القصة القصيرة في الأدب الأمريكي اللاتيني المعاصر / محمد محمد الخطابي *

«وعندما استيقظ، كان الديناصور ما يزال بجانبه». ربما كانت هذه هي أقصر، وأشهر، قصة قصيرة في الأدب الأمريكي اللاتيني المعاصر، وهي للكاتب الغواتيمالي ـ الهندوراسي أوغوستُو مونتيروسُو، الذي يُعتبر من أبرع وأبرز كتاب القصة القصيرة في هذا الشق النائي من العالم الناطق باللغة الإسبانية اليوم. ويتبوأ هذا النوع من الإبداع الأدبي منزلة مرموقة، ويشمل حيزاً واسعاً في عالم الخلْق الأدبي في مختلف البلدان الأمريكية اللاتينية.
وقد هام كثير من الكتاب في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس بهذا اللون من الإبداع، الذي يعتمد على الوصف الدقيق، والتعبير المُوفي، والخيال المُجنح، والإيجاز المقل، مما هو معروف ومشهور عندنا بالقول السائر «خيرُ الكلام ما قل ودل»، وقد عمل المهتمون بهذا الصنف من الإبداع على العناية به، وإحيائه وتهذيبه، والتفنن في كتابته.

دقة مهارة وتركيز

يشير الناقد البيروفي راميرُو كريستوبال إلى أن الكاتب المكسيكي خوليو تُوري ( 1889-1970) هو أول من بدأ في نشر هذا الصنف من الأدب في أمريكا اللاتينية عام 1917، ومنذ ذلك الإبان جرّب غيرُ قليلٍ من الكتاب حظهم مع هذا اللون من الإبداع، الذي يبدو في البداية أدباً بسيطاً هيناً، وهو على العكس من ذلك يتطلب قدراً كبيراً من الدقة والمهارة والتركيز والخيال، وقوة الملاحظة، وإعمال النظر، إذ أن سطراً واحداً – مثلما هو الشأن في قصة أوغوستو مونتيروسُو المشار إليها أعلاه – قد يجنح بخيال القارئ، وينشط ذكاءه، ويشحذ قريحته وربما كان أعمق وأصدق وأكثرَ إمتاعاً وإبداعاً من فصل طويل في رواية مُملة.
ويشير الناقد المكسيكي ليوناردو فوينتيس في دراسة أدبية طريفة له حول أهم العلامات التي تميز القصة القصيرة الجيدة، إلى أن الكاتب الأرجنتيني المعروف خوليو كورتاثر، الذي يُعتبر من كبار كتاب القصة القصيرة المفضلين عنده، قال في إحدى المناسبات: إن قصة قصيرة جيدة هي تلك التي تتوفر فيها عناصر ثلاثة لا مناص منها، المدلول أو المعنى، الحدة أو العقدة، التوتر أو الصراع، ثم يعهد إلى تفسير كيف يمكن لهذه العناصر مجتمعة أن تعمل حسب جهد ومَلكة ومقدرة كل كاتب، فبينما نجد أنطوان تشيخوف، أو فرانز كافكا يقدمان المدلول بشكلٍ نابهٍ وذكي، نجد آلان أدغار بُو، وإرنست همنغواي، يُعتبران في نظر كورتاثر أساتذة الحدة، أو التناوش، هناك كاتب واحد كان كورتاثر شديدَ الإعجاب به وهو هنري جيمس، الذي كان يُعتبر في نظره المثال الحي في القدرة على خلق عنصر توتر وصراع مُذهليْن في الحكي. في حين يرى كورتاثر أن العناصر الثلاثة ينبغي أن تقوم على قدم المساواة ليتوفر لنا في الأخير ذلك العمل الذي يروقنا، ويأخذ بمجامعنا، والذي نطلق عليه «القصة القصيرة»، وهذا العمل لا يحققه الكاتب سوى بقدرٍ باهظٍ من الصبر، والأناة، والذكاء، والمراس.
كان كورتاثر شديد الإعجاب بقصة الكاتب الكوبي لينو نوفاس كالبُو، التي تحمل عنوان: «ليلة رامون غينديا» الذي يُعتبر من أعظم القصاصين في الأدب الكوبي الحديث، وتحكي القصة معاناة سائق تاكسي (رامون غينديا) الذي يُوهَم بأنه ارتكب خديعة ما، فيُخيل إليه أنه مُطارَد باستمرار من طرف الوشاة، وتتوفر هذه القصة على عنصر أبدي لصيق بالإنسان وهو الخوف، كما نجد في القصة حدة أو صراعاً وتوتراً، بين التقلب والتحول العقلي للمطارَد، وخطوب الدهر التي أصابته، ثم نجد أخيراُ عنصر التوتر الدرامي الذي يجعل من هذه المغامرة إعصاراً متشابكاً من الأفكار والهواجس والمواقف، التي تسير نحو نهاية محتومة مفاجئة، فرامون غينديا لم يكن يتبعه أحد في الواقع، حتى إن توهم القارئ كذلك معه، ذلك إن كل المؤشرات تؤكد هذه الحقيقة، وهذا العنصر المفاجئ المتقن، يُشكل خلاصة قصة جيدة، إلا أن قراء هذه القصة هم وَحدهم كفيلون بأن يؤكدوا لنا مدى جودتها وتفردها.

