تكشف مؤلفات الشاعر الكسندر بوشكين-الذي يعتبره الروس أعظم شعرائهم ومؤسس المذهب الواقعي في الآداب الروسية وسابك اللغة الأدبية الروسية الحديثة، ويعده غالبية النقاد من عباقرة الأدب العالمي -أنهُ انبهر وتأثر بسماحة روح ورقي خطاب كتاب الإسلام الأول وآياته الحكيمة التي تعرف عليها من الترجمات الفرنسية والروسية لمعاني القرآن الكريم التي أمدت قريحة الشاعر بزاد الشعر اللذيذ. هذا التأثير الروحي-الإيماني لامس الخطاب الفلسفي-العقائدي ونحى إلى الشعري، المُتجسد في إيقاع سجع القرآن الفريد الذي لم يألف له الشاعر الروسي كفوا لا في إبداعاته الشعرية ولا في قراءاته الأدبية والدينية، تجلى وسطع في ملحمته الشعرية(محاكاة القرآن) أو (من وحي القرآن) وقصيدة (النبي) و(مغارة سرية) التي نظمها بوحي من سورة الكهف التي قرأها،على الأرجح، في الشتاء بمنفاه في قرية ميخائيلوفسكي، جنوب روسيا، وتَذَكّر فيها الشاعر بوشكين بقوة مغارة القرم الباردة والمظلمة والمكفهرة، وأيام(الحبس)و(العزلة)..وعند الشاعر بوشكين، يرى نيكراسوف،(تبقى الكلمات في ضيق بينما الأفكار في مدى رحب).هذا ما تشيع وتبشر به بلاغة الخطاب ورهافة وتدفق الإيقاع وعمق المدلول وصفاء المغزى في قصائد الشاعر.وما برح سراج القرآن المنير منهل الإلهام الشعري والإيماني ومحاكاة الماضي والافتتان البلاغي في قصيدة(مغارة سرية)*:
في مغارة سرية،
– في يوم العصف
قرأت القرآن العذب
فجأة هبط ملاك السلوان
حاملاً لي طلسمان
قوته الغَيبية
كلمات مقدسة
خطتها عليه
يد خفية .
(*)- هذه القصيدة وما يليها من قصائد ومقطوعات شعرية روسية ترجمة/ناظم الديراوي.
من وحي القُرآن
بعدَ قراءتنا المتأنية لملحمة(من وحي القرآن)وترجمتها إلى العربية ومقارنة مقاطعها الشعرية،المشبعة بالنصوص الدينية والخطاب الإلهي تبين لنا أن شاعر روسيا الكسندر بوشكين قرأ بإمعان،باللغة الروسية،ترجمة معاني القُرآن الكريم واقتبس آيات من سور؛البقرة والأحزاب والمُزمّل ومحمد والفتح والحجرات والواقعة والمُدثّر والقيامة وعبس والتكوير والبلد ونوح..، واستعار قصصاً ومواعظً هاديةً وعِبراً حكيمةً وثقت تمسكهَ بالفكر الإيماني،مبدد الغشاوة ومرشد الناس من الجهالة إلى النور،ومستأنساً بالمحاجات بين الأنبياء والمشركين(محاجات نمرود بن كنعان الجبار مع سيدنا إبراهيم) ومنشرحاً برُشد القلوب التي لا تزوغ وعلم ذوي الألباب المُبين ومعجزة لا إكراه في الدين والصبر الشفيع على بلايا الضَّالين…في هذه الملحمة الشعرية الممتعة تتجسد الكفاءة الرفيعة والموهبة الفذة في نظمهاُ.وما برحت الظلال الوارفة لأفكار وهُدى كتابنا الحكيم،القرآن الكريم،تنضحُ بنور الإيمان على أبيات القصيدة ما جعل معاصري الشاعر بوشكين ينظرون إلى منجزات وقيم الحضارة العربية– الإسلامية كمنبع معرفي وواقع نفعي راهن وممتد في روافد ورواق الثقافة الإنسانية،بعد أن سعت زمرة من المستشرقين واللاهوتيين الغربيين المتزمتين وأنصارهم إلى طمسها وتغييبها في دهاليز الظلام بعيداً عن فكر وثقافة ومجالس العامة!وحيثما تقرأ تحسُ بظلال الإيمان تُفئ من نَفحات روح القُرآن وتسري في شعاب ملحمة بوشكين الشعرية،قاصداً العبور بها من تيه الغشاوة والضلالة إلى رحاب النور واليقين،عَلّه يُزجي إلى الفردوس روحاً هائمة-حائرة ساورها وسواس الغموض،وأضناها عذاب المقام في حشر الدُنيا وشحيح زمانها،والتعرج بها إلى فضاء الغيب ونيل الخلود؛
أَوَلستُ أنا الذي اصطَحبَ
رأس مَن هو عزيز عليه
وأخفاَهُ في ظلٍ أمنٍ
بعيداً عن عسفٍ يُطاردهُ؟
أوَلستُ أنا الذي سقاكَ،
في يوم الظمأ،
من ماءِ الصحراءِ
ووهب لسانك سلطاناً
قديراً على الألبابِ؟
بمروءةٍ ازدري الباطلَ
واسلك، بثقةٍ،
صراطَ الحقِ
وأحبب اليتامى
وقرآني.
