السبت 28 فبراير 2015 – 05:43
ماذا دسترنا لغويا في دستور سنة 2011 ؟ قبل الخوض في الجواب على هذا السؤال الذي لم يطرح في عمقه لحد الآن عند أصحاب القرار ، لابد من التذكير بأن جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ، عندما عين الأستاذ عبد اللطيف المنوني على رأس لجنة مراجعة الدستور سنة 2011 ، كان قد ألقى قبل ذلك في 9 مارس 2011 خطابا ألح فيه على أن تعطى الأهمية للثقافة الأمازيغية. وكنا كمواطنين مغاربة ننتظر أن يكون من بين الأساتذة الجامعيين المكونين للجنة الاستشارية لمراجعة الدستور أساتذة مختصون في الشأن اللغوي المغربي للبث في القضية الهوياتية، أي لسانيون مشهود لهم بالكفاءة ومعروف عنهم أنهم على دراية تامة بالوضع اللغوي بالمغرب،لكن ذلك لم يحدث و فضل الأستاذ المنوني- مع كامل الأسف -أن يختار زملاء له من الحقوقيين فقط.
وهكذا جاء دستور 29 يوليوز 2011 ينص على اللغتين العربية و الأمازيغية ويتحدث عن قوانين تنظيمية خاصة بالطابع الرسمي للأمازيغية ،وما زلنا ننتظر لحد الآن هذه القوانين لنعرف هل سيكون الدستور صادقا ومنسجما مع ما نص عليه و سيرسم فعلا على أرض الواقع ما جاء به لغويا. نقول هذا لأن تجربة المغاربة مع الدستور فيما يتعلق بترسيم اللغة العربية الفصيحة منذ الاستقلال كان عبارة عن ذر الرماد في العيون وعن قارورة للرضاعة. فأي ترسيم هذا الذي أتاح و مازال لحد الآن للغة الفرنسية اجتياح كل المجالات بكيفية بشعة في ازدراء تام للشعور الوجداني للمغاربة تجاه لغة يعزونها لأنها لغة دينهم قبل كل شيء؟ أي ترسيم هذا الذي اجتهد وجاهد من كان من ورائه في إنجاح التهميش المتعمد للغة العربية الفصيحة و هو التهميش الذي تجلى بالخصوص في عدم مواصلة تدريس المواد العلمية بالجامعة باللغة العربية الفصيحة وفي الهروب حتى من الفصل 114 من الميثاق الوطني للتربية و التكوين الذي أعطى المجال لإمكانية فتح مسالك علمية اختيارية باللغة العربية الفصيحة في الجامعة ؟ هذا النكوص جعل خصوم العربية الفصيحة يحملونها فشل التعليم وهي منه براء كلية لأن الفرصة لم تسنح لها بالجامعة لتدريس العلوم بها، و لم يفتح لها منافذ للشغل في مختلف المؤسسات الإدارية و الاقتصادية بالبلاد وهو ما يناقض ما جاء به الدستور.
وكما نشك في صدقية هذا الترسيم الذي يستعمل اللغة العربية الفصيحة في تدريس العلوم باللغة العربية في التعليم الثانوي و يحكم عليها بالعجز و القصور في التدريس بها في التعليم العالي ،مع العلم أنه لا فرق بين مستوى قسم الباكالوريا و السنة الأولى من التعليم العالي و السنوات الموالية التي يدرس بها أساتذة يوصفون ب” الباحثين ” أي أساتذة لهم القدرة على إيجاد الحلول الملائمة لكل الإشكالات التربوية إذا قرر أصحاب القرار تطبيق ما يتعلق باللغة في الدستور.
تدريس العلوم باللغة العربية نجح في الثانوي ،و لا يقول بغير هذا إلا من يكن للغة العربية الفصيحة الحقد و الضغينة ، فكيف لا ينجح على يد الأساتذة الباحثين في التعليم العالي؟ لهذا نعتقد أنه من حقنا أن نتساءل كيف سيكون ترسيم اللغة الأمازيغية المعيارية وهي مازالت في طور التقعيد و المعيرة كما يصرح بذلك المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالمقارنة مع ما عاشته اللغة العربية الفصيحة ذات العمر الطويل والتراث المعرفي الضخم و التجربة الرائدة في جميع ميادين المعرفة من محن مع أصحاب القرار؟ هذا ما يدفع إلى الوقوف بعجالة للتأمل قليلا في هذين الأداتين اللغتين المدسترتين.
