إذا كانت الكتابة مفاجئة، بمعنى أنها هي التي تحتفظ بحق اختيار زمانها الذي تأتي فيه على حين غرة، وأن أقصى ما يستطيعه الكُـتّابُ هو الاستعداد لها، وتقدير بعض الأوضاع التي يمكنهم أن يدعوها من خلالها، فإن أدعى ما يكون للكتابة وأجلب لها، هو القراءة المستمرة التي لا تتوقف، باعتبار القراءة إبداعاً أيضاً، فقد تغيب الكتابة طويلاً، ولا تحضر إلا في لحظات استثارة قد لا تكون متوقعة، من خلال حضور عبارة في الذهن، أو وقوف أمام مشهد مثير، أو هبوب رائحة تستدعي حنينا إلى زمان سابق، أو سماع موسيقى مؤثرة، وأنا هنا لا أتكلم عن قصيدة الفكرة (التي تقيم مع عنوانها نظاما دقيقاً للكلام وتصنع ضربتها الشبيهة بضربة الرسام) وهي غالباً قصيدة نثر قصيرة، بل أعني القصيدة الطويلة، التي تكمن في نفس الشاعر أياماً بلا عدد، قبل أن تتمثل على الورق نصاً سوياً، و(عمارة يدل ارتفاع ارتفاعها على مهارة وفق هندسة دقيقة للغة) فيظل الشاعر يقلب النظر في ما يكتبه أياماً طويلة، حتى يتعبه الأمر فيقرر هجرتها، والذهاب إلى بداية قصيدة أخرى، أو الانطلاق إلى الإمساك بنص آخر.
وقد يكون لبعض الشعراء ترف الانتقال بين أماكن مختلفة متباعدة، بحثاً عن اقتناص لحظة الكتابة، لكن هناك واقع الحياة في المدينة المعاصرة، الذي يضغط على الشاعر فيجعله سجينا أماكن خاصة، ضيقة أو خانقة، ومن أعماق ذلك المكان الضيق تصعد إلى الآفاق أحلام الشاعر على أجنحة الخيال، ويبتعد إلى أجواء يتهيأ له معها أن يكتب عن بحار واسعة، رخية النسيم أو زاخرة العباب، أو عن غابات ملتفة الخمائل مخضرة المروج، أو عن جبال شاهقة بيضاء القمم، أو عن بحيرات حالمة جميلة أسراب البجع والتمُّ والطيور الملوَّنة المحلقة، أو عن أنهار هادرة وقد كانت ينابيع ساحرة، أو عن شوارع ممتدة طويلة زاخرة بالناس أو شاغرة، مستبطناً ذاته ثائرة الأفكار أحياناً أو هادئة التداعيات والأحلام تارة.
كل ذلك، وهو في غرفة هي أشبه بكهف وحي تنيره آيات الخلق وأرواح المبدعين مفكرين وفنانين. والكتابة في هذه الأحوال متعة وعذاب، هي متعة: من حيث ما توفره للذات من معرفة وبحث عن اسرار الكون وحركة الحياة، وهي عذاب من حيث هي معاناة من أجل الخلق الذي لا شيء يسوِّغُه إلا ما يجده الآخرون فيه ـ وهم يتلقونه ـ من متعة جمالية فنية. فالإبداع الجمالي أو الخلق الفني إمتاع للنفس الإنسانية التي تجد في هذا أو ذاك، راحتها حتى وإن لم تفهمهما في كل ما يرميان إليه، أو فلنقل حتى ولو كانت مستويات تلقي الناس وفهمهم مختلفة، ذلك أننا نستريح للسمفونية العظيمة، وتهدأ لها عوصف الأنفس حتى بدون قدرة على تحليل أصواتها، كما أن الشعر العظيم يستغرق النفوس بموسيقى لغته، وتتابع صوره وتراقص كلماته. وعن تلك الموسيقى وتتابع الصور هذا وتراقص الكلمات، يبحث الشاعر عن لحظة يمكنه استحضار كل ذلك فيها، فلا يتوفر زمان الخلق إلا في أوقات نادرة لا تصنع، أو متباعدة بالأحرى لا تحضر في أحيان كثيرة ولو أردنا.