مدخل إلى أسس فن التأويل(*)
التفكيك وفن التأويل(**)
هانس-غيورغ غادامير
ترجمة وتقديم: محمد شوقي الزين
تقديم:
فارق زمني شاسع يفصل كتابة هذين النصين. “مدخل إلى أسس فن التأويل” هو محاضرة ألقاها هانس-غيورغ غادامير مع سلسلة محاضرات أخرى سنة 1958 بالمعهد العالي للفلسفة لجامعة لوفان (Louvain) لتنشر في كتاب عنوانه مشكل الوعي التاريخي، منشورات سوي (Seuil)، أفريل 1996. النص الثاني: “التفكيك وفن التأويل” نشره غادامير في مجلة Gesammette Werke سنة 1988 وترجمه جون غروندين (J.Grondin) لينشر في كتاب فلسفة فن التأويل (La philosophie herméneutique)، المنشورات الجامعية الفرنسية، يبراير 1996.
ثلاثة عقود كاملة تفصل النصين. لكن يبقى الطرح المعرفي والمنهجي في النص الأول (سنة 1958) متقاربا مع النص الثاني (سنة 1988). تبقى مشكلة “الفهم” (compréhension) و”الحوار” (dialogue) هي الأسلوب الراهن والفعلي الذي يجمع النصين خصوصا، والذي يميز كل فلسفة فن التأويل عموما. يعتبر هانس-غيورغ غادامير المنظر الغربي بلا منازع لقضايا فن التأويل ولتجارب الفهم والحوار واللغة الحية. رسالته الجامعية حول التجربة الجمالية عند أفلاطون وقراءاته النقدية لشلاير ماخر ودلتاي وعصر الأنوار، ولقاؤه الشخصي والمعرفي بهيدغر وحواره النقدي مع هابرماس ودريدا وفلاسفة التحليل، كلها عوامل سمحت له بأن يتميز عن غيره بتجربته التأويلية ممارسة وتنظيرا. ولعل المنعطف الهام التاريخي والمعرفي الذي سجله غادامير في تاريخ فن التأويل هو إصداره سنة 1960 لكتابه الشهير: الحقيقة والمنهج: الخطوط الكبرى لفن التأويل الفلسفي؛ يتناول فيه تفاعل المستويات الكبرى للتجربة التأويلية والمتمثلة في “اللغة” وعلاقتها بفاعلية الحوار ضمن نسيج لغوي حي، و”التاريخ” كبعد أساسي من أبعاد “الوعي التاريخي”، و”الجمال” كلحظة تأويلية وتجربة أنطولوجية تتجلى فيها فاعلية “الفهم” وفهم “القصد المباشر” للمؤلف في علاقة حوارية خلاقة. يتجاوز غادامير بذلك التصور الكلاسيكي لفن التأويل الذي وضعه كل من شلايرماخر ودلتاي والذي يركز على صرامة “المنهج” (الآليات اللغوية والمنطقية في قراءة النصوص) في تقييم مقاصد المؤلف، بمعنى التركيز على البعد النفسي البحت في القراءة. وعليه يصبح التأويل عند شلايرماخر مجرد تأويل لغوي يدعمه التأويل النفسي بإعادة تأسيس المقاصد الأولية للشخص-المؤلف، والسعي لإعادة إنتاج المعنى الأصلي الذي يتوارى خلف النص. أقول يتجاوز غادامير صرامة المنهج والهندسة الخطابية الوصفية التي تبناها شلايرماخر ليعتبر أن هناك دوما “حقيقة ممكنة” نستخلصها من فاعلية قراءتنا للنص. فهنا ترتبط علاقة وثيقة بين المؤول والنص يصطلح عليها غادامير اسم “الحوار” (Le dialogue)، وهو امتداد لفكرة هيدغرية تجعل من “الكائن-في-العالم” أو “الكائن-هنا” (Dasein) عنصرا حيويا وفعالا في علاقته الحوارية مع مفهوم “الكائن-مع-الآخر” (Mitsein). فيؤدي هنا الفهم وظيفة “المشاركة” (participation). خلافا لشلايرماخر، لا يعني الفهم (compréhension) إحياء دلالة أصلية كانت لحد الآن مطموسة، وإنما هو “سماع شاعري” (écoute poétique) لأثر فني وماذا بإمكانه قوله في اللحظة الراهنة.
نصل إلى سؤال رئيسي يتعلق بدلالة “فن التأويل” (herméneutuque) الذي يحتمل كل هذه الأوجه المعرفية والمنهجية والأنطولوجية (= الفهم، المشاركة، الحوار). أشير إلى أنني ترجمت كلمة “herméneutique” بـ”فن التأويل” تمييزا لها عن “التأويل” بمعنى “interprétation”، وخصوصا أن كلمة “herméneutique” مشتقة من الكلمة الإغريقية herméneutikè المتضمنة على كلمة (technè) التي تحيل إلى “الفن” أو الاستعمال التقني لآليات ووسائل لغوية وغيرها قصد الكشف عن حقيقة شيء ما. وعليه تعني herméneutique “فن تأويل وتفسير وترجمة النصوص” وخاصة النصوص المقدسة والكتابات اللاهوتية كما كان ذلك شائعا في علم اللاهوت المسيحي: وعليه يبين “أغسطين” Augustin في “Doctrina Christiana” أن الفكر ينتقل من الدلالة الحرفية والأخلاقية إلى المعنى الروحي. سواء في فن التأويل اللاهوتي أو فن التأويل الإنساني للعصور الحديثة، يتعلق الأمر بتأويل “صحيح” للنصوص واستخلاص معنى تنطوي عليه. يسعى إذن فن التأويل إلى الرجوع إلى المصادر الأصلية والبدايات الأولى (نفس الدلالة يمنحها “لسان العرب” لابن منظور: “التأويل المرجع والمصير مأخوذ من آل يؤول إلى كذا أي صار إليه”، ينظر مصدر أ.و.ل، الجزء الحادي عشر، ص.32، دار صادر-بيروت) قصد الحصول على فهم جديد ومتجدد لمعنى اخترقته وأنخرته جملة الممارسات والأهواء والرغبات والمخادعات والمغالطات. يتمتع فن التأويل بقوة تطهيرية (force purificatrice) تجعله يحقق ويجدد المعنى في اللحظة الراهنة بأساليب أكثر حيوية وخلاقة بعدما تآكل وتفكك واتخذ كرهان ولعبة لفرض الذات وتمويه الحقائق عبر تاريخه المتبعثر والمتشظي.
يحلل ويناقش غادامير في النص الأول “مدخل إلى أسس فن التأويل” المدارس والتوجهات التاريخانية والرومانتكية التي تطرقت إلى مسألة فن التأويل وإشكالية الفهم من زاوية موضوعانية (objectiviste) وذاتوية (subjectiviste) بحتة. فلا إقصاء الذات الكائنة وراء النص ولا الحلول محلها لرصد مقاصدها وأهدافها هو الذي يفيد قضايا فن التأويل. فعلاقة المؤول بالنص هي علاقة فهم وإدراك المعنى اللذين يمهدان لاكتشاف حقيقة ممكنة ضمنية يختزنها النص؛ هو إدراك القيم الدلالية والمعرفية والجمالية التي ينطوي عليها النص؛ باختصار هو “فهم” النص بكل ما تحمله هذه العبارة من دلالات. في تطرقه لبنية الفهم ونشاطه الدوري (ومنه ما يمكن تسميته بـ”حلقة فن التأويل” Le cercle herméneutique)، يستفيد غادامير من هيدغر في مسألة الرجوع إلى “الشيء نفسه”، كانطلاق فعلي وحقيقي لتهيئة مشروع قراءة كلي يندرج فيه عامل فهم الشيء: نشاط الفهم هو إعداد مشاريع في القراءة تنسجم مع موضوع الفهم، حتى وإن كانت هناك افتراضات ذهنية (anticipations) تتطلع إلى إدراك موضوع الفهم قبل تحقيقه كمشروع قراءة راهن يصحح الافتراضات المسبقة، العشوائية والاعتباطية، حضور الشيء (و”الشيء نفسه”) هو الذي يحدد نشاط الفهم كمشروع حاضر وراهن، ويحدد مشروعيته كفهم حيوي وخلاق. يؤطر هذا الفهم بفاعلية الموقف (attitude) والذي يجعل منه فهما كمشاركة (participation)، والمشاركة هي تداخل نسيج الافتراضات الخاصة بأقوال الآخر وافتراضاتي الخاصة، هو تشابك نسيج هذه الافتراضات لاستخلاص دلالات مختلفة، يسلم ببعضها ويرفض بعضها الآخر الذي لا يعتبر وجيها. تحيل هذه المشاركة بين افتراضاتنا الخاصة وافتراضات الآخر إلى علاقة “الانتماء” التي تربطنا بالتراث “tradition”. وعليه يبين غادامير أن فن التأويل يفترض أن الفهم هو العلاقة التي تربطنا “بالشيء نفسه” الذي يظهر ويتطور في عنصر التراث (ألم يقل “ميشال فوكو” أيضا إن علاقتنا بالأشياء معرفيا وتأثيرنا على الأشياء سلطويا وتأثرنا بذواتنا عبر الأشياء جماليا وأخلاقيا تتحدد عبر هذا “النحن” Le “Nous” الذي ننتمي إليه جميعا والذي يحدد نمط علاقتنا بلحظتنا الراهنة). فهناك دوما افتراضات وتصورات ننسجها حول “الشيء نفسه” كما هو معطى لنا في الحاضر أمامنا وبين “الشيء نفسه” الذي يقدمه لنا التراث كمشكل تاريخي يستدعي بلورة التساؤل التأويلي. يطرح هنا فن التأويل نفسه كـ”وسيط” (médiateur) ليوفق بين التصورات المشكلة حول جوهر الشيء والتصور التاريخي الذي يقدمه التراث. يتنازع المؤول شبه توتر بين انتمائه إلى تراث معين وبين قراءاته التأويلية والموضوعية لما يطرح أمامه من مواضيع ومسائل للمعالجة. بتعبير آخر، يتردد المؤول بين تواجده وتموقعه ضمن سياق خاص يعبر عن خصوصيته في الرؤية والمعالجة وبين مواضيع تنتمي إلى سياق آخر (إشكالية العلاقة بين الحاضر والماضي). وعليه يطرح غادامير فكرة “المسافة الزمنية” ليس كفراغ يفصل المؤول عن موضوعه وينبغي تجاوزه أو ملؤه وإنما كإمكانية فعالة ومنتجة للفهم، كاتصال وتواصل حي بين عناصر متجمعة ومتراكمة تتحول إلى تراث وينظر إليها بمنظار مختلف ومن منظور آخر (حول فكرة “المسافة الزمنية” عند غادامير، لنفكر في مفهوم “الانفصال” “discontinuité” كما بينه ميشال فوكو في “حفريات المعرفة” والذي اعتبره التصور التقليدي للتاريخ كفجوة تدل على تشتت الأحداث الزمنية وينبغي للمؤرخ عزلها في قراءته للتاريخ وفي تصنيفه لموضوعاته التاريخية). تحاول المسافة الزمنية كإطار حيوي خلاق للفهم وكمساحة حدث تجمع المؤول بموضوعه أن ترتقي إلى درجة العالمية (L’université). وعالمية فن التأويل تتجلى في صيغ الحوار عندما يباشر المؤول -معرفيا وأنطولوجيا- علاقته مع النص كآخر يتضمن حقيقة تنكشف بالقراءة. ولا ينفك أي مؤول عن أحكام مسبقة (préjugés) ينسجها حول تصوره الخاص عن الموضوع، لكن هذه الأحكام هي في نظر غادامير أحكام إيجابية تدعم وتنشط فاعلية الفهم والحوار. تختفي هذه الأحكام أو بالأحرى تنتهي وظيفتها في أول لقاء بين المؤول -كقارئ- وبين موضوعه. هنا تطرح إمكانية جديدة للتساؤل ولرصد حقائق النص أو الموضوع المقروء. لكن الأحكام والاقتناعات التي تظهر من لقاء المؤول مع الموضوع لا تقصي سابقاتها وإن حاولت عزلها أو الحلول محلها. بل يحدث تعايش معرفي بين الحكم المسبق السابق وبين الحكم الجديد ويدخلان في علاقة جدلية تنبثق عنها إمكانيات جديدة من التساؤل والطرح. يبقى الهدف الأول والأخير للفهم التأويلي كما يرى غادامير هو الارتباط بـ”الشيء نفسه” واستخلاص حقائقه كما هي معطاة وكما يكشفها هو عن نفسه وبنفسه.
