قراءة لـ (ق ق ج ) ” غيرة ” للقاص شريــف عابديــن / مصر
القصة القصيرة جداً تكتسب رونقها من قوّة الحكي و رونقه، و احتفائها
بالتّلميح و مقاصِاده. وتوالي بناء الفكرة و تشويقه ، و مفاجأة المتلقي بما
لا يخطرُ على باله… تلك أشياءٌ أصبحت مألوفة معهودة عند رواد هذا الفنّ
الجميل من السّرد.
إلاّ أنّ الإبداع في القصّة القصيرة جداً ،
لا يَعرف حدّاً، و لا تستوقفه محطّة، كأنّه أعِدّ للاستمرار، والتّنوع،
والاختلاف، لدوام وُجوده، وابتعاده عن النّمطية و السّكونية و التّداولية
الرّتيبة،لهذا يفاجئنا بعضُ مبدعي هذا الفنّ ، بطرائق غير متداولة، و
بِلمسات غير مَألوفة، تتّسم بالغَرابة حيناً، و بالتّجريد حيناً آخر، فتفتح
باب التّأويل على مصرعيه. و من هؤلاء الرّواد الذين يكتبون بصمتٍ، و بدونِ
ضَوضاء، و بِعمقٍ و بدون تَسطيح، و باحْترام كبيرٍ لذكاءِ المُتلقي القاص:
شريف عابدين. و قد اخترنا من نصوصهِ الجديدة نص : “غيرة “
النص:
الصّورة تحلم بأن تذوب لكي تلمس شفتيها.
الماء الشّفاف يتمنّى أن يتلون لكي تدركه العين.
حین یلتقیا عند أعتاب الشفاه.. یتشبث الماء بشفتیھا فیصطبغ بالحمرة.. تداعبه في براءة: لم تعد شفافا!
یصمت وحین یلمس عینیھا ویصطبغ بالكحل.. توقن أنّه فقد أیضاً براءته.
العنوان: غيرة .
الغيرة : لغويا : غيرة ، اسم ، مصدر غار. بمعنى شدّة التّعلق بشخص ما، و
الخشية من ضياعه، كارتباطه بآخر، و منه غيرة الرّجل على زوجته، و قد تتّسع
كمفهوم كالغيرة على الوطن، و المبادئ ، و الدّين…
و نفسيا: الغيرة
(Jealousy) شعور إنساني طبيعي ما دامت في حدود موضوعية، فقليلها مفيد، و
كثيرها يسبب صراعات نفسية، فهي انفعال مُركب: حبّ تملك من جهة، وغضب من
الآخر لدرجة الحقد والكراهية من جهة أخرى.
النّصّ قوامه ثلاث شخصيات : الصّورة، الماء، و المرأة ، التي أشيرَ إليها بضمير الغائب.
و في النّص أربع خصلات:الصّورة ( تحلم)، الماء الشّفاف (يتمنى)، المرأة
(تداعبه) في براءة، المرأة ( توقن) أنّه فقد أیضاً براءته: [ الحلم+
التّمني+ المداعبة +اليقين]
أربع خصلات تلخص العلاقة الإنسانية. فما من
علاقة إلا وتبتدئ بحلم، قد يكون ذهنياً أو منطوياً في اللاّشعور ، و كأنّه
في فترة تخمّر، أو تكوين جيني خاص. سرعان ما يتطور، و ينعكس بوضوح في سلوك
صاحبه و أفكاره، بل و أقواله ،عن قصد أو عن غير قصد. لأنّ الحلم تطور إلى
أمنية، و كثير من الأماني تتحقق و تصبح واقعاً ملموساً بكلّ تجلّياته يجمع
شخصين متحابين، متلائمين، يسعيان إلى عيش مُشترك.و في ذلك علاقة تسمح بكلّ
ملاطفة و تقارب، و ألفة، تغذي عواطف جياشة. و هي مرحلة تطور الأمنية إلى
حقيقة تتشكلُ في المداعبة. لكنّها بحكم جرأتها، و مُكاشفتها، و شفافيتها..
قد تفرز أشياء لم تظهر منذ البداية، هي أشياء من خصائص الأخر، التي ظلت في
الخفاء و التّستر، خلف الأشياء الجميلة. إنّ المُعايشة، و المُداومة تكشف
الخبايا. و تلك مرحلة النّهاية قبل الأوان مرحلة اليقين والتّيقن.
