أجرى الحوار: مصطفى علي عمار
يسعدنا في هذا الحوار أن نلتقي مع الناقد الأدبي المغربي د. مسلك ميمون، الذي يُعد أحد أبرز النقاد في مجال القصة القصيرة جدًا. يمتلك مسلك ميمون خبرة واسعة في تحليل النصوص الأدبية، وله العديد من الدراسات والمقالات النقدية التي تُسلط الضوء على جوانب الإبداع في القصة القصيرة جدًا.
يهتم مسلك ميمون بدراسة القصة القصيرة جدًا وتحليل بنيتها الفنية والدلالية، ويساهم في تطوير النقد الأدبي العربي من خلال دراساته ومقالاته التي تُناقش قضايا الإبداع الأدبي.
نناقشه في هذا الحوار في قضايا الإبداع في القصة القصيرة جدًا، وآليات تحليلها النقدي.
– تحليل النصوص: سنستعرض بعض النصوص القصصية القصيرة جدًا ونحللها مع مسلك ميمون لاستكشاف تقنياتها الفنية والدلالية.
ونأمل أن يُسهم هذا الحوار في إثراء فهمنا للقصة القصيرة جدًا وتحليلها النقدي، وأن يُقدم رؤى قيمة حول هذا النوع الأدبي المتميز.
*** *** ***
1 ــ ما مدى تطور القصة القصيرة جدًا “ق ق ج” منذ انتشار شبكة الأنترنت؟
ال (ق ق ج) جنس سردي حديث، كما يرى د. جميل حمداوي من المغرب أن: (القصة القصيرة جدا جنس أدبي حديث..) ( د جميل حمداوي : ” القصة القصيرة جدا جنس أدبي جديد”) وإن كان البعض من النقاد يعتبرونها مجرد نوع سردي قصصي كما ترى ذلك ناديا هناوي من العراق (القصة القصيرة ونظرية العبور بين الأجناس” القدس العربي ) إذ تقول: (تعد القصة القصيرة جدا، أوالأقصوصة ، والومضة، والحدوتة، والحكاية، والمثل، والنكتة ،أوالقفشة ، والخاطرة ، أنواعا سردية، لا تملك إمكانية التشكل الأجناسي تاريخيا ولا فنيا) ومسألة التجنيس واللاتجنيس خاض فيها النقد الغربي طويلا، وانتهى إلى التّذبذب كالذي نجده في كتابة تودروف وجرار جنيت وبخاصة في كتابه: “مدخل إلى جامع النص” وكذلك كروتشه، وكولر، وموريس بلانشو.. وانتهوا جميعا بعد تذبذب إلى التّداخل الأجناسي والأجناس الفرعية..
فالقصة القصيرة جدا، اتّخذت لها موضعًا متميزًا بخصائص مختلفة، قد تتقاطع مع خصائص أجناس أخرى دون التّماهي والذّوبان. ولقد كان زمن التسعينات زمنًا مناسبًا لانتشارالقص القصير جدا. فالكل أصبح يسعى في اتجاه القصر، والاحتفاء به، نتيجة اتباع نهج السرعة في كل شيء. فلم تعد القصة والرواية كما كانت تستهوي القرّاء. ففي زمن الأنفوميديا والأنترنت، ويسر النّشر، وقعت أشياء كثيرة تحت طائلة التّغيير والتّجديد، أوالتّجاوز والتّخلي .. يقول القاص فهد الخليوي: “القصّة القصيرة جدًا، هي بنت عصرها، عصر تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، وثقافة الصورة المتحركة لم يعد الإنسان في هذا العصر ميالا لقراءة المطولات الأدبية التي أصبحت محل اهتمام الباحث. في مجال أدب الشعوب. ومن منطلق هذه الحقيقة التي لا يقبلها البعض، أصبحت القصة القصيرة جدًا هي أكثر الفنون الأدبية انتشارًا وقراءة على الشّبكة العنكبوتية”.
فبذلك تكون القصة القصيرة جدا بدعة فنية في إطار فن القصة. وأقول بدعة لأنّها فن مستحدث. وإن كان البعض يحاول أن يجد لها مسوغَ وجودٍ في العصر الحاضر ومتطلباته : من سرعة وضيق الوقتـ، وكثرة الهموم اليومية، التي تصرف الإنسان عن مطالعة النّصوص الطويلة ….
