لا شكّ أنّ الحرب في سورية، بأسبابها و نتائجها. فتحت جرجاً غائراً دماؤه لن تجفّ بسرعة، و مآسيه لن تنسى عبر الزَّمن. فالمسألة فاقت الاحْتمال، و تركت آثاراً نفسية، و عضوية، و مادية… ستبقى و لسنوات عدّة، تذكّر أنّ الحربَ المروّعة مرّت من هنا.
أمامنا نص قصصي قصير جداً تحت عنوان ” هاجس” للقاص محمد ياسين صبيح من مجموعته ” نافذة بلاجدار”
العنوان : ” هاجس” كأهمّ عتبة في النّص، يستوقفنا ملياً .
ــ فالهاجس لغة :الخاطر، الإحساس ، و كلّ ما يتصوّره الفكر،. و هو اسم فاعل من هجَسَ.. وعموماً كلّ ما يخطرُ من أفكارٍ أو صورٍ بخلِد الإنسان من جرّاء قلقٍ، أو حيرة، أو خوفٍ..
ــ و في علم النّفس نجد أنّ الهواجس إذا كثرت فذلك مردّه إلى (الوسواس القهري) و هو من الاضطرابات و الأمراض النّفسية التي تؤدّي إلى سلوكيات قهرية، و إذا تفاقم الأمرُ فذلك مؤشّر على اضطرابٍ في كمياء المُخ.
و الآن، وبعد كلّ هذه السنوات، من الضّياع، و التّشرّد، و اللّجوء القسري خارج الوطن، و الابتعاد عن الأهل و الممتلكات، و الشّعور بالكآبة و الضّيق، و عتمة الطّريق،و فقدان البوصلة… كيف لا يُصاب المرءُ بالاضطراب و الهواجس …؟
النّص الذي نحن بصدده، رغم بساطته، و قلّة كلماته ، يرسم صورة الإنسان السّوري الذي دعته ظروف الحربِ إلى اللّجوء. حتّى إذا ما عاد ذاتَ يوم فوجئ بأنّ كلّ شيء تغيّر أثناء غيابه القسري :لا أصدقاء ممن كان يعرفهم و يحبهم، و لا الغربان التي كانت ترتع هنا ،و لا المباني التي كانت زينة المدينة…و حده يملأ أرض غرفته، والمفتاح بيده، لباب لم يعد له أثر..
النّص :
[highlight]هاجس
يجتاحه القلق …جسده يملأ أرض غرفته الوحيدة.
توارى الأصدقاء و الغربان…
وحده المفتاح في يده.
لم يجد له بابا.[/highlight]
[يجتاحهُ القلق] يبدأ النّص بالصّفة الأساس ” القلق” ذاكَ الشّعورالنّفسيّ الذي ينتابُ الشّخص في النّص، و ينعكس على الجميع. فلا أحد يشعر بالاطمئنان، و لا أحد ينعم براحة البال و الاستقرار… الحرب عبثت بكلّ شيء، و دمّرت نفسيات عِدّة، و قطّعت أوصالا، و أرْحاماً، و ذهبت بأرواح عزيزة، و أتت على أحلام و آمال، و لم تخلّف إلاّ الحسرة و الدّموع، و كثيراً من القلقِ في اللّجوء أو أثناء الرّجوع.
[جسده يملأ أرض غرفته الوحيدة. ] ككلّ لاجئ يعود إلى بيته فيفاجأ بالدّمار و الخراب و نهب كلّ مُمتلكاته، و أحلامه، و ذكرياته…
وقف ، و بوقفته ملأ أرض الغرفة، لأنّ ليس فيها متّسع لقد ملئت بمخلفات القصف ، من حجارة، و ركام أشياءٍ مُختلطة ، يقول السّارد [ غرفته الوحيدة] و قد تكون فعلاً كلّ ما كان يملك، و قد تكون آخر ما بقي قائماً من بيته. و لنا أن نتصور عمق المأساة !
[ توارى الأصدقاء و الغربان…] و اختفاؤهم إما في حياة اللّجوء ، و مِحنة الاغتراب، و البُعد عن الدّيار و الأحْباب. و إمّا اختفاؤهم أبدي تحت التّراب. و الحَصيلة أنّه لم يجدْ من يواسيه، و يخفّف من قلقه و حسرته، حتّى الغربان، غادرت ، و طارت إلى أماكن أكثر أمناً و سلاماً حيث لا قذائف ، و لا أزيز طائرات، و لا لعلعة الرّصاص ، ولا دوي المدافع … كلّ ذلك عمّق الجُرح، و جعلَ للعيش كطعم المَوت و الفناء…
[وحده المفتاح في يده.] و سط السّواد و الضّياع، والقلق و الهواجس، بقي المفتاح في يده، حافظ عليه طوال سنوات اللّجوء، على أمل أن يعود ذات يوم، و يفتح الباب، و يستعيد ذكرياته، و يجدّد آماله من أجل مستقبل آخر… و لكن استفاق من أحلام اليقظة، ليرى واقعاً قد عصف بكلّ الأحلام. إنّه الواقع المرّ… واقع حربٍ ما كان يجب أن تقع. لو كانت الحكمة ، و بعد النظر.