فالقصة – في نظر ليوناردو فوينتيس- يمكن أن تكون جيدة حتى إن لم تكن قصة عظيمة، وهو يتفق في ذلك مع قاص مقتدر ومشهود له بطول الباع في هذا المجال، هو خوان رولفو، الذي يرى أن أي كاتب قصة يصعب عليه تحقيق تلك الجودة المميزة له دون سواه في هذه الصناعة الدقيقة

القصة الجيدة تُلغي العالمَ الخارجي

يشير الناقد ليوناردو فوينتيس أيضاً إلى أنه عندما كان بصدد إعداد أنطولوجيا عن القصة القصيرة الكوبية في القرن العشرين، كان يقرأ معدل عشر قصص في اليوم، وقد قرأ ما ينيف عن ستمئة قصة، وبدأ يختلط عليه الأمر بين قصة عادية، وقصة جيدة، فقرر العودة إلى لينو نوفاس كالبُو ولكنه قبل أن يعيد على نفسه السؤال نفسه وهو: «ما هي القصة الجيدة؟»، انتقل من نوفاس كالبو إلى سالينجر، وقرأ قصة «قط في يومٍ مُمطر»، وبعدها انتقل إلى خوان رولفو فقرأ قصته التي بعنوان «ألا تسمع نباح الكلاب؟» (التي نقلناها إلى اللغة العربية منذ سنوات خلت) وبعد ذلك قرأ قصة الكاتب الفرنسي موباسان «كرة من شحم»، ومن موباسان انتقل إلى قصة ترمان كابوتي «إفطار في تيفانيس»، وفى آخر المطاف قرأ قصة «المطار» لكورتاثر، وهذه القصص جميعها وردت في أنطولوجيته، وهو لم يضف «وليم ويلسون» لإدغار ألن بُو، ولا قصة «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه» لغابرييل غارسيا ماركيز، وعلى هامش النصائح الكورتيثية، اكتشف أنه قبل نوعية أو جودة الأسلوب أو المواضيع أو الجغرافيا أو الشخصيات أو الأذواق الأدبية المتفاوته فإن جميع تلك القصص كانت تشترك في كونها تجمع برمتها خاصية مهمة، حيث يقول الناقد في ذلك: «عندما كنت أبدأ في قراءة أي من هذه القصص يحدث عندي إلغاء تام للعالم الخارجي، وأعيش وكأنني واقع تحت تأثير سحري في حياة تلك الشخصيات الأدبية، ويُخيل لي أنهم قريبون مني وأحياء بواسطة تلك الصفحات القليلة التي تدور فيها أو عبرها قصصهم، التي أمكنها أن تخلق لي وجوداً مستقلا التهمتها فيه بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، وكانت عملية القراءة في حد ذاتها نوعاً من الهيمنة أو الامتلاك أو كبح النفس».