ويحاول البعض الآخر، أن يبحث عن جذورها في التراث العربي، سواء منه المعاصر أوالقديم بغية إثبات شرعيتها في الوجود. ولكن ـ عموماً ـ القصة القصيرة جداً ، الهام من أمريكا اللاتينىة وجدت وامتلكت مكانا في الكتابة السّردية . وأصبحت تستقطب روادا في الكتابة القصصية . ومهتمين دارسين في مجال التّحليل والنّقد رغم قلتهم .و(ق ق ج ) جنس سرذي مختلف في بنيته التّركيبية، ورؤيته السّردية، وخصائصه الفنّية …
2 ــ هل استطاعت (ق ق ج) جذب الانتباه من القصة القصيرة؟
أعتقد أنّ الأمر يمتلك بعض الصّحة. وبخاصة حين نجد رواد القصّة القصيرة شحذوا عزمهم لخوض غمار ( ق ق ج) وظهرت لهم مجموعات متميّزة، وقلّت كتابتهم للقصة القصيرة.. فهذا لا شك لافت للانتباه، وأجده كظاهرة، مما يستحق الدّراسة. وهذا يذكر بظاهرة لتّحول التي وقعت في الشّعر، من العمودي الكلاسيكي إلى الشّعر الحديث، شعر التفعيلة. بله قصيدة النّثر.. حتّى أنّه يمكن الإقرار بأنّ القصيدة العمودية أصبحت شبه مهجورة لا يكتبها إلا ثلة قليلة..؟
3 ــ من أهم الرواد الحاليين فى مجال الق ق ج؟
ج/ ربّما كلمة (رواد) تبدولي في غير محلها لأنّ (ق ق ج) في الوطن العربي لم تكتسب روادًا بالمعنى الإجرائي. وإنّما أصبح لها كتاب متميزون بما يكتبون، ويطمحون لأبعد من ذلك، ربّما لا أستطيع ذكر كلّ الأسماء، وأكتفي بذكر واحد من كلّ قطر عرف تقدمًا في كتابة هذا الفنّ الجميل: أحمد بوزفور / المغرب . . إبراهيم الدرغوثي / تونس. علاوة كوسة الجزائر. شريف عابدين / مصر، مجيد الساعدي/العراق. زيد عبد الباري سفيان/ اليمن. زكريا تامر/ سوريا. سعيد بونعسة/ فلسطين مديحة الروسان /الأردن. فهد لخليوي / السعودية. هيفاء السعنوسي/ الكويت. منيرة حرب/ لبنان، الوكيل محمد عوض/ السودان..
وربّما استعراض اسم من كل قطر لا يوضح الصّورة إجمالا ..
4 ــ ماهي المعايير القياسية لعناصر القصيرة جداً ؟
ال (ق ق ج) عمل إبداعي فنّي، يعتمد دقّة اللّغة، وحسن التّعبير الموجز، واختيار الّلفظة الدّالة، التي تتسم بالدور الوظيفي، والتّركيز الشّديد في المعنى، والتّكثيف اللّغوي الذي يحيل ولا يُخبر. ولا يقبل الشّطط ، ولا الإسْهاب، ولا الاستطراد، ولا التّرادف، ولا الجمل الاعتراضية، ولا الجمل التّفسيرية.
والمضمون قابل للتّأويل ، ولا يستقرّ على دلالة واحدة، بمعنى يسمح بتعدّد القراءات … ووجهات النّظر المختلفة …
فإذا كانت ال ( ق ق ج) بهذه المواصفات، فحتماً لن يكتبها غير متمرّس، ماهر في اللّغة .
قاص بارع في البلاغة: متقن للّغة المجازية، متنبه لكمياء الألفاظ، وفضاء المعنى، وعمق الأسلوب. قاص لا تتحكم فيه حلاوة الألفاظ فيقتنصها لحلاوتها، بل لما يمكن أن تخدم به السّياق المقتضب . قاص لا يغتر بالقصر المجمل لقصره، أو الإسهاب المطول لإسهابه. ولكن يهتم بالمعنى على أن يُقدَّم بنسق لغوي فنّي في غاية من الاقتصاد، ليُمكن القارئ الشّغوف بفن القصّ القصير، أن يقرأ ما بداخل اللّغة لأنّ القراءة السّطحية لا تجدي نفعاً إزّاء هذا النّوع من القص . إذ لا بدّ من قراءة ما بين السّطور القليلة، وخلف الكلمات المعدودة، فهناك لغة التّضمين..