هل التعامل مع “الشيء نفسه” هو من قبيل الانتماء إلى “ميتافيزيقا الحضور”؟ من خلال هذا التساؤل، يدافع غادامير عن طروحاته ومناهجه واقتناعاته التأويلية التي تتعرض من حين لآخر لمعاول التفكيك الدريدي. يتصدى غادامير لمهاجمات دريدا عندما يرى في حيوية الفهم وفاعلية الحوار نتاج التعامل مع “الشيء نفسه” (La chose même) وليس الإقرار بحقيقة “الشيء في نفسه” (La chose en soi). ومعلوم أن منهجية التفكيك كما يمارسها “دريدا” (J.Derrida) تسعى إلى تعرية النصوص المترسية عبر تاريخ الكتابة وفحص الميكانزمات التي يقوم عليها الخطاب الفلسفي كخطاب ميتافيزيقي يهدر وينخر جسد اللفظ لينتصر لروح الدلالة، ويضمن تواصل الحقيقة المتوارية والسعي عن كشفها ضمن مقولات لاهوتية وقيم أخلاقية متعالية. يضع غادامير نفسه على محك التفكيك الدريدي ليرى هل هناك فعلا تغني بأصول ميتافيزيقية وبناء للعقل المركزي. ينفي غادامير عنه نفسه مثل هذه المزاعم ما دامت تجربته التأويلية هي نشاط الفهم في طيات لغة حية ومتحركة وفاعلية الحوار بين قارئ ومقروء ينتميان إلى نفس اللحظة التأويلية كتجربة معيشة فعلا. فأية ميتافيزيقا في الحضور ترزح تحت هذه الممارسات التأويلية؟ وإذا كان غادامير يتحدث عن الفهم كتجربة ونشاط، فهو، كما يقول عن نفسه، لا يقصد الفهم بالمعنى السيكولوجي للكلمة والذي ناضل من أجله شلايرماخر، والذي يهدف إلى تطابق فعلي بين الفهم الناتج عن القراءة وما أراد قوله المؤلف ضمن قصدية متوحدة. يتحدث غادامير عن الفهم كانصهار آفاق دلالية وسيلان معاني مبعثرة عن النص-المنبع. فليس هناك أي تطابق بين قصد المؤول وقصد المؤلف وإنما مجرد ممارسة نشاط الفهم كحوار خلاق بين المؤول والمؤلف، تبنى على أساسه جملة الحقائق التي يعبر بها النص عن نفسه. وكما يقول غادامير في نصه “في حلقة الفهم” (1959): “يتجلى نشاط فن التأويل في إيضاح الفهم ليس كتواصل سري وعجيب بين النفوس، وإنما كمشاركة في بلورة معنى مشترك”.
أولا – مدخل إلى أسس فن التأويل(*)
1 – الذاتي/الموضوعي والكلي/الجزئي في نشاط التأويل:
لنرجع إلى موضوع هذه الدروس. إذا ربطناه بالطريقة الأرسطية لمعالجة مشكل الظاهرة و”المعرفة” الأخلاقيتين، فبات من الواضح أننا نتصرف بنموذج هام يقودنا إلى توضيح نشاط فن التأويل. ففي فن التأويل -ليس فقط عند أرسطو- لا يعني التطبيق (L’application) عملية إضافية تضاف بعد انقضاء الأمر إلى الفهم (compréhension): فالهدف الذي من أجله نطبق شيئا ما يحدد منذ البداية وفي شموليته، المحتوى الفعلي والملموس للفهم التأويلي (La compréhension herméneutique). لا يعني “التطبيق” ضبط شيء ما عموما كمعطى قبلي من أجل تخليص خيوط وصفية خاصة. لا يحاول المؤول، وبحضور نص ما، تطبيق معيار عام لحالة خاصة؛ وإنما ينصب اهتمامه على الكشف عن دلالة أصلية تماما متوارية في المكتوب المراد معالجته.
لتوضيح معنى فن التأويل التاريخي، انطلقنا من الإخفاق الذي منيت به النزعة التاريخية أو التاريخانية (historicisme) مثلما شاهدناه عند دلتاي (Dilthey) ونبهنا بعد ذلك على الأبعاد الأنطولوجية الجديدة لهسرل (Husserl) وهيدغر (Heidegger). لا يمكن للمعرفة التاريخية أن توصف بنموذج المعرفة الموضوعانية (connaissance objectiviste)، لأنها في حد ذاتها تطور، يتمتع بكل خاصيات الحدث التاريخي. ينبغي أن يدرك الفهم على أساس أنه فعل الوجود (acte de l’existence) بمعنى أنه “مشروع ملقى” (Pro-jet jeté). فالموضوعانية (objectivisme) عبارة عن وهم. كمؤرخين، بمعنى كممثلي علم حديث ومنهجي، فإننا أعضاء سلسلة متواصلة بفضلها يتوجه إلينا الماضي. لقد رأينا من قبل أن الوعي الأخلاقي هو في نفس الوقت معرفة أخلاقية ووجود أخلاقي. فإدماج العلم هذا إلى جوهر الأخلاقية (moralité) وعلاقة “الانتماء” -في التربية والثقافة (بالمعنى الاشتقاقي)- بين الوعي الأخلاقي والمعرفة الواقعية للواجبات والغايات، هو الذي نستعين به كنموذج لتحليل المضامين الأنطولوجية للوعي التاريخي، مثلما هو الحال مع أرسطو -مع اختلاف الدرجة- سوف نرى أن المعرفة التاريخية هي في نفس اللحظة “معرفة” تاريخية و”وجود” تاريخي.
يتعلق الأمر الآن بتحديد بنية الفهم واقعيا التي يتأسس عليها فن التأويل في الانتماء إلى التراث كما رأينا سابقا. تتدخل في هذه اللحظة قاعدة تأويلية تراثية لانقاذنا. فقد تشكلت لأول مرة مع فن التأويل الرومانتيكي، ولكن يرجع مصدرها إلى الخطابة القديمة. يتعلق الأمر بالعلاقة الدورية بين الكل وأجزائه: الدلالة المفترضة بفضل الكلي المستوعب من طرف أجزائه، ولكن على ضوء الكلي تتخذ الأجزاء وظيفتها التوضيحية.
دراسة نص بلغة أجنبية تساعدنا كمثال. قبل أن نفهم شيئا من جملة ما عموما، فإننا نعمل وفق بنينة (structuration) قبلية تؤسس بذلك القاعدة الرئيسية للفهم البعدي. هذا التطور محكوم بمعنى شامل نستهدفه، ومبرر بعلاقات يمنحنا إياها سياق قبلي، لكن، طبعا، هذا المعنى الشامل والمسبق ينتظر أن يؤكد أو يصحح ليتمكن من تشكيل وحدة القصد المنسجم. لنفكر جليا وبطريقة حيوية في هذه البنية: نكتشف فورا أن الفهم يوسع ويجدد، بفعل حلقات متمركزة، الوحدة الحقيقية للدلالة الشاملة والنهائية باعتبارها معيار [الـ] فهم. عندما ينقص الانسجام فإننا نتكلم عن إخفاق الفهم.
لقد فحص شلايرماخر (Schleirmacher) من قبل حلقة التأويل للكلي وأجزائه وخاصة في أبعادها الموضوعية والذاتية. من جهة، كل نص ينتمي إلى جملة آثار المؤلف وإلى الأدب أين ينشأ. من جهة أخرى، إذا أردنا إدراك النص في مصداقية دلالته الأصلية، فينبغي رؤيته كتجلي لحظة إبداعية وإعادة توظيفه داخل شمولية السياق الروحي للمؤلف. فالفهم ينشأ انطلاقا من الكلي المشكل ليس فقط من العوامل الموضوعية وإنما أيضا من ذاتية المؤلف. امتدادا لنظرية شلايرماخر، فإننا نلتقي بدلتاي الذي يتحدث عن “الاتجاه نحو المركز” (“Orientation vers le centre”) لوصف فهم الكلي. هكذا يطبق دلتاي على جملة المشكلات التاريخية المبدأ التراثي لفن التأويل: كل نص ينبغي له أن يكون مفهوما (compréhensible) في حد ذاته. بالمقابل، يبقى المشكل في ما إذا كانت فكرة حلقة التأويل تتأسس على وصف صحيح.
لكن، من جهة، كل ما قاله لنا شلايرماخر والنزعة الرومانتيكية من عوامل ذاتية للفهم لا يقنعنا بتاتا. عندما نفهم نصا معينا، فإننا لا نحل محل الآخر ولا يتعلق الأمر باختراق النشاط الروحي للمؤلف؛ فليست المسألة سوى إدراك المعنى أو الدلالة أو القصد من كل ما تداول إلينا. بتعبير آخر، تتعلق المسألة بإدراك القيمة الضمنية للبراهين المقدمة والكاملة نسبيا. نجد أنفسنا ضمن دائرة القصد، المفهوم في حد ذاته وبدون أن يبرر الرؤية المحمولة على ذاتية الشريك (partenaire). دلالة البحث التأويلي هي الكشف عن معجزة الفهم وليس الكشف عن التواصل العجيب بين الأرواح. الفهم هو المشاركة في القصد الجمعي.
من جهة أخرى، تتطلب الوجهة الموضوعية لحلقة التأويل أن توصف بنمط آخر غير الوصف الذي قدمه شلايرماخر؛ لأنه، ما نحن عليه من اشتراك مع التراث الذي ننتمي إليه هو الذي يحدد أفكارنا المتخلية ويقود فهمنا. وعليه، فإن هذه “الحلقة” ليست أبدا من طبيعة صورية بحتة: فهي ليست كذلك، لا من وجهة نظر ذاتية ولا من وجهة نظر موضوعية. يقع دورها بالعكس داخل هذا الحقل الممتد بين النص وبين من يفهمه. يقدم قصد المؤول نفسه كوسيط بين النص وبين الكلي الذي يضمره هذا الأخير. إذن، يهدف فن التأويل إلى إرجاع وإحلال الاتفاق وتسديد النقائص. كل هذا قد أكده تاريخ فن التأويل، وخاصة عندما نتعلق بهذه المرجعيات الهامة: القديس أغسطين يتحدث عن العهد القديم الذي ينبغي أن ينظر عبر الحقائق المسيحية؛ البروتستانتية تعيد النشاط نفسه في عهد الإصلاح؛ في عصر الأنوار (Les lumières)، اقتنعنا بالمعنى “المعقول” (raisonnable) للنص الذي بموجبه يتراءى هذا النص لأول وهلة للفهم، وغياب هذا المعنى المعقول يجبر استدعاء تأويل تاريخي. هناك مسألة مثيرة للدهشة: في الوقت الذي جنت فيه النزعة الرومانتيكية وشلايرماخر دعاة الوعي التاريخي، نفس النزعة وشلايرماخر نفسه لم يفكرا في منح التراث -اللذان يستخلصان منه- قيمة التأسيس الحقيقي.
