا ما وليس، كما تتوخى هي نفسها، في أن تكون معالجة متعلقة للواقع.
محتملا أنه عوض أن نحاول الاطلاع ( لكن دون إلحاح من جهة أخرى) على اللوحات الاعتباطية للرواية الجديدة، فإنه سيكون من المناسب أن نتساءل عن الفتور النهائي للأبحاث الراهنة، وعن أسباب هذه التجزيئية الحادة التي تتطرق كثيرا إلى آدابنا خاصة، أكثر مما تتطرق إلى عقلانيتنا عامة، في نفس اللحظة التي يبدو فيها أن كل واحد يفرض شرطا لصراع مشترك.
العنوان الأصلي للنص:
Il n’ya pas d’école Robbe-Grillet
R.Barthes. Essais critiques. P. 101-105
Editions du seuil