5 ــ تؤكدون على الخصائص الثلاث لكتابة ال (ق ق ج).. ماهي؟ وكيف تعرفها لنا؟
لاحظت منذ ظهور ال (ق ق ج) في سردنا العربي، كثرة اللّغط حول هذا الجنس وبخاصّة تسطير مصطلحات.. منها الجديد وأكثرها مستعار من أجناس أخرى. فأصبحت قائمتها لا تتوقف، بيد أن الأمر لا يتطلب بإلحاح كل ذلك.لأنّ ال (ق ق ج) في مستويين اثنين: مستوى دلالي ويفترض أن تكون القصة عبارة عن لقطة. ومستوى فني وأحصره في الزّايات الثلاثة: [ تركيز ، إيجاز، مجاز.]
التركيز بمعنى التبئيرFocalisation ، والإيجاز ويتضمن التّكثيف اللّغوي وعدم الإسهاب، أوالشّطط.. والمجاز بمعنى شعرية النّص. فإذا تحقّق هذا الثّلاثي يُغني عن الباقي.
6 ــ ما تأثير الصور داخل النص القصصي لدى المتلقي .. وكيف يتمكن الكاتب من تحطيم الجدار بين القص والشعر؟
لا شك أنّ تأثير الصّور الشّعرية ، والذّهنية بالغ التّأثير في نفسية المتلقي.. والفن لا يرقى إلا بما يخلفه من أثر، فكم قصة ورواية وقصيدة قرأتها في السبعينيات والثمانينيات بقيت راسخة أحداثها وصورُها في الذّهن إلى الآن، وكأنّني قرأتها البارحة. وكم من أعمال قرأتها منذ مدّة قريبة نسيتها تماماً وكأنّها كُتبت بماء، وكأنني لم أقرأها.. إنّما إذا كانت الصور الفنّية والشّعرية كلّ هذه المزية والقيمة .. ينبغي عدم المبالغة.. ففي المبالغة ما يُفسد كلَّ عمل فنّي…
7 ــ ما هي الصورة الشعرية السّردية.. وما خصائصها؟ الصورة الذهنية كيف تعرفها لنا ؟
الصورة الشعرية السّردية ليست جديدة في أدبنا العربي، قديما وحديثا. فكتابات المهجريين السردية مليئة بالصور الشعرية وهذا دليل على تقاطع الأجناس الأدبية عن قصد أوعن غير قصد.. هي عملية مثاقفة أدبية، فمن جمل وتراكيب فنّية بلاغية تنشأ صور في غاية الإبداع تخدم فكرة النّص، وتطير بخيال المتلقي مسافات خارج تخوم النص.. لقد وظّف الشّاعر سردية التّعبير في قصائده كما وظف القاص شعرية التعبير في قصصه ليس هذا هو الإشكال إنّما الإشكال في المبالغة، لدرجة التماهي بمعنى أن تذوب القصة في الشعر أو العكس يذوب الشّعر في القص والحكي. وهنا نصبح ليس أمام تقاطع واستفادة.. ولكن أمام تمازج، واندماج ، وتماهي.. واعتبار المكمل هو الغاية والهدف.. وحين يصبح الجزء هو الكلّ تنقلب الآية رأسا على عقب..
أمّا الصّورة الذّهنية (Mental image) فهي أرقى ما يمكن أن يحدثه النص في ذهن المتلقي، وبخاصّة إن جاء ذلك بتلقائية ودون تكلّف والسّؤال عن الصّورة الذّهنية عميق جداً لأنّ الإحاطة به تجعلنا نلامس عدّة مقاربات منها: المقاربة الفزيولوجيّة لمفهومِ الصّورة الذّهنيّة، والمقاربة الفلسفيّة، ومقاربة علم النّفس، بل وحتّى المقاربة التّسويقية (marketing) في مجال التجارة، ولكن حسبنا أن نعرف فقط أن الصّورة الذّهنية هي أوّل ما يرتسم في الذّهن بعد التّلقي، وهي قبل الفكر، لأنّ الفكر ينبني عليها فإمّا أن تكون مشوشة، فيصدر عنها فكر مشوش وإمّا أن تكون واضحة بيّنة فينتج عنها فكر جيّد ..فقط ينبغي أن نعلم أنّ الصّورة الذّهنية قابلة للتّطور والتّغيير حسب التّلقى وهي بذلك عكس الصّورة النّمطية، التي تتَّسم بالثّبات، والتي هي مع الأسف الشّديد الصّورة الشائعة بين معظم قصاصينا. الشيء الذي أشاعَ نمطية النّص.