قصص لا تُنسى

فالقصة – في نظر ليوناردو فوينتيس- يمكن أن تكون جيدة حتى إن لم تكن قصة عظيمة، وهو يتفق في ذلك مع قاص مقتدر ومشهود له بطول الباع في هذا المجال، هو خوان رولفو، الذي يرى أن أي كاتب قصة يصعب عليه تحقيق تلك الجودة المميزة له دون سواه في هذه الصناعة الدقيقة، كما كان يسميها رولفو نفسُه بخلاف الرواية، فكتابة القصة القصيرة عنده هي: « ضربات فأس هنا وهناك، وعمليات مراجعة، وحذف، وإضافة، وطرح، وجمع، والقصة لها فرصة واحدة في الزمن والحيز، وحظها يتقرر في الحين مباشرة بعد مرحلتيْن: كتابتها ثم قراءتها، فأي طلب أو تعديل، أو إضافة، أو وصية، أو تنميق أسلوبي لا جدوى منه». ما هو السر الذي يحقق كتابة قصة جيدة إذن؟ لا كورتاثر، ولا رولفو، ولا كيروغا، بوصاياه العشر في كتابة القصة أمكنهم إزاحة، أو تبديد ذلك الظل الذي يخترقه الكاتب المبدع ساعة الخلق الأدبي، فقصة جيدة تُكتب ولا أحد يعرف كيف ولا لماذا؟ إلا أنها تُكتب وتخرج إلى حيز الوجود كمخلوق حي قائم يدب على قدميْن، وأما عملية اكتشاف قصة جيدة من مجموعة قصص عادية، فإن أول وسيلة ينبغي القيام بها لتحقيق هذه الغاية هي إغلاق العينيْن والتنقيب في دهاليز الذاكرة وزواياها المنسية، عن عناصر تعيننا على استحضار أو استذكار بعض القصص التي لا تُنسىَ، وللتأكيد على ذلك فما على القارئ سوى أن يعود لقراءتها من جديد، وإذا شعر بأن العالم قد طفق يدور حوله داخل ثماني أو عشر صفحات، عندئذٍ سيتأكد له أنه عثرعلى ضالته، عثر على قصة جيدة.

السخرية ملح النص القصصي

ويرى الناقد المكسيكي إغناثيو بيتا نيكورث، أن القصة الأمريكية اللاتينية على الرغم من تنوعها وتألقها، فإنه ينقصها عنصر التهكم، والسخرية، ويتساءل الناقد: إذا كان سكان أمريكا اللاتينية يميلون بطبعهم للمرح، والاحتفال، ومعروف عنهم كذلك روح النكتة والدعابة، فلماذا تخلو قصصهم ورواياتهم في الغالب من هذا الجانب الذي لا يقل أهمية عن التراجيديا ويضيف الناقد المكسيكي: «إن السخرية تتطلب قدراً كبيراً من الذكاء والفطنة، لكونها تعالج مسائل قد تبدو سطحية في ظاهرها، إلا أنها في العمق تركز على معاناة المجتمع وصراعه لضمان قوته اليومي للحياة، وتجري في الوقت الراهن دراسات أدبية ونقدية حول هذا الموضوع، الذي يحتل في عالم الأدب والإبداع مكانة الملح في الطعام». ويستثني بعض النقاد في هذا السياق الكاتب الغواتيمالي- الهندوراسي أوغوستو مونتيروسُو المعروف بكتاباته المرحة، المُبطنة بفيضٍ هائلٍ من السخرية، والتهكم، والمزاح حتى أطلق عليه البعض «سلطان السخرية» في أدب أمريكا اللاتينية.

القصة القصيرة والأقراص المُدمجة

ويرى الناقد المكسيكي إغناثيو بيتا نيكورث، أنه في السبعينيات من القرن الفارط كان الروائيون يُوجهون عنايتهم نحو السياسة، وقد أصبحوا اليوم يُعنوْن بمواضيع لها صلة بالخيال، والتاريخ، والمجتمع، كما يلاحظ أن هناك مشاركة فعالة للمرأة في عالم الإبداع الأدبي الأمريكي اللاتيني، في المدة الأخيرة، وهذا ما حفظ لها مكانة متميزة في أنطولوجيات القصة القصيرة على وجه الخصوص في العالم الجديد. وقد اعتاد العديد من كتاب القصة القصيرة المعروفين في أمريكا اللاتينية، على إصدار أعمالهم في اسطوانات كومباكت، وفي أقراص مُدمجة، كما أنهم يستغلون الإنترنت لإيصال إبداعاتهم للقراء في مختلف أرجاء المعمورة، وقد حققت هذه التجربة نجاحاً منقطع النظير داخل القارة الأمريكية وخارجها. وتجدر الاشارة في هذا الصدد إلى أن هذه التجربة الأدبية ليست جديدة، فمنذ اختراع آلات التسجيل، تم إصدار أعمال أدبية مُسجلة للعديد من الكتاب بأصواتهم، وهناك تسجيلات ضمن اسطوانات تجمع أصوات الكاتبيْن الكبيريْن المكسيكي خوان رولفو، والأرجنتيني خوليو كورتاثر، بالإضافة إلى كتاب أمريكيين لاتينيين آخرين، وفي مقدمتهم الكاتب المعروف أوغوستو مونتيروسو نفسه، ونذكّر في هذا الخصوص بأشهَر ما كان يقوله مونتيرسُو عن القصة القصيرة من نصائح لإجادة هذا الفن الإبداعي الجميل والصعب وهو قوله: «على القاص أن يتعلم لا كيف يكتب، بل كيف يُعبر ويُصور».