بالنسبة للغة العربية التي ينص عليها الدستور المغربي كإحدى اللغتين المدسترتين فهي اللغة العربية المنقحة التي تستعمل في جميع المجالات الإبداعية والمعرفية في جميع البلاد العربية التي يعمل الغرب المستبد و المتغطرس على تشتيتها خوفا من قوتها الصاعدة ،هي تلك التي نشرت بها الملايين من الكتب عبر تاريخها الطويل وما زالت المئات من الكتب تنشر بها حتى اليوم دون انقطاع، هي التي تصدر بها المئات من الجرائد اليومية التي يقبل على قراءتها في المقاهي في جميع الأقطار العربية كل صباح المثقفون الذين ساعدهم الحظ في ولوج المدرسة ، هي اللغة التي تستعمل في عدد هائل من البرامج الثقافية و الحوارية و الوثائية الموجهة إلى الفئات المثقفة في العالم العربي عبر القنوات الفضائية التي تتكاثر يوما عن يوم و التي تخصص بطبيعة الحال برامج أخرى بالدوارج لمن لم يسعفهم الحظ في التمدرس لأسباب عديدة ، هي اللغة التي نكتب بها في جرائدنا الإلكترونية ك “الهسبريس “على سبيل المثال و تكون تعليقاتنا بها على المقالات المنشورة جيد ة إذا كان مستوانا في اللغة العربية جيدا بفضل القراءة الدائمة و المستمرة.
هي اللغة التي نلقي بها مداخلاتنا في الندوات والمؤتمرات و اللقاءات الثقافية والعلمية – وما أكثرها في جل البلاد العربية – التي يحضرها من لم تشملهم الأمية المقيتة التي شجع عليها بعض الحكام العرب حتى لا يكون هناك مجال لترقي الوعي وتعميقه عند الناس، وهو الوعي الذي قد يمكن من الإطاحة بهم ،ولذلك فهم يصرون على ترسيخ الأمية في المجتمعات العربية مع ما لهم من أموال طائلة ، هي اللغة التي يتكلم بها المثقفون العرب فيما بينهم من المحيط إلى الخليج ليتفاهموا لأن الدوارج قد تكون عائقا كبيرا في الفهم ، هي اللغة التي عاشت لمدة قرون و لم ينل الدهر منها شيئا حتى الآن ، بل ظلت صامدة وهي اليوم جاهزة للقيام بدورها في مواكبة العصر ، لكن عائقها الأكبر هو غياب الإرادة السياسية لدى أصحاب القرار لأسباب لايمكن بسطها في مقال صحفي كهذا . هذه اللغة ليست نصف ميتة ونصف حية كما يذهب إلى ذلك الأستاذ محمد بودهان الذي أخبره بالمناسبة أننا في الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية نقوم اليوم بحملة مستمرة عبر الهاتف و” الواتساب” وعلى الهواء مباشرة بالخصوص لدفع جميع المثقفين داخليا و خارجيا للحديث بالعربية الفصيحة البسيطة في الحياة اليومية، وهي حملة بدأت تعطي أكلها و ستنتشر كالنار في الهشيم بإذن الله تعالى، و أهيب بمن يقرأ هذا المقال أن ينضم لحملتنا هذه وهي حملة عشاق اللغة العربية الفصيحة و ليس مجانينها .