8 ــ ما لغة القصة القصيرة جدا وكيف تخدم النص وتزيد من قيمته الجمالية؟
لكل عامل أدواته فلا يمكن للنّجار إلا أن يستعمل أدواته الخاصّة، وكذلك الحدّاد، والميكانيكي، والكهربائي.. وقد نجد أداة مشتركة لا بأس، إنّما عموماً كلّ ويتميّز بأدواته الخاصّة التي لا يتمّ عملُه إلا بواسطتها، رغم خبرته ومعلوماته وممارساته.. فكذلك القاص بخاصّة، والكاتب عامّة لا بدّ من اللّغة. إتقاناً لقواعدها، ودراية بأساليبها، ومعرفة بمعانيها، وتجلياتها.. ومع ذلك لا بدّ من التّخصيص والحصر، فلغة القاص لغة حكي، وليست لغة شعر. لذا لا ينبغي لشعرية النّص السّردي أن تكون طاغية ومهيمنة، فتفقده هويته التّجنيسية، ولغة القص تكتسَب عن طريق كثرة المطالعة للنّصوص السّردية القصصية. والذي لا يطالع بشَرَه. سيسقط في أتون اللّغة المعيارية، وهي أبعد من لغة القص بعداً كبيراً.
9 ــ هل انت مع تحديد طول النص القصصي القصير جداً ؟ ومتى تنتفي صفة القصير جداً عن نص ما ؟
إذا كنت أدعوللزايات الثلاثة (التركيز ، الإيجاز، المجاز) فهذا الاختيار في حدّ ذاته لا يسمح بالطول.. إلا فيما تفرضه عبارة (قصيرة جداً).علماً أنّ هذا الفن القصصي من أصعب السّرديات على الإطلاق. ولا يستسهله إلا من يَجهله.. ولكنّه يتأتي بالصّبر والأناة والعزم والممارسة، وحسن الاطلاع والإنصات الجيد لنبضات النّقد.. إذ يتّضح ألا كسبَ بدون تعب ..
10 ــ كيف يتجنب القاص الوقوع في التكرار أسلوبا وموضوعا.. ؟
هذا ما يحدث مع الأسف . فكلما كتب القاص نصا ناجحا يجعل منه نموذج اقتداء، يكتب على منواله، سواء عن قصد أو دون قصد …
الإبداع كلمة كبيرة. وليس كل من يكتب (خربشات) يسمى مبدعاً. الإبداع أن تأتي بشيء جديد يشهد لك عن ذوق، واجتهاد، وإنتاج .. (production ) والمشكلة أن معظم الكتاب لا يعوون هذا. أي: أنّ الإبداع عبارة عن ظهور لإنتاج جديد نابع من التّفاعل بين الشّخص وما يكتسبه من خبرات “. وإنّ عدم استيعاب مراحل الإبداع الأربعة : مرحلة الإعداد، ومرحلة الاحتضان، ومرحلة الإلهام، ومرحلة التّحقق. لا ينتج إبداعا حقيقيا ..
الإبداع في اللّغة هو الاختراع والابتكار على غير مثال سابق. وبصورة أوضح هو إنتاج شيء جديدٍ لم يكن موجوداً من قبل على هذه الصورة.
وقد عرّفت الموسوعة البريطانية الإبداع على أنّه ”القدرة على إيجاد حلول لمشكلة أو أداة جديدة أو أثر فنّي أو أسلوب جديد”.
كما أنّه يمكننا أن نستذكر تعريف العالم جوان (gowan): ” الإبداع مزيج من القدرات والاستعدادات والخصائص الشخصية التي إذا وَجدت بيئة مناسبة يمكن أن ترقى بالعمليات العقلية لتؤدي إلى نتائج أصلية ومفيدة للفرد، أو الشركة، أو المجتمع ،أو العامل”.