من بين الأسلاف المباشرين لشلايرماخر، هناك دائما العالم اللغوي فريدريك آست (F.Ast) الذي كانت له رؤى دقيقة حول نشاط فن التأويل. فحسب نظره، فن التأويل له دور الوسيط: إبرام اتفاق بين التراثات الحقيقية للعصور القديمة (L’Antiquité) وبين المسيحية. ينشئ هذا المنظور وضعية جديدة إزاء عصر الأنوار (Aufklärung) بالمعنى الذي لا يتعلق فيه الأمر بالتوفيق بين سلطة التراث وبين العقل الطبيعي، ولكن بالربط بين تراثين مختلفين. يواصل مع ذلك “آست” في السعي لإيجاد اتفاق ضمني وملموس بين العصر القديم وبين المسيحية والمحافظة على النشاط الواقعي لتأويل غير صوري؛ نشاط أهمله عصر شلايرماخر ومن لحقه؟ إذا كان الفيلولوجي آست قد تجنب مثل هذا النسيان، فذلك بفضل القوة الروحية للفلسفات الذاتية وخصوصا بفضل شلنج (Schelling) الذي استلهم منه آراءه.
2 – هيدغر ومشروع النشاط الدؤوب للفهم:
بفضل التحليل الوجودي الهيدغري، نكتشف الآن من جديد معنى البنية الدورية للفهم.
فهذا ما نقرؤه عند هيدغر: “لا يمكننا التقليل من قيمة هذه الحلقة إذا اعتبرناها حلقة مفرغة، فعلينا التسليم بهذا العيب. تنطوي هذه الحلقة على إمكان صحيح للمعرفة الأكثر أصالة والتي لا ندركها بصواب إلا بإقرارنا أن كل إيضاح (أو تأويل) يتعلق نشاطه الأولي، المستمر والنهائي في أن لا يفرض تخيلاته وحدوسه ومفاهيمه الشعبية على خبراته ورؤاه المسبقة، ولكن تأمين مبحثه العلمي بتطوير أفكاره وتخيلاته حسب “الأشياء نفسها” (Sein und Zeit, 1927, p.153).
لا تعلن هذه السطور -كما هي مقدمة- فقط المقتضيات التي تفرض ذاتها على ممارسة الفهم. فهي تصف الطريقة التي يتبعها التأويل (L’interprétation) الذي يستهدف فهما ما، بحيث يكون المقياس هو “الشيء نفسه” (La chose même). إنها للمرة الأولى التي نؤكد فيها علنا المعنى الإيجابي أنطولوجيا للحلقة التي يقتضيها الفهم. ينبغي لكل تأويل حقيقي أن يحترز من اعتباطية الأفكار التوهيمية (des idées baroques) التي تلوح في الخاطر من الحدود المنحدرة من بعض العادات اللاواعية للتفكير. فبات من الواضح أنه لكي نكون صادقين لا بد أن تكون رؤية الاستقصاء موجهة نحو “الشيء نفسه”، بحيث يدرك “شخصيا” (en personne) إن صح التعبير. ومن الواضح أيضا أن الفهم الوفي لدلالة النص مثلا ليست مسألة أمنية بسيطة ومبهمة، أو قضية “نوايا حسنة وبريئة”، ولكن يؤسس المعنى نفسه للمشكل الذي عينه هيدغر باسم “النشاط الأولي، المستمر والنهائي” للفهم التأويلي. ولكن، الطابع الدوري أو الحلقي للفهم هو بالضبط نتيجة جهد يبذله ويدعمه المؤول للاكتفاء بصرامة هذا البرنامج، رغم الأخطاء التي بالإمكان ارتكابها أثناء ابحاثه واستقصاءاته. لنفكر ثانية في تأويل النص. بمجرد ما يكتشف بعض العناصر المفهومة، يضع المؤول الصيغة الأولية لمشروع دلالة النص كله. لا تتجلى العناصر المفهومة الأولية إلا بشرط أن نقرأ باهتمام جريء. فهم “الشيء” الذي ينبع هنا، أمامي، ليس شيئا آخر سوى تحضير مشروع أولي يصحح لاحقا كلما تقدمت القراءة. فهو وصف كاختصار على اعتبار أن التطور هو أكثر تعقيدا: أولا، بدون مراجعة المشروع الأول، فليس هناك أي مسعى لتأسيس القواعد لدلالة جديدة؛ ثانيا وفي نفس الوقت، تطمح المشاريع غير المتناسقة لتشكيل وحدة الدلالة حتى يرتسم التأويل “الأولي” ليعوض المفاهيم المفترضة بمفاهيم أكثر تطابقا. فالتردد الدائم هذا للمقاصد التأويلية هو الذي يصفه لنا هيدغر، بمعنى الفهم كتطور لتشكيل مشروع جديد. فكل من يتصرف بهذا المنحى، يحتمل دائما أن يقع تحت تأثير فوضوياته الخاصة. فهو يجازف بنفسه على اعتبار أن المفترض الذي أعده لا يتوافق مع الحالة التي يوجد عليها الشيء في نفسه. فالنشاط الثابت للفهم يتجلى في إعداد مشاريع حقيقية وتنسجم مع موضوع الفهم. بتعبير آخر، يتعلق الأمر هنا بجرأة تنتظر أن تكافأ من طرف تأييد يأتي من الموضوع. فما يمكن نعته هنا بالموضوعية لا يمكنه أن يكون سوى تأييد المفترض لحظة إعداده. لأنه كيف يمكننا أن نتحقق من أن المفترض اعتباطي ولا ينسجم مع النشاط، إذا لم يكن بالإمكان وضعه بحضور الشيء، الذي وحده يمكنه أن يحدد عدم جدواه؟ كل تأويل لنص لا بد أن ينطلق من تفكير المؤول حول الأفكار المتصورة مسبقا الناشئة عن “الوضعية التأويلية” التي يتواجد فيها. فعليه أن يضفي عليها نوعا من المشروعية، بمعنى أن يبحث عن أصلها وقيمتها.
نفهم من خلال هذه الشروط لماذا لا يختص نشاط التأويل فقط بملازمة المنهج كما وصفه هيدغر. فما يقتضيه ليس شيئا آخر سوى تأصيل (radicalisation) الفهم كما يمارسه كل من يفهم.
لكي أعطي مثالا حول المنهج الذي تطرقت إليه الآن، لنفكر في الأسئلة التي يطرحها تحليل نص قديم أو التي تطلبه منا الترجمة. نلاحظ بسهولة أن المشروع لا بد أن يبتدئ بجهد نقوم به لإدراك الطريقة الشخصية التي من خلالها يستعين المؤلف بالكلمات وبالدلالات في نصه: نحقق بدون عناء كيف أنه من الاعتباطي إرادة فهم النص تبعا للمصطلح وللمتاع المفاهيمي الخاصين بنا. فمن البديهي أن فهمنا لا بد أن تقوده الاستعمالات اللغوية نفسها للعصر أو تلك التي استعملها المؤلف. ينبغي مع ذلك التساؤل كيف أن هذا النشاط يمكنه أن يتحقق فعليا وخصوصا إذا تعلق الأمر بعلم المعاني (sémantique): كيف نميز بين لغة غير مألوفة عموما وبين لغة غير مألوفة خاصة بالنص؟ لا يمكننا الإجابة سوى بتوضيح أننا نتلقى أساسا تدريبنا الأولي من النص نفسه: أن لا نفهم من النص شيئا أو أن الإجابة التي يقدمها لنا تتعارض مع افتراضاتنا وتوقعاتنا، فإن تجربة الفشل هي التي تكشف عن إمكانية استعمال لغوي غير معهود.
فما يخص المقاصد الضمنية للاستعمال اللغوي والنزعات الدلالية التي تحتملها الكلمات هو أيضا صحيح بالنسبة لتوقعاتنا التي تنتسب إلى مضمون النص، توقعات أو افتراضات تحدد إيجابيا ما قبل الفهم (précompréhension) الذي نمتلكه. فالمسألة أكثر تعقيدا مما رأيناه سابقا.
فمن الجائز عموما أنه لما نتكلم عن اللغة السائدة، فإننا نستعمل الكلمات في دلالاتها العادية. على أننا نرضى بكل هذا، فإننا لا نفترض أن الفكر أو “أقوال الآخر” (Les dires d’autrui) التي أدركت على هذا النحو، تكون من ذاتها، بحكم أنها أدركت، وعضويا أدمجت في نسقي الخاص من الآراء والافتراضات. أن “أدرك” شيئا قيل لي، ليس هو “إقراره”. فمن التقدير أنه لكي نبتدئ ينبغي أن أعرف “أقوال الآخرين” بدون أن يلزم هذا اعتقاداتي الخاصة.
ينبغي لهذا التمييز أن يدعم. رغم ذلك، نضيف أنه لا يمكن أن نتصور عمليا أنه عندما أتعرف على “أقوال الآخر”، لا أحس تلقائيا بأنني مدعو لاتخاذ موقف؛ ويتعلق الأمر عادة باتخاذ موقف ملائم. نرى باي معنى يمكننا القول إن القصد التأويلي يقتضي دوما الانزلاق نحو تساؤل من نمط آخر: ما هو المعنى “المقبول” لاعتقاد (opinion) متلفظ به والمعنى “المندمج” لدلالة ما؟ فقط في وضعية ملموسة لا يمكن الفصل بين هاتين اللحظتين، فهو أمر بديهي؛ اللحظة “اللاحقة” والتي هي أكثر من “إدراك” بسيط وخالص، تحدد من الآن فصاعدا المعنى الملموس “للإدراك” نفسه، وهنا بالذات يرتبط مشكل فن التأويل.
فما هي إذن استلزامات هذا الوصف؟ فلا تقوّلوني ما لم أقله؛ وإني لم أقل إنه عندما نسمع لشخص أو نقوم بقراءة ما أننا نتناسى اعتقاداته الخاصة أو أنه لا يمكن تشكيل فكرة تتأسس حول مضمون التواصل (communication). الانفتاح على “أقوال الآخر” أو على النص يقتضي في الحقيقة أن يتموقعا ضمن نسق اعتقاداتي الخاصة، أو أن أتموقع مقارنة معها. بتعبير آخر، من الراجع -والكل يسلم بذلك- أن “أقوال الآخر” يمكن أن تتضمن عددا لا نهائيا من المعاني المختلفة (مقارنة مع التطابقات الكاملة نسبيا التي تقدمها ألفاظ القاموس)؛ بالمقابل، عندما نسمع لشخص ما أو نقرأ نصا انطلاقا من الوضعية التي نتواجد عليها، فإننا نجري تمييزا بين مختلف الدلالات الممكنة: تلك التي نعتبرها، نحن، ممكنة ونرفض الباقي الذي يبدو لنا “سخيفا”. هو ما يجعل أننا نعطي القول لنزوعها الطبيعي للتضحية -رغم الافتراضات القوية لصالح مادية “الحرف”- عندما نصف “بالاستحالة” (impossibilité) كل ما نخفق فيه عندما نحاول إدماجه لنظام افتراضاتنا.