سمعتُ عن شعراء لا يجلسون للكتابة إلا بعد أن يكون قد تمَّ لهم تصوُّرُ القصيدة في أذهانهم، من هؤلاء الشاعر المغربي المبدع المرحوم أحمد المجاطي الذي كان ينشغل بالقصيدة الواحدة العام كاملاً، وكان شاعراً مشّاءً، فقد كان يفكر في قصيدته وهو يمشي، كما عرفت أن الكاتب الأمريكي هيمنجواي كان يكتب وهو واقف، كما قرأت أن برنارد شو الكاتب الإيرلندي كان يكتب في حالة استلقاء على بطنه، وعرفت، وأنا تلميذ في الثانوي، عن الكاتب المصري توفيق الحكيم: أنه كتب مسرحيته أهل الكهف وهو جالس في إحدى مقاهي حي السيدة زينب، غير متضايق من نظرات الناس إليه. كما سمعتُ عن الشاعر المصري كامل الشناوي الذي كانت حانات القاهرة مأواه في ليال كثيرة، حيث كان يسجل مطالع قصائده أو شراراتها الأولى على ما يجده في متناول يده من ورق، فإن لم يجدْ كتَبَ فوق صندوق أعواد الثقاب، ليُنهيَ القصيدة في وقت لاحق.وأنا كتبت بعض قصائدي في فترة الشباب وأنا واقف إلى كونطوار، إن في شفشاون أو البيضاء، لا أطوي أوراقي أو أجمعها إلا إذا حضر صديق، أو متى أحسست دبيب ابنة الكرم إلى رأسي أو إلى مكامن الأسرار في صدري، وأحيانا كنت أراجع قصائدي بالإضافة أو الحذف إذا رأيتُ انشغال تلاميذي في القسم أحياناً بامتحان كان يأخذ منهم الساعتين أو ما يقاربهما.
وقد حكى الشاعر المغربي محمد الميموني أن أحد رجال الأعمال سأله (كم تستغرق القصيدة من وقتك؟) فلما أجابه أنها قد تستغرق أحيانا وقتاً يمتد إلى الشهر والشهرين، استغرب رجل الأعمال قائلاً: (هذا وقت طويل جداً…) وكأنه يقول إن هذا أمر غير معقول. فالشهر والشهران في نظر رجل الأعمال زمن طويل وطويل جداً.إلا أن الكتابة بما هي بذل لمجهود يتطور لدى الشاعر أو الكاتب مع تقدمه في التجربة والسن، تبتعد عن أن تكون ارتجالاً أو ما أشبه فما أكذب تلك الجملة التي كثيراً ما رددها بعض من كتبوا عن الشعراء القدماء ووَصْفِ الإنشاد عندهم، تلك هي عبارة (… وأنشأ يقول) مما نتصور معه أن ما قاله الفرزدق وهو يشبه قول بيت واحد من الشعر بقلع ضرس، كانه من لغو القول. بل إن واصفين جعلوا أكثر الأبيات في إحدى مدائح أبي تمام صنعة ً واستدعاء ذاكرة وبناء تشبيه غريب بنتَ لحظة، بما يجعل أي حديث عن الصنعة غير مبرر، بينما يتنبه القارئ العادي إلى أن شاعر الصنعة أبي تمام قد فكَّر للأمر طويلاً. وأنشأ في الحالة المذكورة تشبيها تمثيلياً تعددت عناصر وجه الشبه فيه، واشتملت على صور استعارية واسعة مدهشة. من أجل إصابة الغرض المقصود. لا بأس في أن يجلس الشاعر إلى الكتابة طويلاً، بل ومن الواجب أن تطول جلساته في انتظار مولاته القصيدة. وقد جعل أكثر من ناقد، وفي مقدمتهم ابن رشيق القيرواني، أن سرعة الشاعر في انجاز إبداعه أمراً يحسب عليه لا له، إذ لا يقبل من شاعر أن يعتذر إن أمام التاريخ أو أمام قرائه المعاصرين له، بالسرعة التي أنجز بها عمله. فإن النقد لا ينظر إلى طقوس الكتابة ليبحث فيها عن مسوِّغات أخطاء أو إجازة ما يدل على تقصير، وإن نظر الناس، في مرحلة من مراحل التاريخ الأدبي العربي إلى بعض حالات الارتجال بإعجاب. حين كان الأمر يتعلق بالخطابة، أما والشأن الآن شأن كتابة، إعمال فكر وتأمل لا يضر إن كان طويلاً، فقد اختلف التقدير ومقاييس النقد.
إن القاسم المشترك بين كل الكتاب، مهما كان الفن الذي يزاولونه، هو العزلة، واختيار البعد عن الناس، لتصفو لهم الأجواء، ويصغوا إلى نداء الأعماق: أعماق بئر الذات وهم ينزحون منها ما ينزحون، ويستلهمون منها ما يستلهمون. لتكون أساليبهم قٍطعا منتزعة من لحمهم ودمهم. وإلا فما معنى ما يذكره المتحدثون عن أوجاع المخاض وعذاب الخلق؟