من خلال الأيقونات الأربع . نسج القاص شريف عابدين نصاً متميزاً. إذ
كان من الممكن أن يأتي بالحكي بطريقة كلاسيكية كالمُعتاد: فتاة تحلم بفارس
أحلام، ثم تبني أمانيها على أوّل شاب يطرق حياتها، و تعيش فترة مودّة
وعلاقة خطوبة، و سرعان ما تكتشف أنّ اختيارها لم يكن صائباً، و أنّها قد
تيقنت من ذلك. لكن بدل هذه الرّؤية المكرورة النّمطية، فضّل القاص استبدال
الشّخصيات، و أنسنَ بعضَها. فتجلّت الرّؤية الرّمزية ، و أضفت على النّص
حلّة فنّية رائقة.
تجعلنا نستفيد أنّ الأفكار قد تكون هي نفسها، ولكن الإبداع القصصيّ في كيفية التّعبيرعنها.
فالقاص ليس مُطالبا أنْ يأتي بفكرة جديدة غير مطروقة، لأنّه أولاً و قبل
كلّ شيء فنّان مبدع و ليس فيلسوفاً مفكراً. فالإبداع عند الفنّان عموماً في
كيفية طرح الفكرة ليس إلا.
فبعودتنا للنّص و تفكيكه، سنلاحظ أنّ ما سبق ذكره، يرسمه النّص فنّياً :
فالنص يضم خمسة مقاطع دلالية:
1 ــ [ الصّورة تحلم بأنْ تذوبَ لكي تلمس شفتيها.]
الصّورة . رمز لأيّ شاب عاشق و لهان، تصل به الرّغبة ،و الوَله إلى أنْ
يحلم أن يكون سائلاً كالماء فيلامس شفتيها.و مسألة الحلم خاصية إنسانية،
حتّى لا يبقى الذّهن في ارتباط بالصّورة الجماد.
2 ــ [ الماء الشّفّاف يتمنى أن يتلون لكي تدركه العين.]
الماء مركب كميائي يتكون من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين بطبيعته شفاف، لا
لون له، و لا طعم ، و لا رائحة، و لكنّه أساس الحياة. و هو في النّص رمز
أيضاً مؤنسن، قد يكون لشاب ما يتمنى أن يكون محبوباً، مرغوباً، أثيراً.. و
لن يكون كذلك ما لم تدركه العين. و كيف تدركه و هو شفاف؟ أي: مغمور و غير
معروف، لهذا يرغب في تلوين نفسه، بمعنى: أن يتهندم ،و يتمظهر أمام الفتاة،
التي يرغب في أن يكون فارس أحلامها.
3 ــ [حین یلتقیا عند أعتاب الشّفاه.. یتشبث الماء بشفتیھا فیصطبغ بالحمرة..]
بالتقاء الماء و الصّورة الذائبة، عند الشفتين، الصّورة تزْدَردُ و كأنّها
لم تكن، لأنّها مجرّد صورة. بينما الماء الغيورُ الذي يرغبُ في أن
يُدرَكَ، و يُفهمَ، و يُعرَف.. تشبث بالشّفتين، فاصطبغ بلون أحمر
الشّفاه.فتجلّى و بان. في مظهرٍ زهريّ لافت، فأثار الانتباه.
4 ــ [ تداعبه في براءة: لم تعد شفّافاً ! ]
حتّى أنّ المرأة رمز الخليلة المَعشوقة، أفاضت عليه بكلّ حنان و رقة، و
بادلته إعجاباً بآخر، و استلطفته، و داعبته، بما أصبح عليه :(لم تعدْ
شفّافاً) و نسيت الصّورة وأهْملتها، كأيّ عارض مرّ بها مُروراً عابراً…
5 ــ [یصمت وحین یلمس عینیھا و یصطبغ بالكحل.. توقن أنّه فقد أیضاً براءته.]
الصّمت: دلالة رمزية، أشعرت الماء بأصله الشّفّاف. و أنّ ما اصطبغ به هو
مجرد تصنع، لا يمتّ إليه بأدنى صلة. تماماً كما يتجمل و يتصنّع الشّاب
ليكسب مودّة من يحبّ، و قد يصل به الأمرُ إلى الادعاء، والكذب، و اختلاق
شخصية يتقمّصها ولا صلة له بها.
منذ بداية النّص كان الماءُ يَتمنّى أن
تدركه العين، تخضب بلون الشّفتين، و وصل إلى العينين، و من حيث يدري أو لا
يدري زال عنه اللّون الأحمرُ المُخادع واصطبغ بالكُحل. و المرأة أدرى بكحل
عينيها.فلم يعدْ في اعتقادها بَريئاً، و هو يتلوّن كالحرباء.فلا هو شفاف و
حافظ على أصله، و لا هو أحمر و لازم ما استعاره، بل تمادى واستولى على
الكُحل من العين التي تمنّى أن تدركَه…لذا تيقنت صاحبة الشفتين والعينين،
بأنّ العاشق المِلْوان لا يمكنُ أن يكون بريئاً. و ما هو إلا نتيجة غيرة
عمياء..