هي لغة حية ، قوية ، لها قدرات هائلة و ليست لغة عبادة و تعبد فقط ،بل لغة علم كتب بها،على سبيل المثال ، أبو القاسم الزهراوي في القرن 12 حول داء السرطان ما يبهر العلماء في عصرنا هذا ،و أحيل القارئ الكريم على كتابه العلمي الرائع “التصريف لمن عجز عن التأليف ” كنموذج فقط لما يمكن أن تقوم به اللغة العربية الفصيحة للتعبير عن دقائق الأمور في الطب .، فكيف لا تقوى اللغة العربية على الرجوع إلى مجد عرفته قديما وهي اليوم بين أيدي ملايين المتمسكين بها في العالم العربي و الإسلامي ؟ وتجب الإشارة هنا أنه بعد إخراج اللغة العربية الفصيحة من الأندلس سنة 1609 في أبشع جريمة عرفها العالم في حق المسلمين ( الموريسكيين بالأخص )و التي يتناساها الغرب اليوم، سادت اللغة اللاتينية لمدة طويلة في الربوع الأوربية ،لكن هذه الأخيرة اندثرت و لم يبق منها سوى بعض الفضلات في بعض الكنائس، و ظلت اللغة العربية الفصيحة حية وزاد من حيويتها الزيادة الهائلة في عدد المتكلمين بها و في استفادتها من الوسائل الاتصالية الحديثة التي عملت على انتشارها على نطاق واسع يخيف خصومها…
وأما بالنسبة للغة الثانية التي ينص عليها الدستور المغربي فهي اللغة الأمازيغية. و لتعريفها،لا بد من الإشارة هنا إلى سجالات ساخنة كانت بعض الجرائد المغربية تعرضت لها في أواسط التسعينات، منها على سبيل المثال جريدة ” تامونت ” (مقال للأستاذ أحمد بوكس : (” تدريس الأمازيغية ” – مقال باللغة الفرنسية- جريدة تامونت ، العدد الثاني – 1994) ومقال للأستاذ عبد الكريم جبور (: ” تدريس الأمازيغية – مقال باللغة باللغة الفرنسية – جريدة ” تامونت “– العدد الرابع-1994)،
حيث كانت هناك آراء تتوزع بين من يدافع عن “اللغة الأمازيغية الواحدة و الموحدة”، أي ما يعرف الآن ب”الأمازيغية المعيارية ” التي وجب العمل على المزيد من تهيئتها ومعيرتها و تقعيدها باللجوء إلى الأمازيغيات المختلفة في مناطق شتى بالمغرب وخارج المغرب، لأنها حسب السيد أحمد بوكس في المقال أعلاه هي “لغة افتراضية ” ، “لا لا وجود لها “( سنة 1994 ) و بين من يستميت في الحفاظ على الأمازيغيات المختلفة في مناطقها الجغرافية ودسترها في هذه المناطق ( السوسية ، الأطلسية ، الريفية و أمازيغيات أخرى في منطقة الريف بالخصوص…)، و يمكننا أن نفهم أن اللغة الأمازيغية المدسترة( دستور 2011) هي تلك الأمازيغيات المتعددة المنتشرة بالأرض المغربية كما يمكننا أن نفهم أنها هي كذلك تلك اللغة الأمازيغية المعيارية القادمة علينا من المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي يعمل على تقعيدها و معيرتها وتطويرها لبرمجتها في المنظومة التعليمية المغربية بالحرف التفيناغي وباقي الميادين الاجتماعية الأخرى .
هذه هي الوضعية باختصار شديد لهذه اللغة التي ظلت في تاريخها الطويل لغة شفهية، لغة حية بتلويناتها المختلفة و التي لم يفكر أحد قبل سنة 2001 في جمع شتاتها ومعيرتها …لكن ،وهذا هو مربط الفرس في هذا الموضوع ، و الذي أود من السيد محمد بودهان الذي يقول عن العربية الفصيحة إنها نصف ميتة و نصف حية ، أن يوضح لي كيف يصف اللغة الأمازيغية المعيارية الصادرة عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وهي التي يحاول هذا المعهد ذي الصفة الاستشارية أن تعمم في التعليم المغربي بجميع أسلاكه وفي الحياة العامة كما أسلفت…هل هي لغة حية ؟ أم هي نصف حية و نصف ميتة أم هي لغة لا وجود لها بعد على أرض الواقع و تستعد للخروج إلى الوجود من مختبر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؟ وكيف للغة أن تخرج من مختبر أكاديمي أن تصبح اللغة الأم لمجموعة من المواطنين الذين عليهم أن يدرسوها لأنها غير غير مكتسبة كما هو حال اللغات الأم ؟ أضع هذه الأسئلة لأن هذه اللغة و أعني بها الأمازيغية المعيارية هي لغة لا تتداول في المجتمع المغربي الآن لا كتابة و لا شفاهيا و ليست اللغةالأم لأي أحد و الكتب التي طبعت بها تكاد تكون منعدمة بالمرة و هي لغة لا يتقنها حتى أولئك الذي يعملون على تقعيدها وهم أصلا لا يعرفونها في معظمهم…
