الرباط ـ «القدس العربي»: أوضح الأديب والأكاديمي المغربي حسن أوريد أنه لا يمكن تجاوز مشكلات اللغة العربية من دون وجود إرادة سياسية ورغبة ووعي بخطورة الأمر. ولاحظ أن القوى الداعمة للغة الضاد توارت أو ضعفت، مشيرا إلى أن السلطات السياسية لا تعير للموضوع أهمية، وهي تشعر بالحرج لأنها ذاتها لا تحسن اللغة العربية، ولو بنتْ شرعيتها على أصول عربية وذؤابتها العليا منها، وعلى مرجعية الإسلام، ولا هي تنتصب مثالا يُحتذى في المعرفة عموما، وفي المعرفة باللغة العربية خصوصا، بل يُعيي بها الإلقاء. ومن ثم، لم تجد هذه اللغة حاضنا من حكام العالم العربي، فأغلبهم يعتبرونها إصرا، ويرون فيها غِلا دون أن يستطيعوا أن يجهروا بذلك، مما ينضح عنه لسان حالهم.
وفي محاضرة ألقيت أخيرا في الرباط بدعوة من «الائتلاف الوطني للغة العربية»، أفاد أوريد أن المؤسسات الدينية الإسلامية (كالأزهر والنجف والزيتونة والقرويين) لم تعد حاضنة لحرمة اللغة العربية، إذ غلبتها أمور السياسة وتغلبت عليها وانزوت تلك المؤسسات في أروقة ضيقة، وأصبحت أدوات بيد الحكام ضد اتجاهات سياسية تمتح من الإسلام أو توظفه. وتابع المحاضر قوله «إنك لن تعدم أن تجد واحدا من العلماء يلحن وهو يلقي درسا بها في المسجد أو التلفزيون أو دروس رمضان، وقد كان يسوغ كل شيء لدى خريجي تلك المؤسسات، سوى أن يلحنوا.» مشيرا إلى أن لغة الضاد تأذت أيضا من مخلفات خطاب القومية العربية، وقد تبنت ماركسية طفيلية أو هجينة. كما أن المجامع أضحت هياكل بلا روح، وإن وجدت لم يقم تنسيق فيما بينها. وأما الترجمة ـ يتابع أوريد ـ فهي فوضى عارمة يحددها السوق، فلا هي لا تلتزم دقة المصطلح، ولا تحافظ على رونق اللغة.
واستطرد قائلا إن ما اكتسبته اللغة العربية من حيث عددُ الناطقين، فقدته من حيث نوعيةُ اللغة وسلامتُها ودقتُّها، مستدركا بالقول إن مشكلات هذه اللغة ليست مقترنة أو لصيقة بها، بل هي في عجز الناطقين بها عن رفع التحديات التي تطرحها الحياة العصرية، وللضغط الذي تمارسه مختلف تعابير اللهجات التي هي لغة الحياة كما يقال، وفي هيمنة اللغات العالمية، لغات العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والحداثة.
وأشار أوريد إلى أنه لا ينبغي التستر على الصعوبات والتحديات التي تعترضها، ولكنها في الوقت ذاته، تختزن تراثا غنيا يسعفها في الانبعاث، وتتضمن قدرة عجيبة على التطور والتكيف. ولتحقيق ذلك، اشترط المحاضر أولا محبة اللغة العربية وثانيا إتقانَها من لدن من يدافعون عنها، فيملكون ناصيتها، ويُسيّرونها حيث يريدون لا حيث هي تريد، لأنها قد تستدرجهم بماضيها إلى الانفصال عن واقعهم.
وقال إن خصوم العربية ينطقون بجزء من الحقيقة، بينما لا يمسك دعاتها الحقيقة المطلقة. وبيّن ذلك بالقول إن خصوم اللغة العربية أطياف عدة، وهم يأتون من مشارب مختلفة، وغالبا ما يرتبط العداء للغة العربية بمرجعية أيديولوجية مناوئة لإيديولوجيات أخرى، ومنها القومية العربية أو الحركة الإسلامية، بَلْه الإسلام، أو لأوضاع، ومنها للأنظمة القائمة، أي أن الموقف من اللغة العربية هو شماعة للتعبير عن تلك الاتجاهات.
