قراءة لـ (ق ق ج): بأي ذنب؟! للقاص إبراهيم شرف الفضيل/ اليمـــن

                                         [highlight] بأي ذنب؟!
طفلة بيد واحدة متبقية، تجري عملية جراحية ناجحة لشقيقتها الدّمية.[/highlight]

***

  بأي ذنب؟! نص قصصي قصير جداً  إبراهيم شرف الفضيل من اليمن في عشر كلمات فقط.ومن النّادر جداً أن تنجح نصوص مضغوطة، و ممعنة في الإيجاز. لأنّ القاص يصرف انتباهه إلى الحذف و التّكثيف… و قد يغفل أن يترك منفذاً للمعنى. فيكتب ولا يكتب إلا معميات و طلاسم، لا يُجدي معها فهم و لا تأويل…أمّا في هذا النّص فرغم إيجازه، و اختزاله اللّغوي، و كلماته المَعدودة… فقد توفّرت فيه إيجابيات القصّة القصيرة جداً من العنوان إلى الخرجة. بشكل فنّي أكثر اختزالا، و تلميحاً و إفادة…

العنوان: جاء بصيغة استفهام [ بأيّ ذنب؟! ]
مباشرة يشعر المتلقي بتناص، يحيله على الآية التّاسعة من سورة التّكوير: [و إذا الموءودة سئلت (8 ) بأي ذنب قتلت (9)] و قد يتجلّى  مدلول العنوان من خلال إعرابه لنتبين وظيفة ( أي) فيكون ذلك كالتّالي:(بِأَيِّ: (الباء): حرفُ جرٍّ مبني على الكسر، و(أَيِّ) :اسمُ استفهامٍ مبني على الكسر في محلّ جرّ بالباء، وهو مُضاف.(ذَنْبٍ): مُضافٌ إليه مجرور وعلامة جرّه تنوين الكسر.
إذاً، نحن بصد صيغة استفهام، لا تصل تمام الصّيغة القرآنية التّامة . و لكن تحتفظ على ما تبقى كي لا تكشف مُعطيات النّص، و عموماُ، بعد قراءته ستنكشف تتمة صيغة الاستفام بربط معطيات العنوان بحيثيات النّص.
أمّا الـ (ذّنبُ) لغوياً : الإِثْمُ والجُرْمُ والمعصية ، والجمعُ ذُنوبٌ ، وذُنُوباتٌ جمعُ الجمع.

النص:
” طفلة بيد واحدة متبقية، تجري عملية جراحية ناجحة لشقيقتها الدمية. “

من خلال قراءة أفقية تعتمد اللّفظ و المعنى المباشر، و بنية السّرد السّطحية (Surface structure ) : طفلة صغيرة، لا تملك إلا يداً واحدة، و مع ذلك تنجح في إصلاح دميتها المكسورة، أو المبتورة الأطراف.
و لكن من خلال القراءة العمودية، واسجلاء بنية النّص العميقة  (Deep structure)يقف المتلقي عند ألفاظ ذات إشارات سيميائية، و تلميحات رمزية بل و إيقونية. ما يُشعرنا أنّ النّص  برغم قصره المُفرط، فهو متضمن للدّلالة السّرية ( Signification secrète) :

1 ــ [ طفلة بيد واحدة متبقية ] جملة خبرية وصفية تلمح إلى أنّ الطفلة كانت كغيرها من الأطفال بيدين . و لكن لطارئ ما، فقدت يداً. و حين نعلم أنّ القاص من اليَمن، و أنّ هـذا البلد العربي يعيش حرباً أهلية مفروضة عليه ،تساهم في تأجيجها دول عربية أخرى في إطار ما يُسمى التّحالف العربي ضد طائفة يمنية تنتسب للحوتي . نفهم سبب فقدان الطّفلة ليدها . فهنا إشارة لبشاعة حرب قذرة على الشّعب اليمني. و التي من ضحاياها الأطفال، الذين لا دخل لهم في مجريات الأمور.وهذا أيضاً يُحيلنا على التّعبيرية السّردية التي من وظائفها المميزة : الشّعرية، و الحَدس الاسْتشرافي، و المَشهدية . فجملة واحدة ، تجعل المتلقي يستعيد مخبوءات الذّاكرة، و ينسجُ المشهد الدرامي، بصورته المأساوية الحزينة، و فقدان الطّفلة ليدها لانفجار لغم ، أوقذيفة، أو شظية متناثرة…

2 ــ [ تجري عملية جراحية ناجحة… ] جملة خبرية أخرى،تجسد الحدث، أساسها الدّهشة و الغرابة… ما يبث التّعجب و الحَيرة ، و يحفّز على التّساؤل …
كيف لطفلة بيد واحدة أن تجري عملية  جراحية؟! يبدو هذا من قبيل المُستحيل!
من جهة لأنّها مجرّد طفلة ، و من جهة أخرى فهي مُعاقة ، لا تملك إلا يداً واحدة… و لكن تأتي الخرجة من السّارد لِتحلّ الإشكال، و تبعد الحيرة، و تلغي التّساؤل :

3 ــ [ لشقيقتها الدّمية ] شبه الجملة هذه، تؤطر الخَرجة، فالعملية الجراحية إذن ، إنّما هي للدّمية. فيتضح المشهد برمّته : فالطّفلة تحاول إصلاح دميتها، فلربّما فقدت هي الأخرى يداً أو رجلا… و في ذلك إشارة أنّ الحرب المُتوحشة لم تسلم منها حتّى لعب الأطفال.و الدّمية هنا و سيلة أيقونية (Iconique) خاصّة ، تعيد المتلقي إلى عالم الطفلة التي نسيت ما حدث ليدها في يوم ما من أيّام الحرب الظّالمة ،و أصبح همّها كلّ همّها ،أن تصلح حال دميتها. و في ذلك تعْميق الإحساس بالطّفولة، و عفويتها، و تلقائيتها ، و ما تعانيه  طوال  مدة الحرب . فإن استطاعت الطّفلة إصلاح دميتها بنجاح (عملية جراحية) في زمنٍ هو زمن حرب، وقصف، و دمار، فليثبت السّارد بصورة من الصّور، مدى براءة الطّفلة،رمز الطفولة في اليمن، أنّ كلّ عِلمها، و مُناها، و مُبتغاها…أن تكون دميتها سليمة، تتودّد إليها، و تناجيها …و لا ننسى أنّ السّارد جعل من الدّمية شقيقة للطفلة، و في ذلك إشارة إيحائية أنّ الطّفلة لربّما تكون قد فقدت إخوتها جميعاً تحت الأنقاض، بفعل الحرب المدمّرة .فأسكنت أرواحهم  البريئة دميتها المعطوبة المكسورة، فأصبحت شقيقتها ،كنوع من التّعويض عن الذين رَحلوا و لن يعودوا.

النّص رغم قصره، اتّسم بالإيحاء الفنّي، و مرّر رسالة بشكلٍ غير مباشر تذمّ الحربَ و أسْبابها، و موقدي نارَها، و العاملين على استمرارها. و الجميل أنّ النّص انتهى ليبدأ من جديد في ذهن المُتلقي لما صاحبه من دالٍّ و مَدلولٍ صامت، على شكل إشاراتٍ و تلميحاتٍ، تنتهي إليها القرراءة الاسْتقرائية التّأويلية…

فهنيئاً للقاص إبراهيم شرف الفضيل  على هذه اللّقطة التي أماطت الغطاء عن جرح غائر، يعانيه يمننا العزيز، و بخاصّة، معاناة أطفالنا هناك من جراء حرب ظالمة.

تحياتي / مسلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.