لكن، القصد الحقيقي للفهم هو هذا الأمر: عندما نقرأ نصا، فإننا نريد فهمه؛ الأمر الذي ننتظره دوما هو أنه يعلمنا شيئا ما. الوعي المشكل من الموقف التأويلي الحقيقي يتأثر بالأصول والخاصيات الأجنبية عن الأمر الذي يأتي من الخارج. مع ذلك، هذا التأثر أو هذه الحساسية (réceptivité) لا يمكن اكتسابها بـ”حياد” موضوعاتي (neutralité objectiviste): فليس من الممكن ولا الضروري ولا المبتغى أن نضع أنفسنا بين قوسين. فالموقف التأويلي لا يفترض سوى الوعي الذي بتمييزه لاعتقاداتنا وأحكامنا المسبقة، فإنه يصفها كما هي وينزع عنها طابعها المتطرف. وبتحقيق هذا الموقف، نمنح للنص إمكانية ظهوره مختلفا والكشف عن حقيقته الخالصة ضد الأفكار التي نتصورها مسبقا ونواجهه بها.
الأوصاف الفينومينولوجية لهيدغر هي في منتهى الإتقان والصحة، وخصوصا عندما تكشف عن بنية الافتراض المؤسس لكل فهم ضمن “المعطيات المباشرة” المزعومة. وليس هذا كل شيء. الوجود والزمان (Sein und Zeit) هو أيضا مثال تطبيق حالة واقعية للنشاط التأويلي الشامل التي تنشأ عن بنية الافتراض المميزة للفهم، هذه “الحالة الواقعية” هي في الوجود والزمان مشكل أنطولوجي. وينبغي أيضا أن يكون التساؤل الذي نطرحه على الأنطولوجيا تساؤلا واقعيا، بمعنى دون صرف النظر عن سمك الوضعية التأويلية التي تشترط دلالة السؤال. لتفسير الوضعية التأويلية “للسؤال الأنطولوجي”، بمعنى “خبراته ورؤاه المسبقة وافتراضاته الأولية” الضمنية، فمن الضروري، حسب هيدغر، اختبار “السؤال الأنطولوجي”، ولأجل هذا يطرحها نسقيا في اللحظات الحاسمة من تاريخ الميتافيزيقا. يعمل منطلق هيدغر وفق هذا النشاط الشامل الذي لا يبدو بكل مقتضياته سوى للوعي التاريخي-التأويلي (une conscience historico-herméneutique).
وعليه، تشعر الحاجة بكل طاقتها في إعداد وعي يقود ويراقب الافتراضات المتضمنة في نزوعنا الفكري. نضمن بذلك فهما صحيحا باعتباره متصلا اتصالا وثيقا بالموضوع المباشر لمقاصدنا. وهو ما يعبر عنه هيدغر عندما يعتبر “أننا نضمن مبحثنا العلمي بتطور خبراتنا ورؤانا المسبقة وافتراضاتنا الأولية تبعا لـ”الأشياء نفسها” التي تمثل الأفق.
3 – الفهم وحلقة التأويل الدورية: التأويل، التراث، الحقيقة:
طبعا لا نتهم بالتوغل والابتعاد كثيرا عندما نعتقد في سياق امتداد هذه التحليلات أن الوعي التاريخي لم يعد مشروعا حرا. فمن الضروري أن يتحقق الوعي من أحكامه المسبقة قديمة العهد ومن افتراضاته الراهنة. بدون هذا “التطهير”، النور الذي نتلقاه من الوعي التاريخي لا يعد سوى نور محجوب وعديم الفائدة. بدونه لا تكون معارفنا بـ”الآخر” تاريخيا سوى اختزالات؛ طريقة معرفية تقتضي أحكاما مسبقة أو افتراضات، أو أفكارا متصورة حول المنهج وحول “ما ينبغي” أن يكون عليه المعطى التاريخي، تسوي التجربة وتؤدي حتميا إلى غدر كل ما بإمكانه أن يكون هو “الآخر”.
سوف نرى الآن كيف نكشف في ميدان فن التأويل عما شاهدناه في مسألة الوعي التاريخي “المحقق”. في هذه النقطة بالضبط، يسجل الوصف الهيدغري لحلقة التأويل تحولا هاما. لأن النظريات السابقة على هيدغر تكتفي كلها بأطر علاقة صورية بحتة بين الكل وأجزائه. للتعبير عن نفس المسالة من وجهة نظر ذاتية، فإننا نصف حلقة التأويل كعلاقة جدلية بين “تأليه” (divination) دلالة الكلي وتفسيره اللاحق من قبل الأجزاء. بتعبير آخر، الحركة الدورية، حسب الرومانتيكية، ليست نتيجة وإنما شكل ناقص ولو أنه ضروري. فبعد اجتياز النص في كل الاتجاهات وكل الألفاظ، فإن الحركة الدورية تختفي نهائيا في ضوء الفهم الكامل. تجد نظرية الفهم التأويلي هذه مع شلايرماخر أوجها في فكرة فعل تأليهي خالص يكون هو الذات، الذاتية فعليا. مثل هذه الفكرة حول الفهم التأويلي لا تؤمن حصانة كل ما هو غريب وسري والذي يختفي في النصوص. عكس ذلك، يلح هيدغر بقوة في معرض وصفه لحلقة الفهم أن الفهم الخاص بنص ما، لا يمكنه أن يتحدد عبر حيوية التوقد الذي يفترضه.
لنتقدم قليلا في التحليل. لقد ركزت على أن كل فهم يمكنه أن يتصف كجملة علاقات دورية بين الكل وأجزائه. هذا التمييز بالعلاقة الدورية ينبغي له رغم ذلك أن يكمل عبر تحديد إضافي؛ أعبر عنه عادة عندما أتكلم عن افتراض أو أسبقية “انسجام كامل”. يمكن أن يفهم هذا الانسجام الكامل أولا على أنه افتراض من طبيعة صورية، فهو عبارة عن “فكرة”. لكنه مع ذلك فهو دائم النشاط عندما يتعلق الأمر بتحقيق فهم خاص. فهو يعبر على أنه ليس هناك شيئ غير مفهوم إذا لم يتقدم فعليا تحت إطار دلالة منسجمة. هكذا يستلزم العامل القصدي للقراءة على أننا نعتبر النص كنص “منسجم”؛ بحيث لم يظهر هذا الاستلزام غير كاف، أو بتعبير آخر لم تتجل مقاصد النص كمقاصد غير مفهومة. فقط في اللحظة الدقيقة التي يظهر فيها الشك ونحرك على إثرها جهازنا النقدي. ليس من الضروري أن نحدد هنا قواعد هذا الفحص النقدي نظرا إلى أن إثباتها لا ينفصل مطلقا عن الفهم الواقعي الموضوعي للنص. يبرهن موجه فهمنا ومفترض الانسجام الكامل كمالك لمضمون لا يمكنه أن يكون صوريا فقط. ففي الواقع، ليس فقط وحدة المعنى المحايث (immanent) الذي تفترضه العملية الفعلية للفهم: كل فهم لنص ما يفترض أن تكون موجهة من طرف الافتراضات المتعالية (transcendantes) والتي ينبغي أن يبحث منها عن الأصل في علاقة أهداف النص بالحقيقة (La vérité).
فعندما نتلقى رسالة ما، نرى الأشياء بعيني المراسل التي اراد إبلاغها لنا؛ ولكن، ونحن نرى هذه الأشياء بعينيه، فليس اعتقاده الشخصي وإنما الحدث نفسه الذي نعتقد أننا نعرفه من خلال الرسالة. استهداف أفكار المراسل وقت قراءة الرسالة وليس فيما يفكر فيه، يتناقض مع دلالة الرسالة. وعليه، تنشأ الافتراضات التي يتضمنها فهمنا بخصوص وثيقة متداولة عبر التاريخ من علاقاتنا مع “الأشياء” وليس من الطريقة التي تداولت عبرها هذه الأشياء مثلما نعتقد في البيانات الجديدة لرسالة ما لأننا نفترض أن مراسلنا شهد الحدث أو أعلم به فقط، وعليه لا نستبعد إمكانية أن النص المتداول ينسجم مع “الشيء نفسه” الذي تنسجه افتراضاتنا الخاصة، فقط خيبة الأمل التي نشعر بها بعد أن نترك النص يتكلم لوحده، لا نبلغ من خلالها إلى نتيجة مرضية تدفعنا إلى محاولة “فهمه” من وجهة نظر نفسية أو تاريخية.
افتراض الانسجام الكامل لا يقتضي فقط أن النص هو عبارة عن التعبير المطابق لفكر معين ولكن ينقل أيضا الحقيقة نفسها. وهو ما يؤكد على أن الدلالة الأصلية لفكرة الفهم هو أننا “نعرفها في شيء ما” وأنه فقط ضمن دلالة مشتقة، يقتصر الفهم على إدراك ما يستهدفه الآخر كاعتقاد شخصي. نعود هكذا إلى الشرط الأصلي لكل تأويل: ينبغي أن يكون مرجعا عاما ومفهوما “للأشياء نفسها”. هذا الشرط هو الذي يحدد إمكانية الدلالة الأحادية تستهدف وإمكانية الافتراض للانسجام الكامل أن يكون مطبقا فعليا.
بكشفنا عن الدور الذي تؤديه بعض الافتراضات الأساسية والعامة التي تشركنا جميعا في خطواتنا للفهم، فإنه بمقدورنا الآن نحدد بدقة دلالة ظاهرة “الانتماء”، بمعنى عامل التراث في السلوك التاريخي-التأويلي. ينبغي لفن التأويل أن ينطلق من مسألة أن الفهم هو الوجود في علاقة مع الشيء نفسه الذي يظهر، عبر ومع التراث، أين يمكن “للشيء” الاتصال بي. من جانب آخر، إن الذي يحقق فهما تأويليا عليه أن يتحقق أن علاقتنا “بالأشياء” ليست علاقة بديهية دون أن تطرح بعض المشكلات. إننا نؤسس نشاط التأويل بالضبط على التوتر الكائن بين “الألفة” والخاصية “الأجنبية” للتعاليم والدروس التي ينقلها إلينا التراث. لكن التوتر الذي نتحدث عنه لا علاقة له بالتوتر السيكولوجي كما هو الحال عند شلايرماخر. فهو بالأحرى دلالة وبنية التاريخية التأويلية (l’historicité herméneutique). لا يتعلق الأمر بحالة نفسية وإنما بـ”الشيء نفسه” المسلم من طرف التراث باعتباره موضوع التساؤل التأويلي. فيما يتعلق بالخاصية “المألوفة” و”الأجنبية” للدروس التاريخية، فإن فن التأويل يلتمس “وضعية الوسيط”. فالمؤول يتنازعه انتماؤه إلى تراث معين والمسافة الكائنة بينه وبين المواضيع باعتبارها مبحثا لأبحاثه واستقصاءاته.