كما أنّ العالم تورانسtorance قد عرّف الإبداع فقال ”الإبداع هو عملية وعي بمواطن الضّعف وعدم الانسجام والنقص بالمعلومات والتنبوء بالمشكلات والبحث عن حلول، وإضافة فرضيات واختبارها، وصياغتها وتعديلها باستخدام المعطيات الجديـدة للوصول إلى نتائج جيدة لتقدم للآخرين.”فأنى لنا وهذا الذي ينطلق منه الكتاب ويحسبون أنهم يبدعون وهم لا يكتبون إلا كلاما مكرورا.. وما هو كذلك ليس في الإبداع في شيء. لهذا درجة الإبداع درجة عالية ومطمح ينبغي السّعي إليه بهمّة، ونشاط، ومواظبة، وممارسة.. وأنّ الإبداع ليس هو الكتابة في حدّ ذاتها، إنّما الإبداع في الطريقة، والتّميز، والابتكار في المعنى ودلالته ونسقه… والأمور بخواتمها.
11 ــ أين تكمن خطورة الراوي /السارد في عرض الحدث وكيف يتجنب التقريرية والمباشرة؟
كل ما في الأمر ينبغي تجنّب السّارد العليم (omniscient) لأنّه يعرف كلّ شيء، ويتحدث عن كلّ شيء، ويهيمن على النّص.. ولا يترك مجالا للخيال أوالتّخييل.. ويصبح المتلقي في وضع المستهلك السّلبي، وهنا تكمن خطورة السّارد، لأنّه يجعل من النّص موجزاً إخبارياً.. لا قطعة فنّية للتّصوّر، والإيحاء، والتَّأمّل…
أمّا فيما يتعلّق بالتّقريرية والمباشرة.. وهي معضلة تسري في النّصوص فتميتها فنّياً ، وتصنفها إخبارياً.. ينبغي اعتماد الزَّايات الثلاثة التي أدعو إليها:
(الإيجاز، والتركيز والمجاز) فالكلام الموجز بليغ، والتّركيز بليغ، والمجاز بليغ، وليس مع البلاغة تقرير، أو مباشرة.. هذا ويُستحسن توظيف السّارد المحايد .
12 ــ حدثنا عن التكثيف في القصة القصيرة جداً وهل يكفي لنجاح نص قصصي ؟
مسألة (التّكثيف في ال (ق ق ج) . لا تستحق نقاشاً مستفيضاً. لأن التكثيف أصبح ميزة هذا النّوع الأدبي السّردي والذي أرغب فيه أن ينصب النقاش على كيفية التّكثيف لا عن وجوده أو عدم وجوده في القصّة عموماً، والقصّة القصيرة جداً بخاصّة.
إنّ الخلط كبير لدى المبدعين في هذه المسألة. بل هناك من لا يرغب قطعاً في مسألة التّكثيف عزوفاً وهروباً من تبعاتها وما تتطلبه من دراية؛ ومشقة؛ وتقنيات ؛ وتجربة.
13 ــ كيف يكون التّكثيف اللّغوي وما دوره؟
إنّ الفنية الإبداعية الأدبية سواء في السّرديات أوفي الشّعر لا تتأتى إلا بالنّسق المناسب. ففي القصة لا بدّ من اللّغة القصصية . وفي الشّعر لا بدّ من اللّغة الشّعرية . وهذا يعني، ألا محلّ للغة العادية (natural langage) التقريرية الخطابية المباشرة …
إذاً ، نحن أمام لغة مختلفة ، ذات خصوصية ، قد تصبح قيمتها في نفسها لأنّها فنّية . على عكس اللّغة العادية ، التي قيمتها فيما تحمله من أخبار .
ولكي تكون اللّغة فنّية (قصصية أو شعرية) ينبغي للمبدع الاطلاع قدر الإمكان ب(كمياء) اللّغة : قواعد النّحو، والصّرف، وضروب البلاغة. و( فزياء) اللّغة : علم المعني أوالدلالة ( sémantique) والأسلوبية (stylistique ) وعلم العلامات (sémiologie ) فضلا عن علم اللّغة (science du langage ) وعلم السردّ وتضاف إلى كلّ هذا الخبرة الشّخصية التي يكتسبها المبدع من خلال مطالعاته الخاصّة لإبداعات الآخرين .