وبشر دعوتي
المخلوقات المرتعشة.
………………….
لِمَ يتغطرسُ الإنسانُ؟
أَ لأنهُ ظَهر إلى الحياة عارياً،
ليعيش ما لا يُزيد عن قرن،
وَيموتُ ضعيفاً
كما ولدَ ضعيفاً؟
أَ لأن الرَّب يُميتهُ
ويُحيه- بمَشيئته؟
ومن السماء يَحرس أيامهُ
في وهاد الأفراح
والأحزان؟
………………..
نعم أنتَ أشعلتَ
في الكونِ
أ نوارَ الشمسِ
فأضأتَ السماءَ
والأرضَ،
كوَهجِ فتيلٍ
في سراجِ بلورٍ
مغمورٍ في الزيتِ.
للخالقِ صلوا،
فهو القدير
يوجهُ الريحَ ؛
في يوم السعيرِ
ويزجي إلى السماءِ الغيومَ،
ويمنحُ الأرضَ
ظِل َالشجرِ.
………………………….
رحيمٌ هو ؛لمحمد
فتح القرآن المُنيرَ
أجل،سنشعُ نحن ُبالنورَ أيضاً،
بلا، ستزولُ الغشاوةُ
من العيون.
……………………….
بدعاءٍ من القلبِ
اطرد يا نبي
الهواجسَ الكئيبةَ
والأحلامَ الماكرةَ!
وتلو صلاةَ الصلاحِ
إلى الصباحِ
ورتّل كتابَ السماءِ
حتى مَطلعِ الفجرِ.
يا للقدر!كأن مصير الشاعر الكسندر بوشكين قد قضي وفقاً لرؤيته عن نهاية كل بطل باسل يخفق بين ترائبه قلب ليث غير آبه بدعوة عزرائيل لتفيض،بين يديه،روحه الطاهرة.ولعمري أن الأبيات التالية لا تخلو من نبوءة،إذ صُرع بعد نظمها الشاعر بوشكين في نزال دافع فيه عن الشرف الرفيع.والمفارقة إن هذا النزال المميت خلد بوشكين مثلما خلده الشعر ذاته:
حتى يكون القبر راسخاً
حيثُ يرقدُ الباسل هاجعاً
وليكونَ بوسعهِ الثأر،
على المحارب الصالح
دعوة عزرائيل.
أما المجموعات الشرقية للأديب المُبدع الكسندر بوشكين التي لم نتطرق إليها:(القمر يتألق)وروايته الشعرية(يفغيني أونيغين)و(روسلان و لودميلا)والرواية التاريخية(زنجي بطرس الكبير)و(رحلة في أرض الروم)وغيرها،فيمكن مقارنة معنويات أبطالها بأبطال المؤلفات الصوفية،الأمر الذي يفضي إلى ملاحظة تأثير إبداعات الفكر الصوفي (شعرا ونثرا)،وفلسفته التقية الزاهدة المترفعة عن غراء الدنيا،على كتابات بوشكين الأدبية والفلسفية.وربما أراد الحائر بوشكين أن ينأى بروحه إلى فضاء أرفع قامة وبهاء وتقية من فضاء مجتمع خيب من أماله ما كان عزيزاً عليه…وفي رائعته(النبي)يقول الشاعر:
كالجثة الهامدة،
كنت مضطجعاً
في الصحراء،
حين ناداني صوت الرب:
قُم،أَيها النبي، انظر و اسمع
ونفذ مشيئتي،
وجب البحار و اليابسة
وأشعل بالفعل قلوب الناس.
نخلص إلى أن المؤثرات العربية والإسلامية متجلية في خطاب ومُخيلة الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين كينبوع معرفي-إلهامي فاعل وممتد وذو أبعاد عقائدية-فلسفية ودنيوية-اجتماعية وجهت نحو خلق المزيد من التوافق والانسجام الروحي-الإيماني بين الإرادة البشرية المتطلعة إلى معرفة العالمين،الفاني والخالد،والإرادة الإلهية التي تحكم مصير ما في السماوات والأرض وما بينهما.وإلى أن يحل ذلك اليوم الموعود نبقى نردد مع الشاعر الروسي ميخائيل ليرمونتوف القسم الذي أُوحي إليه من سجع القران الكريم ورسالته الإيمانية-الاجتماعية الفاضلة:
أقسم بيوم الخليقة الأول
أقسم بيومها الأخير
أقسم بعار الجريمة
وبسيادة الحق الخالد…