هناك مشاركة فعالة للمرأة في عالم الإبداع الأدبي الأمريكي اللاتيني، في المدة الأخيرة، وهذا ما حفظ لها مكانة متميزة في أنطولوجيات القصة القصيرة على وجه الخصوص في العالم الجديد.

القصة الجيدة مفتاح الشهرة

عندما فاز الكاتب التشيلي نيكانور بارا بجائزة خوان رولفو العالمية المرموقة في القصة القصيرة، التي تعتبر من أهم الجوائز الأدبية في العالم، علّق ساخراً: «إنه بفضل هذه الجائزة أصبح أكثر شهرة من ذي قبل»، وقال: «إن ناشراً كان قد رفض تسليمه مبلغ ألف دولار كمبلغ مقدم قبل حصوله على هذه الجائزة، وقد عرض عليه في اليوم التالي لفوزه بها مبلغ 15000 دولار دفعةً واحدة، وانهالت عليه الاستجوابات الأدبية من مختلف أنحاء العالم حتى كان عليه أن يختفي من الخريطة»، ويختتم نيكانور بارا قائلاً بسخريته المعهودة: «إنها مفارقات الحياة!».
ويؤكد ليوناردو دافنشي في كتاباته الفلسفية، على أن أي نشاط أو عملية من عمليات الطبيعة، تتم بواسطة أقرب السبل وأقصرها. وهكذا فالقصة القصيرة في عالم الأدب تتطلب تركيزاً كبيراً، ودقة متناهية لتحقيق الغاية المتوخاة منها، بسرعةٍ وبحسم، مثل الدم الذي يفور ويتدفق ويجري في أجسامنا، إلا أن الطريق الأكثر اختصاراً لا يكون دائماً هو الأنسب، فنحن نعرف اليوم أن المسافة الأقرب بين نقطتين ليست هي الخط المستقيم، كما قال إقليدس، ذلك أن استدارة الأرض والعالم نفسه لا يخولان لنا معرفة ما هو المستقيم وتغدو ملاحظتنا في هذا القبيل بالتالي نسبية. إن القصة القصيرة ينبغي لها أن لا تستقي أهميتها أو جودتها من قِصَرِها على الورق، بل من حضورها الطويل في ذهن القارئ النابه الذي لا يكل ولا يني عن التنقيب عن الجانب الخفي من النص، فالقِصَر في حد ذاته ليس ذا أهميةٍ، والاختصار يتطلب الاقتصاد (أي الإقلال) من الخوف والتوجسات وليس من فقر الأفكار وخصاصتها وخستها.

تقطيع ذبابة لا يعلمنا سر طيرانها

القصة القصيرة قد تطل علينا من مختلف الأغراض الأدبية الأخرى، فقد نجدها مخبأة داخل روايةٍ ما، أو متوارية في قطعةٍ شعرية، أو مجسمة على مشهدٍ مسرحي، وهي تضحك وتسخر هاربة من معاول النقاد الهادمة، وسهامهم الجارحة، فهل هي لمحة، أو ومضة، أو إشارة، أو إثارة، أو صورة، أو خيال؟ ثم هل هي تميمة لتهدئة النفوس والضمائر وطمأنتها؟ أم هي وصفة أدبية مركزة لتشريح الحياة، وتفتيت الزمن، وتحنيط الواقع، إلا أنه ينبغي ألا يعزب عن بالنا أن تجزيء أو تقطيع ذبابة لا يعلمنا سر طيرانها.
تمثل القصة القصيرة في بلدان أمريكا اللاتينية مختلف الاتجاهات، والمشارب، والمذاهب، والألوان في كتابتها، وقد أصبحت اليوم تحتل مكانة مرموقة في عالم الإبداع الأدبي في القارة الأمريكية على وجه الخصوص، وفى سائر بلدان العالم على وجه العموم.
*****
المصدر : القدس العربي
الخميس , 12 يناير , 2023

٭ كاتب من المغرب
عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا

محمد محمد الخطابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.