بقلم عبد النّبي بـزاز
دقّة النّهج وعمق الرّؤية النّقدية وسعتها في مؤلَّف «اللّغة القصصية..»
قبل خوضه في مقاربة قصص القاص المغربي جمال الدين الخضيري من خلال مجاميعه القصصية الثلاث (فقاقيع، ووثابة كالبراغيث، وحدثني الأخرس بن صمام)، وهي قصص قصيرة جدا. عمد الناقد المغربي الدكتور ميمون مسلك إلى تحديد أهم مقومات هذا النوع القصصي (قصة قصيرة جدا)،بدءا بالتعريف:”فالقصة القصيرة جدا، قصة حدث وتأزيمه، وشخصيات وتفاعلها، وزمن وتفضيء، وبداية، وخرجة، ومقومات فنية أساسها الاختزال والتلميح، بعيدا عن كل تقرير وتصريح…”ص 5، بحيث اختزل أهم مميزات وخصائص هذا النوع السردي في تعريف مركز ودقيق يتحدد في إواليات وأسس اجتراح عالمه، والخوض في ثنايا مكوناته، وموضوعاته بِعُدة تستحضر عناصره، واستخدامها بشكل يتغيا الدقة، والعمق عبر أدوات فنية تروم الكشف عن معالم الخلق والإبداع وتجلياته، مع التركيز على لغة القص الموجز، وما يميزها عن باقي الأنواع السردية من قصة قصيرة، ورواية حيث تستوجب دربة، ومراسا، وتحصيلا معرفيا قادرا على اختراق مداخلها، وفك شفرة مغالقها:”فهذا الجنس لا توافقه لغة القصة القصيرة، ولا الطويلة، أو الرواية، ولا أي جنس سردي آخر. لغته تكاد تكون متفردة خاصة، فانتقاء مفرداتها، ونسقية تركيبها، وبعد دلالتها، وومض تلميحها… كل ذلك ليس في إمكان الجميع… فهي مسألة دراسة، وحسن اطلاع، وممارسة، وصبر وتأن…”ص7،وإلى جانب تحديد أهم مقومات القصة القصيرة جدا من لغة، وحوار، وأحداث… يحضر مكون الإيجاز كثابت نسقي، ودلالي:”فالق الق جدا، تنطلق من فلسفة الإيجاز، على أنها قصة، تنتمي للسرديات، ولكن في صورة تعتمد القصر والتكثيف اللغوي.”ص 16، فلا مندوحة، إذا، عن الإيجاز، وما يرتبط به من تكثيف واختزال في تشكيل منجز قصصي موجز:”والق الق جدا تحتمل التكثيف والإيجاز والاختزال في كل عناصرها المكونة بدون استثناء. طبقا لفلسفتها التي من أجلها وضعت.”ص 21،ولتحديد مقومات القصة القصيرة يلجأ الناقد إلى مقارنتها بالشذرة، وما يميزهما من خصائص مختلفة، وميزات متباينة:”والخطأ هنا هو الخلط بين الق الق جدا كحكي متكامل شكلا ومضمونا، و (الشذرة9 كتأمل وشعرية، وتشظ، وذاتوية نرجسية.”ص 41، مما يفرق بينهما من وضع مسافة على مستوى البناء والدلالة.