[ لم يجد له باباً.] ماذا يُجدي مفتاح في اليد. إذا كانت الغرفة أو البيت كله ركاماً و دماراً؟
و أيّ هاجس هذا الذي يخامرلاجئاً عاد يحدوه الأمل، فيصطدم بحجارة متناثرة و بقايا غرفة أو بيت كان هنا؟ أيّ نفسية يمكن الحديث عنها، و قد فقد الإنسان كلّ ما يملك:ممتلكات و أحبة، و أصدقاء، و ذكريات …و يبقى وحيداً بين الأطلال؟ !
النص كما نلاحظ بدأ من نتائج الحرب المدمّرة. من عودة لاجئ / رمزاً لكلّ اللاجئين خلال عودتهم.لا ليعمق المأساة أكثر مما هي عَميقة. و لكن ليفتح سجلا (répertoire) أسود من حياة شعب، عاش آمنا مُطمئناً، إلى أن وجدَ نفسه في أتون حربٍ ضروس لا تبقي و لا تذر، أتت على الأخضر و اليابس…
النّص لم يُكتب للتّاريخ، فللتاريخ صفحاته الخاصّة، و لا للتّحقيق (concrétisation) فذاك مَجال أهله أدرى به ، وإنّما كُتب للتّذكير بخطر الحرب و نتائجها، وعواقبها المادية، و النّفسية التي قد لا تعوض .
فنيـــاً :
1 ــ النّص على ضآلة حجمه، و قصره، إذ لم يتعد ثمانية عشر كلمة ، و لكنّه بفنية و تقنية الصور المشهدية، استطاع أن يلملم المأساة السّورية في نتيجة واخزة جارحة. و ذلك بتوظيف التّعبيرات الإشارية (Déictiques) : [يجتاحه القلق] ، [توارى الأصدقاء و الغربان] ، [وحده المفتاح في يده.] ، [ لم يجد له بابا.] .
2 ــ لم يعين السّارد البطل باسم أو صفة جسدية فسيولوجية… ليكون بذلك رمزاً لكلّ لاجئ سوري. ترك متاعه فعاد ليجد الخراب .
3 ــ روح التّهندس في بناء النّص (Géométrisation) و يتجلى ذلك من خلال العنوان ، و الجملة الأولى في النّص ،و الخرجة . لنتأمل:
هاجس = [ يجتاحه القلق ] ←←[ لم يجد له باباً.]
و العكس صحيح :
[ لم يجد له باباً.] ←← [ يجتاحه القلق ] = هاجس
4 ــ توظيف نقط الحذف و قد استعملها السّارد أربع مرات، ليثبت أنّ كلاما كثيرا مسكوت عنه، و لكنّه ــ و لا شك ــ يُقرأ من بين السّطور القليلة. و هي تقنية تغري و تحفّز المتلقي على تتبع نسق السّرد بخيال و تخييل…لأنّ التّخييل الذّاتي، يتّسم دائماً بالحرية ، و عدم الرّضوخ للوعي، و إيثار التّداعي الحر، و التلقائية ، و إطلاق العنان للا شعور…
5 ــ النّص جاء بخرجة تبدو مُتشائمة، حصرية … و لكنّها على العكس من ذلك ، فإنّها تتضمن إيحاء بفعل شيء ما.إذ لا يُعقل أن يبقى الإنسانُ السّوري سجين هواجسه، مستسلماً لأوضاعه الرّاهنة…فسُنّة الحياة لا تدعو للتّوقف و الاسْتسلام للهواجس … بل لابدّ مما ليس منه بدّ، و لا بدّ للحياة أنْ تستمر، و ما دام الأمرُ كذلك فالخرجة هنا شحنة دفع للتّغيير والبحث عن البديل.فهي بذلك قد جعلت النّص مفتوحاً (Souptable) على كلّ الاختيارات المُمكنة. لبناء الغرفة/ البيت / سورية…
من خلال كلّ هذا نستشفّ أنّ القصّة القصيرة جداً. في إمكانها، كجنس سردي، أن تساهم في إضاءة أهمّ القضايا الإنسانية فنّياً ..فتبثّ الوَعي، و الأمل ،و تشحذ الهِمم من أجل التّغيير المحتمل…
فهنيئاً للقاص محمد ياسين صبيح ، بهذا النّص المُتقن الهادف، من مجموعته المتميزة : ” نافذة بلا جدار” .
تحياتي / مسلك