فنياً :
1 ــ أنسنة الأشياء، و هي ميزة نجدها تتكرّر في
أغلب قصص القاص شريف عابدين. و هنا نجد مثلا : [ الصورة تحلم.. الماء
الشفاف يتمنى..العين تدرك..يتشبث الماء بشفتيها..”الماء” يصمت.. “الماء”
فقد براءته.
2 ـ توظيف الألوان:
ــ الشفاف (transparent): و إن
كان الشفّاف فقير في اللّون و لكنّه عاكس لكلّ الألوان،واضح مُنكشف، و في
تفاسير الأحلام (لابن سيرين، أوالنابلسي، أوابن كثير ) يدلّ فيما يدل عليه :
ضعف الشّخصية و قلة الالتزام ، والفضيحة، كما يدل على التّمويه،
والاختفاء، والتّخفي، و أشياء أخرى ، وهي كما نلاحظ تناسب شخصية الماء في
النّص.
ــ الأحمر: من دلالاته الشّائعة أنّه رمز للحب،و الدّفء، و الإحساس القوي، كما يدلّ على الوسامة، والأناقة، واللّطف. وهو مع ذلك لافت للنّظر ولهذا ورد في النّص أحمر الشّفاه.
ــ الأسود/الكحل: نفسياً يدلّ على التّعاسة و الحزن و الاكتئاب و التّشاؤم و سوء الطّالع، و السّلبية…و إن كان حسب بعض الثقافات و الأمزجة له دلالات أخر.. وهذا ما انتهي إليه النّص مع تمازج الماء بالكحل.
3 ــ توظيف التّرميز (Encoding) : فالنّص يطفح بالرّمز شخصيات، و فكرة:
ــ الصّورة : رمز لشخصية عاشق/ معجب عابر.
ــ الماء : شخصية عاشق ضعيف، يؤمن بالمظاهر و لا يملك ذات نفسه.
ــ المرأة : استعيض عنها بضمير الغائب لتكون أي امرأة ذكية لا تنخدع إذا تيقنت.
ــ الشفّاف : رمز لأصل الأشياء أنّها واضحة، بينة، منكشفة…
ــ اللّون الأحمر:رمز الإغراء، و التّجميل، و التّمويه …
ــ اللّون الأسود، رمز الحسرة، والحزن بعد انكشاف الحقيقة.
ــ الفكرة: التّمويه لقضاء المَآرب. و هي رمز لكلّ خداع و كذب مآله الفشل الذّريع.
4 ــ اقتصاد ملحوظ في توظيف الرّوابط، و تنوّع في الجمل، دون الاقتصارعلى الجمل الفعلية كما هو شائع ، و هذه مزية من ضمن مزايا هذا النّص القصصيّ.الذي فضلا عن ذلك خلا من الزّوائد، أو الجملة أو اللّفظة التّعليقية (Suspension scene ) .
5 ــ توظيف اللّغة المجازية
(Figurative language) و هذا يبدو جليا من خلال عدد الاستعارات في النّص:
الصّورة تحلم..” الصورة” تلمس شفتيها.. الماء الشفاف يتمنى…
و ما ذكرناه آنفاً في الأنسنة جملة استعارات. هذا فضلا عن تعدّد و اختلاف الصّيغ..
6 ــ الكثافة اللّغوية و الإيجاز(Prolipse) في نص قصير جداً،نجد علاقة إنسانية فاشلة، تنكشف و تتّضح، بداية، وعَرضاً، ونهاية، بدون تفاصيل مملّة، و لا تفاسير مُسهبة غير مجدية، و إنّما ببساطة فنّية، وامضة، أساسها السّبب والنّتيجة ( Cause and effect)
7 ــ النّص قابل للتّأويل، و محفّزٌ للعصف الذّهنيّ فإن أخذناه في مجال علاقة عاطفية فاشلة، بسبب وجود ضمير يحيل على أنثى و شفتين و عينين ، و بسبب ضعف أحد الشّريكين، فالأمرُ قد ينسحب على كلّ العلائق البَشرية الفاشلة .مهما تنوعت و اختلفت، مادام هناك طرف ضعيف، يستمد قوّته و شَخصيته.. من غيره، كحالة الماء الشّفاف الذي يعكسُ لونَ غيره.
فهنيئاً للقاص شريف عابدين بهذا النّص الرّمزيّ الفنّي القصصيّ. فرغم أنّ الفكرة رائجة، و لكن طريقة تناولها، و أسلوب إيصالها، كلّ ذلك كان يشكل فنّية و إبداع النّص، في إطار بناء يتحاشى الغلو والضّبابية الرّمزية، و يتحرّى الإشارة و الهَمس، و الحذف و التّضمين. الشيء الذي حقّق الإنسجام، و التّجانس، و المُرونة ، و القابلية، و بلاغة القص.