4 – المسافة الزمنية والنشاط النقدي لفن التأويل:
هذه “الوضعية التأويلية” التي تضع منذ الآن فن التأويل في “صلب الأشياء”، تساعده (المؤول) على الكشف عن ظاهرة لم نناقشها حتى الآن إلا قليلا. يتعلق الأمر بـ”المسافة الزمنية” (distance temporelle) وبدلالتها بالنسبة للفهم. لأنه على عكس ما تصورناه من قبل، ليس الزمن هوة ينبغي لنا تجاوزها لإيجاد الماضي؛ فهو في حقيقة الأمر الأرضية التي تحمل المستقبل وأين يتخذ الحاضر أصله. ليست “المسافة الزمنية” مسافة ينبغي تجاوزها وعزلها حسب التصور المسبق الساذج للتاريخانية. فهي كانت تعتقد الوصول إلى ميدان الموضوعية التاريخية بالاجتهاد للتموقع ضمن منظور الحقبة المراد دراستها والتفكير بمفاهيمها وتصوراتها الخاصة. تتعلق المسألة في الحقيقة باعتبار “المسافة الزمنية” كمؤسس لإمكانية إيجابية ومنتجة للفهم. فليست هي مسافة للتجاوز وإنما اتصال حي لعناصر تتجمع وتتراكم لتتحول إلى تراث، بمعنى النور الذي من خلاله نحضر كل ما بإمكاننا إحضاره من ماضينا، كل ما تم تداوله إلينا، يظهر إلى الوجود.
لا نبالغ هنا إذا تكلمنا عن إنتاجية (productivité) التطور التاريخي. كل واحد منا يعرف الطريقة الاعتباطية التي نصدر على أساسها أحكاما عندما لا تتضح أفكارنا عبر ارتداد الزمن. لنقتصر على مثال اللايقين (L’incertitude) الذي يميز مواقفنا الجمالية إزاء الفن المعاصر: يتعلق الأمر جليا بأحكام مسبقة غير مضبوطة تخفي المحتوى الحقيقي، الصحيح أم لا، لهذه الآثار. ينبغي لهذه الوضعية الراهنة أن تختفي ليتسنى لنا معرفة إذا تعلق الأمر بتحف فنية أم لا واكتشاف المعنى الحقيقي الذي بإمكانه إدخال الفن المعاصر في التراث المتصل. فهو ليس مسألة لحظة، وإنما يتطور وفق مسار لانهائي. “فالمسافة الزمنية” التي تنتج المراقبة والفحص ليست ذات سمو محدد وإنما تتطور وفق حركة متصلة للعالمية أو الثقافة الشاملة (universalisation). فالعالمية المطهرة بالزمن هي الخاصية الثانية المنتجة للزمانية (temporalité). فتحفة هذه الأخيرة هو الكشف عن جنس جديد من “الأحكام المسبقة”. يتعلق الأمر بأحكام مسبقة غير جزئية ولا خاصة وإنما أحكام تؤسس الأفكار الموجهة والمؤسسة للفهم الحقيقي.
هكذا يتحدد من جديد نشاط فن التأويل. فبفضل ظاهرة “المسافة الزمنية” وتوضيح مفهومها يمكننا اكتساب النشاط النقدي لفن التأويل، بمعنى التمييز بين الأحكام المسبقة المضللة وبين تلك الموضحة، بين الأحكام المسبقة الخاطئة والأخرى الصحيحة. وعليه ينبغي رفع الأحكام المسبقة عن الفهم التي تقوده والتي تسمح “للمقاصد الأخرى” للتراث للتخلص منها والذي يضمن إمكانية فهم شيء ما كشيء آخر.
نقض شيء ما كحكم مسبق هو تعليق الصحة المفترضة. وعليه فإن الحكم المسبق لا يمكنه أن يتصرف فينا كحكم مسبق إذا لم نكن إزاءه واعين. لكن لا يمكن اكتشاف حكم مسبق إذا بقي مرتبطا بالأثر؛ ينبغي أن يكون إن صح القول مثارا. لكن هذه الإشارة لأحكامنا المسبقة هي بالضبط ثمرة لقاء متجدد مع تراث كان هو في حد ذاته أصلا لهم. فما يستلزم جهودنا في الفهم هو ما يظهر قبليا وبذاته في غيريته (altérité). وهو ما يقودنا إلى شهادة قمنا بها سابقا، بمعنى أن كل فهم يبدأ على أساس أن هناك شيئا يدعونا (nous interpelle). وبما أننا نعرف الآن الدلالة الدقيقة لهذا الإثبات، نلتمس بحكم الواقع تعليق الأحكام المسبقة. نصل هكذا إلى استنتاجنا الأول: تعليق أحكامنا عموما وطبيعيا أحكامنا المسبقة، ينتهي بفرض تفكير راديكالي علينا حول فكرة التساؤل كما هي.
5 – التساؤل وماهية “الموضوع التاريخي”:
جوهر التساؤل أو الاستفسار هو الكشف عن الإمكانيات وتفتحها. سوف نرى ذلك بأي معنى. عندما تؤسس إحدى اعتقاداتنا أو أفكارنا مشكلا تبعا لما يقتضيه الاستقصاء التأويلي الجديد وعندما تتجلى كفكرة مسبقة، فهذا لا يدل على أنها تترك مكانها لـ”حقيقة نهائية” (vérité définitive) وهي الأطروحة الساذجة للنزعة التاريخية الموضوعانية. هو نسيان أن الاقتناع الذي يفقد مكانه وأن “الحقيقة” تعزلها في الوقت الذي تستقر في هذا المكان الشاغر، هما أحدي الأعضاء لسلسلة غير منقطعة من الأحداث، فالحكم المسبق “القديم” ليس فقط مقصيا. لأنه في الواقع، سيكون له دور هام يؤديه لاحقا وإن كان هذا الدور شيئا آخر غير الذي أداه سابقا، عندما كان مضمرا. ينبغي القول أيضا إن الحكم المسبق المعزول لا يمكنه أن يؤدي دوره الجديد سوى كشيء مستغل لأقصى حد. فإذا كان من المستحيل استبدال اقتناع ما أو عزله كحكم مسبق لأنه بالضبط الاقتناع الآخر الذي يطالب بمكانه لا يمكنه تقديم كتاب اعتماده ما دام الاقتناع المطارد لم ينكشف هو الآخر ولم يهزل كحكم مسبق. فكل وضعية “جديدة” تسعى لتعويض وضعية أخرى تحتاج دوما إليها (كوضعية سابقة)، لأنه لا يمكنها التصريح ما دامت تجهل لأجل ماذا وانطلاقا من ماذا تعارض سابقتها.
نلاحظ هنا بروز علاقات جدلية بين “القديم” و”الجديد”، بين الفكر المسبق الذي يرتبط عضويا بنسقي الخاص من الاقتناعات والاعتقادات، بمعنى الفكر المسبق الضمني والعنصر الجديد الذي يحاول عزله، بمعنى العنصر الأجنبي (الغريب) الذي يتحدى نسقي الخاص أو أحد عناصره؛ نفس الأمر بالنسبة للعلاقة بين اعتقادي “أنا” (mienne) عندما يفقد قوة إقناعه المضمرة بظهوره كحكم مسبق والعنصر الجديد الذي لا يزال في هذه اللحظة خارج نسقي من الاعتقادات ولكنه يصبح الآن منه بظهوره كـ”آخر” حقيقي غير اعتقادي السابق. بتعبير آخر، ثمة علاقات جدلية بين “نسقي” غير الصحيح و”نسقي” الصحيح؛ بمعنى الحكم المسبق المضمر الذي أصبح يعزل كحكم مسبق: أو أيضا بين “نسقي” الذي أصبح صحيحا بفضل الإعلام الذي أصبح ينخرط في نسق اعتقاداتي واقتناعاتي، ويصبح ضمنه الآن؛ مما يسمح بالقول إنه يدخل من خلال معارضته التي يبديها للحكم المسبق المرفوض ويظهر من خلال هذا التعارض “كآخر غريب وأجنبي”. الوسيط الشامل لهذه الجدلية هو التساؤل أو الاستفسار. رفض اعتقاد ما كحكم مسبق والكشف في الإعلام التأويلي عما هو مختلف حقيقيا، هو أن يجعل من “نسقي” المضمر “نسقا” صحيحا، ومن “الآخر” غير المماثل “آخر” مماثلا، وهو أن هناك إمكانية متوفرة أو إمكانية جديدة تنكشف عبر التساؤل.
فالتاريخانية الموضوعانية هي نزعة ساذجة لأنها لا تذهب إلى تفكيرها النهائي. تركن غباوة إلى تخميناتها المنهجية، وتنسى نهائيا التاريخية التي تعد عنصرا منها. ينبغي للوعي التاريخي الذي اقترح أن يكون واقعيا أن يعتبر نفسه أساسيا كظاهرة تاريخية. غير أن تحديد أو وضعية الوعي كوعي تاريخي تبقى مسألة شفاهية ما دام الوعي التاريخي غير محقق: بمعنى يجب مساءلته وسبر أغواره جذريا. فثمة فكرة “الموضوع التاريخي” الذي يختزل إلى التلازم الساذج للفكر التاريخي الموضوعاني. فتاريخية الموضوع هي بالنسبة للتاريخانية الموضوعانية عبارة عن وهم ينبغي التغلب عليه: الموضوع “الفعلي” الكائن وراء الأوهام ليس موضوعا تاريخيا-بتعبير آخر، الموضوع التاريخي كما تراه التاريخانية الموضوعانية هو مزيج “لأجل ذاته” و”لأجلنا”، مزيج “الموضوع التاريخي الفعلي” و”أوهامنا التاريخية”. التساؤل الجذري يقصي فكرة “الموضوع التاريخي” كما هو موصف كبناء للفكر الموضوعاني، المبرر -أقول جيدا المبرر- بالرغم من أن الأمر يتعلق بتعليل أو تبرير مضمر عبر التاريخية الأصلية للمعرفة والموضوع التاريخيين اللذين يشتركان في القرابة. مفهوم “الوهم التاريخي” (illusion historique) كان نتاج تأويل ذاتوي أو ظاهراتي لهذه الأصالة (originalité): فيما يخص مفهوم “الموضوع الفعلي واللاتاريخي”، ينتج عن تأويل موضوعاتي أو طبيعي؛ وهذان التأويلان يتضامنان ويتكاملان.
