للّغـــة في ال ( ق ق ج )
1 ــ السّهل الممتنع :
انطلاقًا من الكتابة التّنظيرية لهذا الصّنف من القص الحديث، نجد الاتفاق قد يكون عامًا بأنّ لغة ال (ق ق ج) ينبغي أن تكون مكثّفة. حفاظًا على التّركيز، و الإيجاز، و ضمانًا للحجم القصير، و لكن لم يراع التّنظير، أنّ اللّغة في تشكلها و بنيويتها، قد تكون سهلة. و لكن صعبة التّقليد. و أنّ السّرديات بمختلف أنْساقها عرفت هذا النّمط من الكتابة. بله الشّعر أيضًا. و لكن التّقاعس في دراسة لغة الكتابة كمادة للدّراسة، و البحث، إلاّ ما نذر، جعل التّركيز في هذه النّذرة، يَنصبُّ على التّكثيف، و يُهمل تمامًا كلّ ما يتعلّق بالسّهل.
فما المراد بالسّهل ؟
ورد في معجم مصطلحات علم الشّعر العربي لمحمد المهدي الشّريف أنّ : ” السّهولة ضدّ التّقعّر أو التّوعّر في القول. و البعد عن التّكلّف و التّعمّل و دائمًا ما ترتبط بالطّبع لا بالصّنعة “. و في هذا الكثير من الصّحة. فالكاتب الذي يَميل إلى السّهولة اللّغوية، فذلك يعود لطبعه،و نفسيته،و مزاجه.. فهو لا يتصنّع البَساطة الفنّية، و إنّما تَنبثقُ من طبعه. و يتّفق القاضي الجرجاني في توضيح السّهل فنّيا إذ يقول:” لا تظنّن أنّي أريد بالسّمح السّهل الضّعيف الرّكيك، و لا باللّطيف الرّشيق الخنث المؤنث، بل أريد النّمط الأوسَط ، ما ارتفع عن السّاقط السّوقي، و انحطّ عن البَدوي الوحشي,,”(1) و هذه الوسطية، هي الأصْعب. و هي ما يجعل النّص بلغة رائجة، متداولة.. و لكن يَصعب الاتيان بمثلها في نَسق فنّي. إلاّ إذاما تيسرتِ الموهبة و الطّبع السّلس. و بذلك التّسهل ليس ضعفًا أسلوبيًا. بل على العكس من ذلك،فهو مهارة لُغوية، ذَوقية لا يتميّز بها إلا القليل من المَوهوبين، فالتّسهل كما يَرى حازم القرطاجني:”..يكون بأن تكون الكلم غير متوعّرةالملافظ، و النّقلة من بعضها إلى بعض. و أنْ يكون اللّفظ طبقًا للمعنى، تابعًا له،جارية العبارة من جميع أنحائها ،على أوضح مناهج البيان و الفصاحة.” (2)
فلا شكّ أنّ القاص، و المبدع عمومًا، حين يُبدع في إطار السّهل المُمتنع، و يُقال له ذلك نقدًا. سيشعر بنوع من الاطمئنان و الرّضا. لأنّه استطاع أن يقيم المعادل الموضوعي. بين الكتابة النّخبوية (l’élitisme.) و الكتابة السّطحية (superficielle): فالأولى طريقة في التّعبير، مُتعالية، غامضة.. انسحب عنها جمهور القرّاء، و لم يبق إلا الخاصّة، و خاصّة الخاصّة ، أمّا الثّانية فمرفوضة فنّيًا و نقديًا..
يقول أرنستو ساباتو في كتابه الشّيق :” الكاتب و أشباحه “: ( الأسلوب هو الإنسان الفرد، الوحيد، طريقته في رؤية الكون و الإحساس به، و طريقته في التّفكير في الواقع، إنّه الخلطة بين أفكاره من جانب، و انفعلاته و مشاعره من جانب آخر .)
لذلك لا نعجب من ورود نصوص حديثة في القصّة القصيرة، و القصّة القصيرة جدًا بخاصّة، بأسلوب السّهل الممتنع..حقًّا رواد هذا الأسلوب بطرائقه الفنّية.. قلّة قليلة، يتّسمون بالهدوء، والبشاشة، و الابتسامة، والمرح واسترخاء الأعصاب، و الثّقة بالنّفس، و طيبة القلب و المَعشر.ــ على الرّغم من قسوة ظروف البعض ــ و لكن، ذاك أسلوبهم في الحياة، ينعكس في كتابتهم لنتأمل هذه النّصوص :
حفريات / نص لحسن البقالي ـ المغرب
لا يهم كيف عاش حياته. و إن كان ذاك الثقب في جمجمته دليلا على موته قتلا بضربة رمح او ما يشبه الرمح. رسالته الأهم للخلف، بعد ألاف السنين، أن أفضل علاج للموت هو الضحك. ذاك على الأقل ما أوحت به بقايا الجثة المدفونة تحت الثلج لعلماء الآثار. البقايا التي ترسم فكاها، ظلال ضحكة مبهمة .
***
سريالية / نص لمحمد جمال طحان ــ سوريا
دهش لأنّ لوحته نالت الجائزة الأولى في مسابقه باريس. وبعد أن أنهى إجراءات السّفر، وصل إلى المعرض..رأى لوحته.. همَّ بأن يقول للقائمين على المعرض بأنّ لوحته معروضة بالمقلوب لكنّه، في آخر لحظة، لزم الصّمت واكتفى بالاندهاش واستلام الجائزة.
***
ذكريات / نص لعبد الله الميالي ــ العراق
“توسّد فراشه، أغمض عينيه. بكلّ سعادة يتقلد ميدالية الفوز بسباق الركض قبل أن تسرقه الحرب.. استيقظ يبحث عن عكازه .
***
تشهد / جمعة الفاخري ــ ليبيا
تَشَهُّدٌ
ظَلَّ لِسَبْعِينَ عَامًا يَحْسُبُ نُقُودَهُ .. يُبَلِّلُ سَبَّابَاتَهُ بِرِيقِهِ وَيَشْرَعُ فِي عَدِّهَا.. عِنْدَ اِحْتِضارِهِ .. شَهَرَ إِصْبَعَهُ .. بَلَّلَهَا بِرِيقِهِ .. … وَلَفَظَ أَنْفَاسَهُ ..!!
***
هكذا نلاحظ أنّ كاتب السّهل الممتنع، ليس بالضّرورة كاتبًا سطحياً ، بل العمق يكمن في بساطة كتابته، التي لا يستطيعها الكثيرون، و إن كان في استطاعتهم الغوص في الغموض لحدّ الابهام.. كما نلاحظ أنّ السّهل المُمتنع في هذه النّصوص أساسه اللّغة السّليمة الواضحة، و البَسيطة المَفهومة .. و ذلك لجودة العبارة، و سلامة التّركيب، فضلاً عن الأسلوب السّلس غير المُتعاضل و لا المَمجوج.. بجيث لا تعقيد و لا تنافر، و لا تكلّف ولا تعسّف و لا ابتذال..
* مسلك *
ــــــــــــــــ
1 ــ القاضي الجرجاني ، الوساطة بين المتنبي و خصومه ص/ 24
2 ــ حازم القرطاجني ، منهاج البلغاء ، ص / 223