وتلتقي في ذلك قومياتٌ غير عربية من داخل العالم العربي، أو أقلياتٌ دينية، أو اتجاهاتٌ علمانية، أو تقنقراطيون، أو أوليغراشيات نافذة لم يَنْطع لسانها بالعربية، أو عناصر تحن للعهود الاستعمارية و أدوات للاستعمار الجديد من فرانكوفونية وتقنقراسية (أي حكم التقنقراط)، في بلاد المغارب أو في لبنان، أو معارضون لأنظمة حاكمة وقد يكونون من مخلفات الشيوعية.
واستدرك قائلا إنه من الصعب إجراء مسح دقيق أو تطابق ما بين هذه الروافد والعداء للغة العربية، فليس كل كردي مناوئ بالضرورة للغة العربية، ولا كل قبطي يناصبها العداء، ولا كل اتجاه أمازيغي يريد أن يجهز عليها، ولا كل مَن يحمل رواسب شيوعية أو اتجاه ماركسي يريد أن يُفجرها، بيد أن خصومها يأتون من هاته الروافد.
أمام هذا الوضع ـ يتابع أوريد ـ لا يجد أنصار اللغة العربية، رغم عددهم، ورغم القوة المحتملة للغة العربية، ورغم حمولتها التاريخية والرمزية، قوة في مستوى التحديات التي تواجهها والتطلعات التي تسكن دعاتها. فالمدافعون عنها، منهم من يحسب الحَميّة وحدها تغنيه عن المعرفة، أو التحامل ضد الآخر أو التنابز معه، بنعته بأقذع النعوت والنيل منه، عوضا عن العمل.
ودعا المدافعين عن لغة الضاد إلى الخروج من القوالب القائمة، أو من «البارديغمات» السارية، موضحا أن أول الأشياء هو تحديد طبيعة اللغة العربية، فهي لغة حضارة، قبل أن تكون لغة قومية، فهي ليست لغة العرب وحدهم، كما أن الإنجليزية لم تعد لغة الإنجليز وحدهم، ولا الإسبانية لغة الإسبان دون سواهم، وكما أن الروسية لم تعدد لغة الروس فقط. ومن حق القوميات الأخرى التي تعايشت في حضن الحضارة الإسلامية أن تحافظ على لغاتها، وأن يتعايش الارتباط ما بين اللغة القومية واللغة الحضارية. وليس من الرأي في شيء الدعوة إلى إماتة اللهجات.
ونبّه المدافعين عن العربية بضرورة عدم التأذي مما يفرضه خطاب الخصوم من تحدٍ، فعليهم ـ كما يقول ـ أن ينظروا إلى الجوانب الموضوعية منه، وعليهم أن يجعلوا منه حافزا لهم وباعثا لها. وذكر أن لغة الضاد استطاعت أن تُبين على قوة فائقة على التطور، حيث انتقلت في أقل من قرنين من لغة قبَلية إلى لغة دين، فلغة قومية، فلغة حضارة، واستوعبت في يسر تراث بيزنطة والساسانيين، وعلوم الهند وفلسفة اليونان، وفعلت ذات الشيء في بلاد المغرب والأندلس، وأضحت لغة العلم والفلسفة فضلا عن الآداب، ولم تتأذ من الانفتاح، وعمدت للترجمة.
وتابع قوله إنه كان على اللغة العربية أن تمر بفترة تمرد، وتنفض ثقل الماضي، وتفك الارتباط بالدين، وتعانق العصر. «فهو مسلك طبيعي أن تثور ضد القدسية وتتخلص منها. تلك مرحلة ضرورية بله طبيعية، إلا أن ذلك لا يُعفي من مرحلة ثالثة، هي إعادة القدسية لها، هي احترام عبقريتها، فأي فائدة أن أُبقي على نبت من غير رُواء، وعلى صورة من غير روح.» على حد تعبير المحاضر.
المصدر:القدس العربي