ليس فقط المفهوم وإنما أيضا عبارة “الموضوع التاريخي” يبدوان لي غير قابلين للاستعمال. ما نريد تعيينه من خلال هذه العبارة ليس هو “موضوع” وإنما “وحدة” “الأنا” و”الآخر”. أذكر مرة ثانية ما ركزت عليه مرارا: كل فهم تأويلي يبدأ وينتهي بـ”الشيء نفسه”. لكن ينبغي، من جهة، تجنب التجاهل إزاء الدور الذي تؤديه “المسافة الزمنية”، التي تقع بين البداية والنهاية؛ وينبغي، من جهة أخرى، إجراء تجسيد مثالي “للشيء نفسه” كما تفعله التاريخانية الموضوعانية. فـ”لا-أمكنة” (dé-spatialisation) “المسافة الزمنية” و”لا-أمثلة” (dés-idéalisation) “الشيء نفسه”، يقوداننا إلى إدراك كيف أنه من الممكن معرفة “الموضوع التاريخي” “الآخر” فعليا في مواجهة الاقتناعات والاعتقادات التي تنتمي إلينا، بمعنى كيف يمكننا معرفتهما في الاثنين معا؟ فمن الواضح أن الموضوع التاريخي، بالمعنى الحقيقي والموثوق به للكلمة (authentique)، ليس “موضوعا” وإنما “وحدة” أحدهما ووحدة الآخر. فهو العلاقة بمعنى “الانتماء” الذي يظهر عبره كل من الحقيقة التاريخية وحقيقة الفهم التاريخي. فهذه “الوحدة” هي التي تؤسس التاريخية الأصلية التي يظهر فيها كل من المعرفة والموضوع التاريخيين بالطريقة التي يحترم فيها انتماؤهما المتبادل. فالموضوع الذي يأتينا عبر التاريخ ليس هو فقط الموضوع الذي نحدق إليه من بعيد، وإنما “المركز” الذي يظهر فيه الوجود الفعلي للتاريخ والوجود الفعلي للوعي التاريخي.
أقول إذا إن مقتضيات التفكير في الحقيقة التاريخية -الخاصة بفن التأويل- تأتينا مما يمكن أن أصطلح عليه اسم مبدأ الإنتاجية التاريخية (principe de la productivité historique). الفهم هو إجراء وساطة بين الحاضر والماضي، وتطوير في الذات كل السلسلة المرتبطة بالمنظورات التي يحضر عبرها الماضي ويتوجه إلينا، بالمعنى الراديكالي والشامل، الأخذ بزمام الوعي التاريخي لا يعني التخلي عن النشاط الأبدي للفلسفة، وإنما الطريقة المعطاة لنا لبلوغ الحقيقة المطلوبة. وأرى في علاقة الفهم باللغة الطريقة التي ينفتح فيها الوعي بالإنتاجية التاريخية .(1).
ثانيا – التفكيك وفن التأويل: Déconstruction & Herméneutique
إن الحوار الذي أثير بين الممثلين الذين قرروا بصفة محايدة متابعة بادرة الفكر الهيدغري، الحوار الذي أبى إلا أن يكون ثمرة لقاء جمعني بدريدا في باريس هناك سنوات خلت، يتركب من بعض الصعوبات الخاصة. هناك أولا عائق اللغات. فهو يتميز دائما بعظمة هنا أين يحاول الفكر أو الشعر جاهدين للتخلي عن الأشكال التقليدية لسماع الإرشادات الجديدة المقتبسة من لغتهم الخاصة. أرقى درجة تتمثل في اقتفاء أثر هيدغر، لكن هذه الوضعية تنطبق بوضوح أيضا على اللقاء الذي جمعنا في باريس. فطبعته الألمانية تحت عنوان “النص والتأويل” (فنك-فرلاغ، ميونيخ، 1985) تعاني مما عانته المساهمات الفرنسية في نشرتها الألمانية. فيفقد أسلوب دريدا في التفكيك من ليونته.
بالإضافة، لم يساعدنا الفن اللغوي لنيتشه على إيجاد أرضية وفاق بيننا. وهذا ناشئ عن قراءتنا المختلفة لنيتشه. يرى بعضهم في ذلك مهزلة في محاولات ومساعي يؤولونها كنهاية ليس فقط للميتافيزيقا وإنما أيضا للفلسفة باختصار. من هنا، كل المحاولات الأخرى تهدف إلى فهم نيتشه بطريقة أحادية تفقد كل أساس. وعليه ينكر دريدا المحاولة التي يمثلها التأويل الهيدغري لنيتشه. فهو يتهم كل تأويل أحادي لأثر نيتشه على أنه أسير العقل المركزي (logocentrisme) للميتافيزيقا. لم يسلم هيدغر هو الآخر من حلقة الميتافيزيقا. ذهبت إلى حد التسليم بأنه في حالة نيتشه، رغم كل القساوة التي يستعملها هيدغر في قراءته للنصوص الفلسفية أو الشعرية، يبدو لي التأويل الهيدغري في التماسك بين “إرادة القوة” و”العود الأبدي” تأويلا مقنعا وقاطعا. إنني هيدغري بلا منازع عندما أرى في نيتشه الانحلال الذاتي للميتافيزيقا وفي فكر هيدغر محاولة الوصول إلى لغة وفكر جديدين (لا يمكنهما أن يختلفا عما هما عليه). لكن يمكننا أن نتساءل: ألم يكن بإمكان دريدا كتابة الجملة السابقة؟ وكيف أن دريدا لا يمكنه الاكتفاء بترجمة الإضافة إلى الفرنسية بين قوسين؟ فيبدو أن ثنائية الرأس التي يقدمها نيتشه نفسه، قد تكون أرضية مشتركة بين هيدغر ودريدا. سأكون إذن العنصر الضال ضمن الحقول الهزيلة للميتافيزيقا بحملي لمشروع فن التأويل كفلسفة.
طبعا لا يرضيني أبدا مثل هذا الوصف. هل أنا حقا تائه عندما تصورت نفسي تابعا لهيدغر عندما تكلم عن مجاوزة (Uberwindung) أو تحمل (Verwinden) الميتافيزيقا؟ صحيح أنني احتفظت بكلمة “فن التأويل” (herméneutique) كما وضعها هيدغر في صلب فلسفته الأنطولوجية حول الكائن-هنا (Dasein) والذي قرر التخلي عنها لاحقا. لا يعني هذا أبدا أنني أحتفظ أيضا بالأنطولوجيا الأساسية المفكرة في دلالتها المتعالية. فهي فعلا الطرق الجديدة المأخوذة عن هيدغر في كتاباته المتأخرة والتي تتضمن مواضيع الفن والشيء واللغة في بعدها التأويلي والتي سمحت لي بالتأكيد على مساري الخاص. لا أرى حقيقة لماذا أرزح تحت الميتافيزيقا بالمعنى الوجودي-اللاهوتي (ontothéologie) أين أصبحت المجاوزة والاحتمال هما النشاط الفكري كما حدده هيدغر. تعتبر الميتافيزيقا من منظور هيدغر “العقل المركزي” (Logocentrisme) عندما يبهم السؤال “على ماذا تقوم الكينونة” سؤال “هذا” (Là) للكائن (être). عندما يحاول هيدغر عبثا إيجاد الـ”هذا” وسؤال “الكائن” (عوض سؤال ماهية الكينونة) ضمن مفهوم “الحقيقة” (aletheia) عند الفلاسفة السابقين على سقراط، فهذا يؤكد من منظوري أنه اعتبر دائما الفكر الإغريقي كفكر ينحو مسار الميتافيزيقا. فانتهى هذا الفكر إلى النزعة الوجود-لاهوتية (ontothéologie) أين اشتبك سؤال الوجود مع سؤال الكينونة السامية. يتعلق الأمر بهذه الميتافيزيقا التي امتلك اللاهوت المسيحي صورتها والذي سيطر لاحقا لعقود طويلة من الزمن. مع التحول الذي أحدثته النزعة الإسمية (nominalisme) ضمن هذا التراث، فإن سؤال الوجود عموما أصبح غير مفهوم في عصر الانفتاح العلمي. هذا ما اعتقد هيدغر اكتشافه بتحليله للكينونة-الدائمة وما تعود اللاهوت المسيحي اعتباره كعلاقة “لا نهائية العقل” (intellectus infinitus) بنظام جواهر الخلق (les essences de la création). “انطولوجيا الكينونة-الدائمة) هي بلا شك أمر مستهدف عندما يتكلم دريدا عن “ميتافيزيقا الحضور” أين تسيطر قساوة تحليل الزمن من طرف أغسطين وهيدغر.
لقد تجاوز الوجود والزمان (Sein und Zeit) هذا المفهوم للكائن. فهو ينتمي الآن إلى البنية التأويلية للـ”وجود” لكي لا يكون كينونة-دائمة، وإنما وجود -نحو- المستقبل (être -vers-le-futur). عندما أضع من جهتي كائنية الخطاب (l’existential du discours) بجانب الحوار “كمسار حقيقي نحو الكلام (La parole)” وعندما أضع أمام المشهد النور الذي يدعونا الآخر للمشاركة فيه والذي يؤسس ما اصطلح عليه اسم صحة “الوجود-مع” (Dasein). منهجيا، لا أبقى على نفس الوضع الذي ابتدأه الوجود والزمان والذي هو “الوجود-هنا” الذي يفهم لوجوده. في العمق، يعتبر هذا الفهم الذاتي في جميع أشكاله عكس الامتلاك والوعي بالذات. لدينا هنا الفهم الذي يعرض نفسه للمناقشة والذي لا يتأسس فقط على الإنية (La mienneté) التي تظهر بوضوح في مواجهة الموت وإنما التي تشتمل أيضا على تحديد الذات من قبل الآخر الذي يتأسس ضمن حوار اللغة. أن يكون هناك دائما الحوار -مهما كانت طبيعة المكان والموضوع والمخاطب- حيثما يطرأ شيء ما على اللغة، أن تكون هذه الغيرية (altérité ) لشيء أو لكلمة أو لشعلة (غوتفريد بين Gottfried Benn) ذلك هو الذي يؤسس عالمية التجربة التأويلية. اعتبارا لمزاعم الفهم، ليس هناك أي تناقض في القول بأن تجربة الفهم هذه تنطوي على حدودها الخاصة. بالعكس تماما، عالمية التجربة التأويلية ترتبط بكل تأكيد مع تحديد حقيقي لكل تجربة إنسانية ومع الحدود المفروضة على تواصلنا اللغوي ومع إمكانية التعبيد. هو أن حياة الحوار ترتكز -كما بين ذلك هابولت Humboldt- على دلالات متموجة والاتفاق على أنه ثمة عدم تفاهم ضمن كل فهم وأننا نتفاهم دائما لنفتح مجال إمكانية “التبادل”، كما هو الأمر مع توقيع عقد أين يتنازل الطرفان. أخيرا، ما يميز خصوبة الحوار المتمثل في القراءة (تلك التي تبحث عن الفهم) هو أن “النص” في حد ذاته يتحدث عن شيء ما. مثلا الشعر كمعاهدة قسرية بامتياز، بدون الإحالة إلى “المؤلف” ولا إلى صوته، وإنما إلى عمق المعنى والرنين (الدلالي) الذي يفلح القارئ في سماعه.
يتبع ذلك أن الحوار الذي هو نحن بالذات لا يتقيد مطلقا بنهاية. فليس هناك كلمة أخيرة مثلما لم تكن هناك كلمة أولى في هذا السياق. كل لفظ هو في حد ذاته جواب ويعني دائما إعادة طرح سؤال. لا أتبع دريدا عندما يؤكد على أن التجربة التأويلية لها علاقة بميتافيزيقا الحضور، بل وينال حتى من حيوية الحوار. يتكلم هيدغر وبتوضيح نقدي عن “سطحية الإغريق” اعتبارا لتجربتهم العينية ولمفهومهم حول الفكرة (eidos) ولتسويتهم بين اللوغوس ومنطق الخطاب الشعري. كان بإمكاننا نعت ذلك بنزعة العقل المركزي (Logocentrisme) واستخدام هذا النعت للتعبير عن الارتباط الوثيق الكائن بين كيركغارد ولوثر والعهد القديم انطلاقا من أن التجربة اليهودية-المسيحية للإيمان تلقت عزمها على سماع صوت الإله. لكن اعتبار نقد العقل المركزي عقلا مركزيا آخر، هو حسب نظري تجاهل لسر اللفظ. هو أنه يتعلق الأمر دائما بلفظ نطقه شخص وإن شخصا آخر يفهمه. ماذا يستلزم هذا من فكرة الحضور؟ ومن يسمع إذن صوته الخاص؟ يبدو لي أن النقد الذي وجهه دريدا لهسرل (Husserl) فيما يتعلق بالمبحث المنطقي الأول وحول مفهومه للإعلان (l’annonce) في كتابه القيم “الصوت والظاهرة” (La voix et le phénomène) قاده إلى افتراض خاطئ. يبدو لي أنه افتراض يحمل نتائج غير مرضية تجاه هيدغر وفن التأويل.