فإذا كانت اللّغة الفنّية المكثفة تتطلب هذا وغيره. فإنّ الكثير لا يعبأ بها . وينطلق في كتابته انطلاقاً من موهبة في حاجة إلى صقل، ومن تقليد ومحاكاة في حاجة إلى توجيه وترشيد . فتأتي الكتابة إمّا مفككة منحلة. تعرض حمولتها عرضاً، وينتهي دورها. وإمّا تأتي طلاسم معقّدة، أو أحجية وألغاز منغلقة.. فلا تواصل بين المرسل، والمرسل إليه. ويفتح المجال للنقد الإسقاطي، والنقد الانطباعي الاعتباطي، والتّعليقات اللامسؤولة، كما هو عندنا في (المواقع الالكترونية) وكلّ يؤوّل ما شاء كيفما شاء. ولا أحد يستنطق النّص . أو يفتح مغالقه .. وهذا ليس في النّقد أو الإٌبداع في شيء .
فالمراد بالكثافة اللّغوية : الإيجاز غير المخل ، الذي يوحي بالرّؤى الممكنة، والتي قد لا يأتي بها الإطناب الممل .
والتّكثيف ـ بالتّالي ـ ليس هو التّعجيز أو الإبهام أو الألغاز … فذاك كلّه لا يأتي به غير مبتدئ في الفن ، أو مشوش الذّهن ، أو فاشل في عمله …
ومسألة التّكثيف ليست جديدة في أدبنا العربي فمن يعود إلى كتاب:(المستطرف في كل فنّ مستظرف ( للأبشهي سيجد عجباً . ومن يعود إلى مجموعة جبران خليل جبران: المجنون والتي صدرت منذ أكثر من ثمانين سنة سيكتشف أنّ مسألة التّكثيف واردة أيضا في أدبنا المعاصر في مجال الحكي.
14 ــ هل الرمز أداة ووسيلة أم غاية في النص القصير جداً ؟
بل الرمز هو مجرد أداة ليس إلا، وفي خدمة فكرة النّص. وأغلب الكتاب المبدعين في مجال القصّة لا يحسنون توظيفه، فبدل من نص قصصي فنّي ينقلب كلّ شيء طلاسم لا مخرج منها. وكلّ ذلك يعود لعدم استيعاب وظيفة، وفلسفة الرمز، كأداة فنّية .
15 ــ كيف يختار الكاتب قفلة/خاتمة جيدة لنص ؟
لا أحبّ أن أسميها (قفلة) وأعتبر هذا المصطلح غير صحيح. فإن كان رائجا في قصائد الشعر، وبخاصة الموشح الأندلسي فليس ما يجوز هناك يجوز هنا دائما.. فالقصة القصيرة جدا مفتوحة، وأبوابها ونوافذها مشرعة.. وإلا كيف نتحدث عن الخيال والتّخييل والتّأمّل والتّساؤل، والتّأويل.. إن كانت القصة مقفلة؟ لذا أرى أن مصطلح ( قفلة ) غير صالح وأحسن منه دلالة ووظيفة مصطلح ( الخَرجة) وإن كان هو نفسه مصطلح من الشعر وبخاصة الموشح، إلا أنه ملائم من حيث المعنى والدّلالة .. فالمتلقي ينتهي إلى خرجة من التّأمّل، والتّأويل، والتّساؤل….
وأحسن الخرجات للقصة القصيرة جداً ما جاءت عفو الخاطر, بدون تصنّع أو تكلّف.. وهذه لا تتأتى في الغالب إلا إذا كان القاص قد تشبّع بفكرته ،أو أنّها تخمّرت في ذهنه.. فذلك عامل مساعد في الإتيان بخرجة مناسبة .
16 ــ ما رأيك بكتاب ونقاد القصة القصيرة جدا حالياً وما رسالتك إليهم؟
الناقد عُملة صعبة في هذا الزّمان، وعدد النّقاد العرب في مختلف التّخصصات قلّــــة قليلة، قياساً للشّعب العربي ، وبخاصّة مثقفيه.. وحتّى من هو موجود من النّقاد، قد لا يجود بالموجود.. للأسف الشّديد .
لهذا فُتح البابُ على مصراعيه لكلّ من هبّ ودبّ. وانتشرت هذه التّعليقات، والارتسامات، والانطباعات اللا مسؤولة ، في كلّ المنتديات . بل اعتبرها البعض عن جهل وقلّة وعي وإدراك؛ هي النّقد بذاته. وشتّان ما بين النّقد وبين هذه التّعاليق التي هي كالضّحك على الذقون ، لا تسمن ولا تغني من جوع .