وقبل تطرقه لمكونات قصص جمال الدين الخضيري، وإبحاره في موضوعاتها، وأبعادها، وبعد تعريفه الدقيق لنوع القصة قصيرة جدا، وتحديد أهم عناصرها كاللغة، انتقل إلى باقي العناصر كالعنوان بمختلف أنواعه، والحدث الذي يعتبر أساسيا في العمل القصصي:”والقصة لابد لها من حدث. ولا قصة بدون حدث.”ص17،إلا أنه يستدعي اعتماد الاختزال والتكثيف نظرا لطبيعة القص الموجز وميزاته:”الق الق جدا لا تتسع لتطور الحدث، فهناك أجناس أخرى تتسع لذلك، بما فيه الكفاية.”ص 21،فيخلص لنوع الحدث المناسب لهذا النوع من القصص:”فمن جهة نكون قد اختزلنا الحدث في مجمله، ومن جهة أخرى انشغلنا بما ترتب عنه، بصورة من الإيجاز، والتكثيف اللغوي.”ص 17، والحوار الذي يستوجب القصر والإيجاز تماشيا مع طبيعة القصة القصيرة جدا:”نستشف أن القاص يعي أن طول الحوار يفقد النص القصصي القصير حجمه، وخصائصه، ولربما يصير أشبه بالقصة القصيرة…”ص 108، والوصف الذي يتطلب هو الآخر الإيجاز تفاديا للإطالة والإسهاب الذي يتنافى وحجم القصة القصيرة جدا:”فإن القصة القصيرة جدا، لا تتسع للوصف بشكل مسهب ومستفيض… بل يقتصر الوصف في عمومه على ما يخدم الفكرة في تطورها، ونمائها، وعمقها الدلالي… في غير هذا يعد كل وصف مجرد فائض لفظي وشطط وإسهاب لا ضرورة لكتابته…”ص 124، فبعد تحديده لأهم مكونات وعناصر القصة القصيرة جدا درج الناقد إلى مقاربة قصص القاص جمال الدين الخضيري، والغوص في خباياها للخروج باستنتاجات تقوم على التمحيص والمقارنة: “هكذا يجمع النص رغم قصره، وصفا مباشرا في كلمات… توحي بأوصاف مضمرة موازية للأوصاف المكتوبة، والمعلنة في النص. فجاءت لغة الوصف مقتضبة جدا، لا تهتم بتنميق، ولا زخرفة بلاغية، بقدر ما تعمد إلى التحديد والإخبار، والكشف الذي ينطوي على إيحاء وتلميح، وإشارات وإحالات… تثير ثقافة ووعي المتلقي…”ص 128، هذا المتلقي الذي يولي النص ما يستحق من قراءة متعددة، ومتأنية:”كما أنه ليس من الضروري فهم النص القصصي الجيد من القراءة الأولى، بل جودة النص تبدو في تعدد القراءات، وكلما عاد إليه المتلقي خرج من قراءته برؤية، وتأويل، لم يخطر بباله في القراءات الأولى…”ص 80، لكي لا يقتصر على الاستهلاك فقط:”إبعاد المتلقي من أن يكون مستهلكا للنص فقط.”125، بل يغدو مساهما في الإبداع من خلال قدرته على الاستشراف والتأويل الفعال المنتِج:”بل يتحول من خلال القراءة إلى منتج، ومبدع لا محالة…”ص 125، منتقلا إلى آراء نقاد آخرين توسيعا لدائرة الدرس والتحليل:”وكما يرى د جميل حمداوي في غلاف المجموعة، أن القاص: (جمال الدين الخضيري قد تملك فعلا آليات القصة قصيرة جدا بناء وتشكيلا وقضية…)”ص 157، مع تأكيده لميزات وخاصيات نصوص القاص:”وقد تميز جمال الدين الخضيري عن هؤلاء الكتاب بالانتقال من الرؤية الساخرة كما في مجموعته الأولى (فقاقيع9 إلى الرؤية التأصيلية القائمة على الكتابة التراثية قالبا، ودلالة، ومقصدية، كما في مجموعته الثانية (وثابة كالبراغيث9.”ص 179، ورغم انفتاح وإدراج الناقد لآراء نقاد آخرين، فإنه، وبرؤية أكثر عمقا وتمحيصا، وبحس الناقد الممحص، والدارس الحصيف لم يتحفظ في الكشف عما يعتور قصص جمال الدين الخضيري من هنات ونواقص:”قراءة النص تجعل المتلقي الناقد بين خيارين. إما اعتباره نصا أقرب ما يكون من القصة القصيرة. أو المطالبة باختزاله، لما فيه من استطراد وحشو… أما لغة الحوار… فصياغتها جاءت منفتحة على القول والقول الآخر، وعلى الشرح والتوضيح… دون رعاية للحجم المنوط بالكتابة في هذا المجال، والتي تتطلب ذكر أقل ما يمكن، والتلميح للباقي.”ص 116،ما مس منها عناصر كالحجم والحوار، أو ما ارتبط بما هو فني جمالي كالجناس:”أعتقد أن النصوص القليلة التي جاء فيها الجناس خدوما للنص لغويا، هي تلك النصوص التي كان فيها الجناس قليلا، وعفويا ومعبرا دلاليا… أما باقي النصوص وهي كثيرة أشعر وكأن الجناس حُشر فيها حشرا، بل بعضها تكدس فيها تكديسا…” ص 179، فبعد أن مهد الناقد لدراسته اللغوية لقصص جمال الدين الخضيري بتحديد مقومات القصة القصيرة جدا، وعناصرها، وتأطير مجال بحثه خلص إلى تطور اللغة لدى القاص، موضوع الدراسة، من علامات، ورموز، وصور مجازية في شكلها البسيط:”واللغة عند جمال الدين الخضيري بدأت في كتاباته القصصية الأولى حافلة بالعلامات والرموز، وصور المجاز… ولكن في صورتها البسيطة…”ص 189، لتتطور، بشكل لافت، في مجموعته الثالثة (حدثني الأخرس بن صمام9، مستشهدا برأي الدكتور جميل حمداوي:”ويقول جميل حمداوي في نوع من عدم الاحتراس: (وتعد مجموعة”حدثني الأخرس بن صمام”لجمال الدين الخضيري أفضل مجموعة في الوطن العربي في مجال القصة القصيرة جدا لحد الآن… والسبب في ذلك اعتمادها على الكتابة السردية التراثية لغة وأسلوبا وقالبا مع الاستفادة من المقامات،وتوظيف الهوامش علاوة على كونها تحمل رؤية متميزة إلى العالم قوامها التأصيل والتجريب والتأسيس.)”ص 193، وقد قارب الناقد هذا التطور انطلاقا من رؤيته: “فهيمنة المقامة وأجوائها ولغتها على المتن القصصي يجعل القارئ غارقا في أتون جنس آخر، له مقوماته، ولغته، وأساليبه، وطرائقه، ونسقيته التركيبية، والبنيوية.