لا يمكنني تجاهل التقارب الكبير بين الخطاب (discours) والمكتوب (L’écrit) المتواري خلف قدرات اللغة في صيرورتها كتابة. أعتبر أيضا كل لغة كـ”مسار نحو الكتابة” (لإعادة العنوان الذي عنونت به محاولة قمت بها سنة 1983). لكن ماذا تعني الكتابة إذا لم تكن مقروءة؟ أقتسم بلا شك مع دريدا القناعة التي تعتبر أن النص مستقل عن مؤلفه وعن قصده. عندما “أقرأ” فإنني لا أحاول إعادة سماع الصوت المألوف للآخر. بالعكس، لقد علمتنا التجربة أن النص المألوف لدينا قد يبدو لنا غريبا عندما يقرأ بصوت المؤلف الذي كتبه. صحيح أنه لا أستطيع فهم النص إذا كانت الإشارات المكتوبة ليس فقط مفككة ومحولة إلى أصوات، ولكن أيضا في الحالة التي يصبح فيها النص ناطقا، ومعنى ذلك أنه مقروء بتغيير وتعزيز وتشديد المعنى. فن الكتابة -وهذا أمر لا يخفى على أكبر كاتب في مستوى دريدا- يتجلى في سيطرة الكاتب على عالم الإشارات المؤسس من جملة النصوص بحيث تكون عودة النص إلى اللغة أمرا يقع بمفرده. في العصور الحديثة، يتعلق الأمر غالبا بلغة مجردة عن الصوت، ولكن هذه اللغة تتكلم أيضا عبر اللعبة العجيبة المتبادلة بين المعنى والصوت التي تميز الكتب المكتوبة جيدا والتي تجعل الشعر ضمن حقل “الأدب”. أريد حقا أن أعرف ما شأن الفهم والقراءة بالميتافيزيقا. أقول أيضا إن الفهم هو دائما الفهم بنمط آخر (Comprendre autrement). لكن لا يمكننا أبدا تثبيت كل ما يتحرك ويختلف ضمن هوية صارمة، عندما يلتحق كلامي بالآخر وأيضا عندما ينضم النص إلى قارئه. هنا أين نجد الفهم، فليس ثمة فقط هوية أو تطابق. الفهم معناه أنه بإمكان الشخص أن يقيم في مكان شخص آخر ليعبر عما فهمه وما يمكنه قوله بهذا الشأن. هذا لا يعني بوجه من الوجوه أنه يعيد ما قاله. الفهم هو، بالمعنى الحرفي للكلمة، تمثل سبب الشخص الآخر أمام المحكمة أو أمام أي دعوى أخرى، كفيل لضمان نفسه.
غير أن دريدا سيعترض بلا شك أني لا آخذ نيتشه بعين الاعتبار، بمعنى أفول أو نهاية الميتافيزيقا، القطيعة التي توهم كل هوية واتصال مع الذات مثلما مع الآخرين. تلكم هي أوهام العقل المركزي التي لم يفلت منها هيدغر كما تبين ذلك من خلال قراءته لنيتشه. كل هذا هو من نتاج هيجل بمعنى من نتاج الميتافيزيقا. طموح هيجل هو أن يوفق جدليا القطيعة مع الغيرية (كل غيرية) بغية الحصول على معرفة الذات ضمن الكائن-الآخر. بيد أن هذا الأمر يختزن الإنجاز الأخير للميتافيزيقا، لكنه لم يعد مألوفا منذ نيتشه. كل خطاب يتحدث عن المعنى وعن استمرارية المعنى لا يمكن اعتباره سوى بقايا الميتافيزيقا. هكذا يؤدي مجهودي في فن التأويل إلى الوقوع ثانية في المثالية عندما يدرج تجربة الفن في اتصالية الفهم الذاتي. هوية الذات هي في الحقيقة وهم. يبدو أننا نجد هنا تصورا خاطئا عن فهم الذات. يمكنه أن يرضى بعدة آراء متضاربة، لكن عبارة فهم الذات تبدو لي عادية وخاصة أنني استعملتها باستلهام من اللاهوت البروتستنتي الحديث وأيضا باتباع التراث اللغوي لهيدغر. هذه العبارة تدل على أن المسألة لا تتعلق باليقين الراسخ تجاه الوعي بالذات. عبارة فهم الذات تتضمن أن الإنسان لا يفلح أبدا في فهم ذاته، بحيث إن فشل هذا النوع من الفهم واليقين بالذات يفتح سبيل الاعتقاد (la foi). نفس الأمر يتعلق بالاستعمال التأويلي للعبارة. فهم الذات هو أمر لا يمكن تحقيقه، عملية يعاد فعلها لتصطدم دائما بالفشل. الإنسان الذي يحاول فهم ذاته بغية تحقيق وجوده يجد نفسه أمام عدم الفهم الجذري للموت. أتساءل إذن: هل هذا هو مسار الميتافيزيقا؟ هل هذا هو العقل المركزي؟
نصل إلى المشكل الرئيسي الذي يصحب كل نشاط تأويلي والذي يجد نفسه بدون شك مصدر القلق الذي يستشعره دريدا من محاولاتي الفكرية: فن التأويل يحاول جاهدا الاعتراف بالغيرية كما هي والآخر كآخر وأثر الفن كتصادم والقطيعة كقطيعة واللامفهوم كما هو، ولكن هل يبالغ في التسليم بالتفاهم والاتفاق؟ هذا هو العتاب الذي وجهه إلي “يورغن هابرماس” (J.Habermas) بطرحه لظاهرة التفاهم الملتبس الذي يحول الاتفاق إلى مجرد وهم وخداع وربما أيضا إلى استعمال تمويهي. يذهب اتهامه بدون شك نحو اتجاه آخر، نحو تبرير سياسي، ولم يكن الهدف هو التساؤل عما إذا كان هناك فعلا الوقوع في ميتافيزيقا الحضور. لكن عمق القضية لا يتغير. يعرفنا “لفيناس” (Lévinas) كيف أن هذا الاعتراض يمكنه أن يكون جديا، حتى بالنسبة للذي لا يدافع عن خيار سياسي. فأنا جد واع بأن الجهد المبذول قصد الفهم يعرض نفسه دوما لخطر الاستهواء عبر الرغبة في الإفلات من الاختيار والذي نجد أنفسنا من خلاله ككائنات فعل (action) ينبغي لها أن تحيا جماعيا.
فليس عبثا أو بدون قصد إذا أشرت هنا إلى كيركغارد. أعترف أن تكويني الخاص استمد إحدى بصماته من التعارض الكيركيغاردي لحقلي الأخلاق والجمال. تتواجد فضلا عن ذلك في صلب خياري التأويلي لصالح الاتصال المخطط سلفا والمرسوم في هيئة المساعد غيوم (Guillaume) في الخيار. يتعارض فيه الاتصال الأخلاقي مع الفورية (L’immédiateté) الجمالية واللذة الجمالية ومع النقد الذاتي الأخلاقي لإرادة -الحصول- على-وعي (vouloir-avoir-une-conscience). عندما استوعبت هذا لأول مرة في سن التاسعة عشرة، كنت أبعد ما يكون عن إدراك مشكل “الوساطة” (médiation) اللانهائي للتفكير الهيجلي الذي كان يجول هنا. لكن، سيكون لي كل الوقت لإدراكه.
أستطيع الآن فهم النعوت التي وصفت على إثرها محاولتي التأويلية كفن التأويل الجدلي (herméneutique dialectique). ليس فقط أفلاطون، وإنما أيضا هيجل الذي أعتبره قد أعانني في ميدان الفكر، ولكنني أحاول جاهدا مقاومة “وساطته اللانهائية”. لا يشك دريدا لحظة واحدة في وجود ميتافيزيقا الحضور في كتاباتي ما دمت أتكلم بـ”لغة ميتافيزيقية”، ثم أليست هذه اللغة هي لغة جدلية؟ هذا ما ألاحظه أيضا في النقد الذي مارسه دريدا تجاه هيدغر عندما يعتبر أن هذا الأخير وقع مرة ثانية في اللغة الميتافيزيقية. ألم يقل هيدغر نفسه إننا مهددون في الوقوع في اللغة الميتافيزيقية؟ حقا، لقد قالها أيضا بشأن استقبالي وتطويري لمنطلقه “التأويلي”.
أتساءل من جانبي ماذا تعنيه عبارة “لغة الميتافيزيقا”. هل ثمة شيء من هذا القبيل؟ فما أخذته عن المجهود الضخم لفكر هيدغر الشاب وخصوصا أنني توجهت سذاجة نحو التراث المفاهيمي للكنطية الجديدة، هو أن المنطق الهيجلي اشتغل كمهنة زودت بعض الآليات التي استعان بها كل من ترنديلا بنورغ، كوهن، ناتتووب، كاسيرر ونيكولاي هارتمان-وما تعلمته من هيدغر أيضا هو المعنى الذي اتخذته “المفاهيمية” (La concenptualité) والذي تتخذه في ميدان الفكر. وما تعلمته خصوصا هو: كل اغتراب الذات الذي يختفي في التراث المفاهيمي للفكر الحديث. عندما التقيت بهيدغر، اتبعت في الحال أسلوبه الغامض في الهدم. انسجم هذا أيضا مع طموح رافقني مع مجهوداتي الأولى في الفكر الموجهة نحو كلمة شاعرية (poétique). سمحت لي بالإضافة الدراسات المحضرة في ميدان الفيلولوجيا من تعزيز مجهودات الفكر هذه في ميدان تاريخ المفاهيم. غير أنه لم يكن بإمكاني متابعة هيدغر أو أي مفكر آخر عندما تكلموا عن لغة الميتافيزيقا أو اللغة “الصحيحة” للفلسفة ولاشياء مماثلة. ليس هناك سوى لغة واحدة، تلك التي نتكلم بها مع الآخر ونتوجه إليه. عندما نتكلم لغة أخرى غير لغتنا الخاصة، فإن المسألة تتعلق ثانية بلغة معبرة مع الآخر والتي من خلالها أصغي إلى الآخر. كل واحد يعلم إلى أي حد يصعب إدارة حوار بين متحاورين من لغة أجنبية عندما يتكلم كل واحد منهما بلغته الخاصة وإن استطاع أن يفهم أحدهما الآخر نسبيا.