كنت أفضل دائماً أنّ القارئ ما دام لا يملك قدرة على النّقد والتّحليل. أن يكتفي بوضع سؤال أو سؤالين ويمر. فوضع السّؤال دليل على حبّ الاطلاع والاهتمام مثلا :
ـ لماذا وضعت هذا العنوان الذي هو مخالف لما انتهت إليه القصّة؟
ـ لماذا أكثرت من الروابط وبخاصّة الفاء ؟
ـ لماذا أهملت كليا علامات التّرقيم؟
ـ لماذ تكررت الكلمة (؟) خمس مرّات في نص من ثلاثة أسطر ؟
ـ لماذا وظفت رمزاً إغريقياً واستغنيت عن الرموز العربية ؟
ـ ألا ترى أنّ النّص غير واضح وصعب حتى على التّأويل؟
ـ ألا ترى أنّ النّص واضح لا يحتاج إلى تأمّل أو قراءة ثانية؟
ــ …………………….
هذه الأسئلة وغيرها كثير.. تثير نقاشاً هامّاً في مواقع التواصل الاجتماعي بين المتلقي والمبدع . فإمّا يقنع المبدع المتلقي، أو يتدارك المبدع هفواته فيصحّح ويغير ويتدارك نصّه. نحن في حاجة إلى قارئ بهذا الشّكل،لا القارئ الذي يكتب تعليقاً أفرغ من فؤاد أم موسى .
وربّما يتساءل البعضُ؛ لماذا لا يشارك النّقاد على قلّتهم؟
ـ السبب الأول: إن الكثير ممّا يقرؤون لا يمتّ للشّعر أو للقصة بأدنى صلة .
ـ السبب الثاني : إنّ النّاقد حتّى إذا أقدم على النص محللا وموضحاً ومقيّماً.. وأنفق في سبيل ذلك وقتاً ثميناً، وجهداً فكرياً مضنياً .. يأتي الكاتب في النهاية مستخفّاً بكلّ ذلك، بل مستخفّاً من النّاقد نفسه. لأنّ في ذهنه المريض أنّ النّقد تهجّم وحطّ من قيمة الإبداع . ويجهل أنّ ما كتبه لا يعدو أن يكون إلا ذاك التّحليل والتّقويم …وهذه حالات عشتها طوال العقود الثلاثة الماضية. وإن كنت أنسى فلم أنس أحدهم انتقدت قصيدته وركزت على ما هو لغوي في النّص . حين ردّ لم يعترف ولا بهفوة واحدة ، من هفواته. بل كلّ هفوة وجد لها مخرجاً ليقنعني. وهل هناك مخرج مع القاعدة النّحوية ،أو الصرفية، أو الإملائية، أو اللّغوية.. إلا القاعدة؟
فإذا كان النّاقد قد غرق في أتون اللّغة، ولم يجد لها حلاً مع الكاتب فكيف يبحث معه أموراً أخرى كالوزن وسلامته؟ والرّمز ودلالته؟ والانزياح وتأويلاته؟
ـ السبب الثالث: المبدع لا يدرك قيمة النّقد بالنّسبة لعملية الإبداع . ولوكان يدرك ذلك لبحث عن النّاقد بنفسه، ولعرض عليه عمله مترجياً متوسّلا أن يفيده.. لا أن ينتظر تعليقات المجاملة، والرّياء، من قبيل: (بورك قلمك الذّهبي، ولغتك السّامية، وأفكارك العظيمة ..) أو( هذا ما قرأته من قبل !! كتابتك تزداد إشراقًا وإبداعًا..!! زدنا وأفدنا..!!) أو(أشرقت الأنوار بإشراقة كتابتك البهية !! دمت بلبل الدوح الغريد.. !!)
ما هذا الهراء؟! ما هذا الإسفاف؟!
والمصيبة، أنّ هذا الثناء والرّياء والنّفاق .. هو ما يريده بعض القاصين والشّعراء .. ومع ذلك يطمحون أن يتطوّر إنتاجهم ويتحسّن . ولا أدري من أين يأتي التّطور والتّحسّن في غياب النّقد أو عدم الإيمان به؟! والاكتفاء بالحماس للكتابة والاعتماد على الرّغبة والهواية.. رغم علمهم، ويقينهم التّام، بأنّ الحماس بلا معرفة نور بلا ضياء.

