(ق ق ج) و المتلقي

(ق ق ج) و المتلقـي

نتفق مبدئيا أن (ق ق ج) جنس سردي نخبوي (elitist) كباقي الفنون الأخرى التي بطبيعتها، و دواعي انتاجها و اعدادها تتميز كأعمال فنية رفيعة، للخاصّة، و أحيانا لخاصّة الخاصّة، كالرّسم التّجريدي، و مسرح اللا معقول ، أو مسرح العبث، و الفانطازيا في أفلام المؤلف، و الرّواية الجديدة، والشّعر الحديث الرّمزي، أو الأسطوري…

بمعنى أن هذه الفنون..لا يمكن أن تكون شعبوية يدركها ( العادي و البادي ) و هذا ليس حطًّا من قيمة الفئة الشّعبية، و أنصاف المثقفين. إنّما مستوى العالم المحكي ،أو مفهومية الوقائع الفرجوية..تنأى بعيدا عن الإدراك المحدود، الذي يفتقر إلى سعة التّفسير، و خاصية التّأويل، و هو في حاجة إلى التّثقيف، و الدّعم ، و التّوعية ..

و هذا ما يجعل كثيرًا من القرّاء لا يفهمون بعض نصوص (ق ق ح) لآعتمادها لغة مكثفة، مطعّمة بالرّمز أو الأساطير، أو بعض ضروب البلاغة…ما يتطلب ثقافة و إدراكًا خاصًا يستوجب أحيانا الإلمام باللّسانيات الادراكية، التي تبحث في العلاقة بين الثقافة و اللّغة و الإدراك ، و هي بذلك تعالج اللّغة باعتبارها جزءا لا يتجزّء من الثّقافة و المعرفة. وهذا ليس مسوغًا لغلاة الغموض، و محبي الطلاسم، و الابهام …أن يبقوا على ما هم عليه ، و أن يغرقوا في حلكة ما يكتبون ..فالفن عمومًا رسالة /خطاب، و الخطاب القصصي هو النّظام الاصطلاحي الذي يسمح بالتّعبير، و يخول للسّارد أن يورد حكايته. و لا بدّ لهذا الخطاب أن يصل بطريقة فنّية , و إلاّ سيفقد النّص حبل التّواصل بينه و بين المتلقي المفترض.

فما هي الأشياء التي تشدّ المتلقي لنص ( ق ق ج)؟:

1 ـ اللغة القصصية، لغة الحكي، التي ينتظر منها الإيحاء بذات الشّىء، لا الإخبار عنه. و اعتماد سياق الإحالة، لا التوضيح و التبليغ.. و تقويض المألوف، لا تكرار المعروف ، و توظيف التوليف ( المونتاج)، لا اتباع الأنساق النمطية ..تجنبا للتقرير و المباشرة. و عدم توظيف الجمل المعقدة (complex sentences) أوالغموض بكل أشكاله و بخاصّة الغموض اللّفظي و النّحوي grammatical ambiguity) l).

2 ــ الايجاز الفنّي ( Prolipse) لعلّ من بين السرديات القصيرة جدًا المعروفة كالنبذة/ الشّذرة ( Aphorisme) ، و الطرفة، و المثال، و الحكمة.. تميزت (ق ق ج) بقصرها اللافت ، لأن المعتاد في القصة أن تكون في صفحات، و لتحقيق هذا القصر ينبغي اعتماد الحذف ، و التّضمين، و التّسريع، و الرّمز، و العصف الذّهني، و التّأخير و التّأجيل… و لاشك أنّ كلّ هذا يخدم تقنيات الابتكار، و يخلق النّص الموجز الذي يحتفي به المتلقي، بحثًا عن المعنى الكامن.

3 ــ المفارقة (Paradox ) فلأهميتها في علم الأسلوب، أكاد أجزم أنّ كلّ المعاني الأدبية متضمنة نوعًا من المفارقة. التي تجمع بين التناقض و اللا منطق، و الحيرة، و تضاد المَخبر و المَظهر، و هي فرضيات تبدو مقبولة لخاتمة غير مقبولة، و لذلك فهي لغة العقل و الفطنة.. بل هي أقوى ما يشدّ المتلقي للنّص.. و نجاح الفعل القصصي رهين ببناء مفارقة بليغة، عفوية ، لافتة .. و لذلك احتفت بها ال (ق ق ج).

4 ــ الخرجة، أو النّهاية المفتوحة (Open ending)، و تكون من أجل توسيع الفضاء القصصي، و امتداده إلى دلالات ثاوية، أو مستوحاة من السّياق. متعدّدة الأبعاد و الجوانب .. ما يجعل للدّال و المدلول قيمة نصية، يرصدها المتلقي من البداية إلى النّهاية ..

خلاصة القول، أنّ متلقي ( ق ق ج)، قارئ خاص،و مشارك في الكتابة دون أن يدري، يعي حفيف اللّغة و تلميحاتها، و أبعادها، و الاستفادة من القرائن و المؤشّرات، و التّفاعل مع تواتر ( Frequency) السّياق و الاسترجاع، و الاستباق اللّفظي، و القدرة على التّفسير و التّحليل و التّأويل..و الأمر ينطبق على جميع الفنون الراقية، يقول بول فاليري: ” أكتب نصف القصيدة و القارئ يكتب نصفها الآخر”

* مسلك *

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.