عندما نتكلم عن لغة الفلسفة، فلا نفكر سوى في المفاهيم التي تتبلور في تجربة الفكر المتجه نحو الكلام. صحيح أن المفاهيم تختار وتحدد في العلم كعلامات أو رموز. فلهم بذلك دلالة تواصلية بحتة بحيث تعين التجربة بطريقة أحادية المعنى وتصبح بذلك مراقبة. يسمح هنا التحقيق والترميز أحادي المعنى بتكرار التجربة. تجد خدعة هذه الرمزية (Symbolique) المفاهيمية الخاصة بالعلوم تعبيرها الأقصى حيث يمتد هذا الأسلوب إلى المعطيات المعقدة والواقعية للتجربة التي لا يمكنها أن تكون منتجة ومكررة مثلما جرى هذا في تجربة العلوم الطبيعية. حالة العلوم الاجتماعية خصوصا، أين تسود لغة عالمية (Lingua internazionale)، هي التي تنطبق على هذه الوضعية. الموسوعية الذكية لماكس فيبر (M.Weber) قد رافقها إفراط فعلى من التعريفات. نعترف أن هذا الأمر معقول حيث تتعلق المسألة بتصنيف معطيات التجربة. لكن عندما يتعلق الأمر بالفلسفة فإن رغبة التحديدات تخون بالأحرى الهاوي. ينبغي للفلسفة أن تنصت إلى الحكمة القديمة التي تتكلم عبر اللغة الحية. لقد قارن أفلاطون هذه المسألة -بطريقة غير رومانتيكية- مع فن الطباخ الجيد الذي يقطع لحم الصيد وفق المفاصل دون نشر العظام (فيدروس).
لقد تطورت الفلسفة بالمعنى الغربي للكلمة عند اليونان، مما يسمح بالقول إنها استمدت “مفاهيمها” من لغتها الخاصة. لكن اللغة هي دائما لغة الحوار. فمن يستطيع أن ينكر أن استعمال اللغة المنطوقة من طرف الناس لم تفتح لهم بعد الطريق نحو فكرهم الخاص؟ قائمة المفاهيم في كتاب دلتا لميتافيزيقا أرسطو هي صورة ممتازة تعبر عن تطور المفاهيم انطلاقا من الاستعمال (usage). فتحليل مختلف دلالات الألفاظ كما يقدمه أرسطو يهدف إلى تشكيل المفاهيم الأساسية الخاصة بفكره. إنه يحتفظ في نفس الوقت بالعلاقات العميقة التي تربطه باستعمال الألفاظ. تعتبر قائمته المفهومية كتعليق حي لمفاهيم فكره الأساسية. بيد أن الاغتراب الذي طرأ عن المفهومية (conceptualité) الإغريقية أثناء ترجمتها إلى اللاتينية واندماجها في اللغات الحديثة، يجعل من التعليق تعليقا غير منطوق. فهو بذلك يطرح نشاط الهدم. لكن كلمة هدم (Destruktion) عند هيدغر لم تعن أبدا الهدم الخالص والبسيط وإنما اتخذت معنى التفكيك (démontage). فهو يقترح رد الأشكال المفهومية المتحجرة إلى تجاربها الأصلية للفكر بغية استنطاقها من جديد. فلا يهدف هذا الهدم إلى الإحالة على أصل مبهم، أصل (archè) بالمعنى الذي نريده. يتجلى هنا سوء تفاهم محتوم اعتدنا إبرازه ضد هيدغر الأخير. فيما يتعلق بالهدم الجزئي الذي كمله هيدغر لمفهوم الذات وتجديده بمفهوم الماهية وبالفهم الإغريقي للوجود ككائن -دائم-étant subsistant، ينبغي النظر إلى أن هذا الهدم لمفهومية ميتافيزيقية سمح لهيدغر بتعبيد الطريق لفهم أفضل لتجربتنا المعاصرة للوجود وللكائن.
يمكن متابعة كلمة المرور للهدم ضمن قصد وأهداف مختلفة جدا. سيكون دوما نقد المفاهيم التي لا تقول شيئا. يجري الهدم الهيدغري لمفهوم الذات المحال على الكلمة الإغريقية: Hypokeimenon ضمن قصد خاص. لكنه لا يهدف أبدا حتى عند هيدغر إلى تصحيح الاستعمال اللغوي. فحسب نظري، هو تجاهل جوهر المفاهيم الفلسفية أكثر من أن يكون توقعا لما يفرضه الاستعمال المبحثي لكلمة محددة جيدا من سلاسل حقيقية للاستعمال اللغوي الذي يستند إليه الخطاب الفلسفي أو ذلك الذي حدد في النص الفلسفي. لا يزال في أذني رنين الأسلوب المقدس الغامض الذي أعلنه لي أساتذتي الجامعيون عندما كنت مبتدئا وهو أن غموض الألفاظ “السامية” و”المتعالية” قد خان الاستهواء الفلسفي. لقد وضع كنط دفعة واحدة ونهائيا حكم هذا الغموض. أجرؤ على القول اليوم إن في هذه النقطة بالضبط يعتبر كنط في حد ذاته هاويا فلسفيا. فليس من النادر أن يستعمل نفسه مثل الجميع لكلمة تعالي transcendantal بمعنى السمو transcendant. نفس الأمر يحدث بالإغريقية مع مفهوم الفكر أو التفكير phronesis. يتعارض الاستعمال الشائع للكلمة مع التحديد اللفظي الذي فرضه أرسطو دون أن يعارض هذا الأخير الاستعمال الشائع. فمن الخاطئ إذن محاولة استخلاص نتائج كرونولوجية (زمنية) لاستعمال هذا اللفظ عند أرسطو. فهو برهان بينته فيما مضى ضد “فرنر ياغر” (Werner Jaeger). ينبغي أن يمنح لي شيئا مماثلا. عندما أواصل التكلم عن “الوعي” وخصوصا “الوعي بالعمل التاريخي” فلا يعد هذا إيمانا لا بأرسطو ولا بهيجل. فالمهم هو معرفة أن الوعي ليس شيئا (res). لهذا السبب، ليس من الضروري تطهير الاستعمال اللغوي لكل المفاهيم “العقلية”. هكذا يمتلك النقد المعروف للمفاهيم “العقلية” أو الذهنية عند فتجنشتين وظيفة برهانية تذهب وفق براغماتية اللغة ونقد الدوغمائية في ميدان علم النفس. لكن فتجنشتين نفسه لم يكتب بلغة خالصة من الشوائب. فالسياق العام هو الذي يبرر الاستعمال اللغوي.
هدف الهدم هو السماح للمفهوم أن يكون منطوقا داخل نسيج لغة حية. هنا يتجلى نشاط فن التأويل. فلا علاقة له بالاستحضار المبهم والغامض للأصل (origine) وللأصلي (originel). لقد علمنا هيدغر مثلا كيف يمكننا الاعتراف بحضور الملكية (propriété) وبحضور الأويكوس (oikos، المنزل) في كلمة أوزيا (ousia، الجوهر)، وهو ما سمح بنفوذ جديد في الفكر الإغريقي حول الوجود. لا علاقة لهذا الأمر بالرجوع إلى أصل سري (حتى وإن وقع أحيانا لهيدغر التكلم سريا عن صوت الكائن). سمحت هذه اللمحة في الفكر الإغريقي لهيدغر في التحرر من الاغتراب المدرسي (scolastique) ليجد نفسه بوضعه على طريق مبحث الوجود والزمان (Sein und Zeit) حتى النتائج النهائية الخاصة بزمانية الكائن (La temporalité de l’être) التي اصطلح عليها لاحقا اسم الحدث المتوافق أو المناسب (Ereignis). كان بإمكان كل هذا الأمر أن يدرك على طريق هدم تراث المفهومية المتحجرة. فثمة تساؤل آخر لمعرفة السبب الذي حث هيدغر على إثارة المفهومية المتحجرة، بمعنى ضمن أي بؤس خاص باشر هيدغر هذه المفهومية. فمن المعروف أنه كان مبررا بالشكوك التي شارك فيها “فرانز أو فربيك” Franz Overbeck” حول موضوع اللاهوت المسيحي. لقد أخذ هيدغر عن لوثر أنه إذا كان من المفروض الرجوع كل مرة إلى أرسطو، ينبغي في النهاية إنكار أرسطو.
أن تكون مسارات فكره الخاصة قد استعادت قوتها من الطاقة الشاعرية لهولدرلين (Hölderlin)، فهي جرأة محفوفة بالمخاطر. فمن السهل جدا أيضا أن نحاكي بعض الاستعارات مثل “صوت الكائن” وأن نرى في ذلك بطلانا عاطفيا أو فراغا بسيطا. لكن تحتاج المسارات الجديدة للفكر إلى إشارات جديدة لتصبح مسارات. فالذي يبحث عن مثل هذه المسارات فهو يترصد العلامات أينما وجدها. فلا أتصور أنه سقوط ثان في نزعة العقل المركزي للميتافيزيقا الإغريقية عندما التفت إلى الجدل الأفلاطوني المفتوح وعندما حاولت اتباع هيجل في تجديده النظري واعتماده على أرسطو. هكذا اتبع أفلاطون (ولكن أيضا برمنيدس كما أقربه في الأخير هيدغر) العقل نفسه إذا استيقن بضعه غير المضبوط. لكنه لم يتخل عنه ذلك جسدا وروحا. هو أن مجهوده الجدلي والجدلي-الحواري (dialogique) المستمر استطاع دوما الحفاظ على السر الأعلى للحوار بحيث لا تكتفي المتابعة بتحويلنا، وإنما تدفعنا دائما نحو أنفسنا بتشابهنا مع أنفسنا. إذا استطاعت الطاقة الشعرية الأفلاطونية إكمال ما فعلته سابقا، بمعنى أنها حاضرة من جديد لكل قارئ، هو أن أفلاطون نفسه قد أتم هدم الألفاظ المتحجرة -وفي معظم أساطيره، تعلق الأمر بتفكيك محتويات فقدت طاقة اندماجها- وهذا الهدم هو الذي يحرر الفكر.
لا ننفي حتما أن الأسلوب الغامض للـ”لوغي” (Logoï، عقل، كلام) لا يبطل استعماله أبدا والذي يلتزم طريق البرهنة (argumentation) المنطقية والجدلية، قد رصف الطريق لتاريخ العقلانية الغربية. هو مصيرنا التاريخي جميعا كوارثين عن الغرب من أن نجد أنفسنا مجبرين للتكلم ضمن لغة المفهوم التي تعتبر أن هيدغر، رغم محاولاته الشعرانية (poétisantes)، اعتقد رؤية الشعر والفكر مع هولدرلين “على جبال بعيدة جدا”. يشتمل هذا المصير على مقامه الخاص. لا يمكننا أن ننسى أن الفصل بين الفكر والشعر هو شرط إمكان العلم ودعا الفلسفة إلى ممارسة نشاطها المفهومي، حتى وإن كان هذا المشروع الفلسفي يبدو مرتابا في عصر العلم. لا أتوصل حقيقة إلى رؤية ماذا يعنيه التفكيك عند نيتشه أو عند دريدا بعزله لهذا التاريخ.
الهوامش
(*) Esquisse des fondements d’une herméneutique.
(**) Déconstruction et herméneutique.
(*) العناوين الفرعية من فعل المترجم.
(1) الاستلزامات النسقية لفن التأويل التاريخي كما قدمت خطوطها العامة هنا والمكانة التي تحتلها اللغة كظاهرة قد أوضحتها كلها في القسم الثالث من كتابي الحقيقة والمنهج: الخطوط الكبرى لفن التأويل الفلسفي، باريس، لوسوي، 1978.
” width=”100%” frameborder=”0″>