ومادامت هكذا فلماذا يطعن الأستاذ بودهان في اللغة العربية الفصيحة التي نسمعها في الفضائيات العربية كل يوم كما أسلفت و التي تصدر بها الآلاف من الكتب و المئات من الجرائد اليومية التي يطلع عليها مئات الآلاف من القراء في البلاد العربية ، وهو ما لا تتوفر عليه الأمازيغية المعيارية الآن بحكم أن لا أحد يجيدها…هذه التساؤلات المشروعة كنت قد طرحتها في برنامج “مباشرة معكم” في أبريل 2011 و الذي نصح بالعودة إليه بعض المعلقين على مقالي الأخير الصادر بالهسبريس يوم 17 فبراير2011، هذا البرنامج الذي منعت فيه منعا واضحا بتوضيح أفكاري نظرا للحصار الذي كان مفروضا علي من طرف خمسة متدخلين من عشاق اللغة الأمازيغية ،و أنا هنا لاأستعمل في حقهم الكلمة العزيزة عند السيد بودهان و الذي يسخر فيها ظلما على محبي اللغة العربية الفصيحة… ماذا دسترنا لغويا في دستور 2011 وماذا سيطبق على أرض الواقع؟ ؟
أنتظر من الأستاذ بودهان جوابا مقنعا، لا هجوما معبرا عن عدم قناعة و عاطفة لن تفيد في هذا المقام .و إذا كان لا بد من التدريس باللغة الأم كما ينادي بذلك السيد بودهان ومعه الحق في ذلك ،يتحتم أن ندرس الأمازيغيات المختلفة و الدوارج العربية المغربية المختلفة ،لكن هذه اللغات ،إن كانت حية ، فهي ليست بلغات عالمة،وما الدوارج العربية المغربية إلا المستوى المتدني للغة العربية الفصيحة العالمة كما برهنت على ذلك الدراسات اللسانية المتخصصة في “الدكلوسيا “، الشيء الذي يستحيل معه دسترة الدوارج نظرا لوجود مستواها العالي ، و الأمر قد يكون هو كذلك بالنسبة للأمازيغيات المختلفة،مما يلزم اللجوء إلى دسترة اللغة الأمازيغية المعيارية مثلما هو الأمر بالنسبة للغة العربية الفصيحة ، وليس دسترة الأمازيغيات المختلفة التي هي اللغات الأم الحقيقية لفئة من المغاربة …
و إذا كان هناك تقارب بين الأمازيغيات المختلفة و اللغة الأمازيغية المعيارية ، فهذا التقارب واضح كذلك بين الدوارج العربية و اللغة العربية الفصيحة، إذ يمكن حتى للأمي الناطق بالدارجة المغربية كيفما كانت هذه الدارجة أن يفهم حديثا باللغة العربية الفصيحة،وهي التي ينبغي الحفاظ عليها كلغة دستورية لأنه في حالة تطوير حقيقي و جدي للدارجة المغربية وتمدرس من يتكلمها، ستصبح الدارجة هي العربية الفصيحة المبرمجة في التعليم . ولعلم من لا يعلم فإن فرنسا لها دارجتها، لكنها لا تدرسها ، بل تدرس اللغة الفرنسية العالمة (المستوى العالي للغة الفرنسية ) وتعتبرها هي اللغة الرسمية في البلاد، و هذا بالضبط ما سار عليه المغرب منذ الاستقلال باحتضانه للغة العربية الفصيحة وحدها لأنها هي اللغة العالمة التي كانت جاهزة في ذلك الوقت، في غياب اللغة الأمازيغية المعيارية التي لم تظهر إلى الوجود إلا عندما أسس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية و رفع الحيف عن الأمازيغيات المختلفة التي ظلت حية لأن العربية الفصيحة لم تمسها أبدا بأي أذى في وقت من الأوقات . ماذا دسترنا لغويا؟ يؤسفني أن أختم هذا المقال بالقول إن اللغة المدسترة حاليا عندنا هي اللغة الفرنسية. مسكينة هي اللغة العربية ومسكينة هي اللغة الأمازيغية … و للحديث التفصيلي في هذا الموضوع بقية …
المصدر: هسبريس
https://www.hespress.com/writers/256496.html