وبالتالي تصبح الق ق جدا كجنس جديد متماهية ذائبة متحللة لا تكاد تتميز خصائصها المميزة…”ص 196، وهو رأي له ما يخالفه، عرضه الناقد توسيعا لدائرة النقاش وجدليته:”وإن كانت هناك بعض الكتابات التي ترى عكس ما نرى، فمثلا فاطمة بنمحمود ترى: (من أهم ما نلاحظه من خلال الكتاب القصصي”حدثني الأخرس بن صمام”للمبدع جمال الدين الخضيري هو استدعاؤه لخطابات بعيدة عن جنس القصة القصيرة جدا التي يجعلها ملتقى أجناس أدبية متباعدة زمنيا وأدبيا فهو يجمع بين القصة القصيرة جدا والمقامة الأدبية أي أنه يساهم في كسر الحواجز بين نمطين أدبيين مختلفين كليا مما يعني أن القصة القصيرة جدا لا تعترف بمسألة نقاء الأجناس الأدبية،وبذلك يتحدى الخضيري الضوابط المعيارية التي تفصل بين الجنسين.”197.
فمن موقع دقة الدرس والتحليل، وتفاعله، وانفتاحه أسس الناقد د ميمون مسلك مقاربته على توطئة شاملة عَّرفت، بشكل مستفيض ومستوف، القصة القصيرة جدا كنوع سردي يمتلك مقومات وعناصر نوعية، وجمالية، ودلالية مثل (العنوان، الحدث، الحوار، الجملة، الرمز، الحكي، الإيجاز، الرؤية، الإيحاء والتلميح، الوصف9، ومقاربته للغة في المتن القصصي للخضيري، وما عرفه من تطور انفتح، بشكل بارز وملفت، على التراث في استلهامه لفن المقامة تفاعلا، وتلاقحا، وتماهيا مما أغنى نصوصه القصصية، وطورها.
فمؤلف”اللغة القصصية دراسة لغوية تحليلية لقصص جمال الدين الخضيري”للكاتب والناقد المغربي الدكتور ميمون مسلك القائم على مقاربة جنس القصة القصيرة جدا بشكل يتوخى الدقة، والشمولية، والاستيفاء تعريفا، وتفصيلا في تناوله لقصص القاص المغربي جمال الدين الخضيري، وما عجت به من مقومات جمالية، وفنية، ودلالية ناهلة من مرجعيات حداثية وتراثية وقف الناقد عند أسسها، وأبعادها الإبداعية والمعرفية بحس نقدي تمحيصي يستجلي ميزاتها، وهناتها، إضافاتها، ونواقصها مقارنا، ومبرهنا بآراء نقاد آخرين مما أكسب المؤلَّف قيمة من سعة، ورجاحة، ورحابة بوأته مقاما نقديا رفيعا في نوع سردي (قصة قصيرة جدا9 وما يحظى به من اهتمام و مواكبة، وما يعرفه من تطور وانتشار.
الكتاب: اللغة القصصية دراسة لغوية تحليلية لقصص جمال الدين الخضيري
الكاتب: د. مسلك ميمون
مطبعة: بلال ـ فاس / 2022