رولان بارت: مفهوم الكتابة
الثقافة ……… رولان بارت……….ترجمة: سعيد بوخليط
رولان بارت،العالِم السوسيولوجي والنفساني المختص في “الأساطير البورجوازية” انكب
أيضا على قضايا الكتابة من وجهة نظرغريبة غير كافية، لكنها أيضا مثيرة.
ميز،عمله “درجة الصفر للكتابة” بين اللغة – استعمال لسان معطى- والكتابة ثم
الأسلوب.
بخصوص الكتابة، ركز بارت مؤولا هذا العالم المضمر،الذي يدل
سرا، أبعد من المعنى الحرفي والقواعد التركيبية :((أشار “هيبر”أنه لايبدأ
جزءا من عمله” لوبير دوشين”،دون ممارسته بعضا من سخريته وكذا جانبا من
الشيطنة . كلام بذيء لا يعني شيئا، غير أنه يثير قضية ما ؟إنها وضعية ثورية
برمتها. يتجلى معها ، نموذج كتابة لا تكمن وظيفتها فقط في التواصل أو
التعبير، لكن موضعة لما بعد اللغة، سيشكل في الآن ذاته تاريخا وكذا الجانب
الذي نتخذه داخله)).
يوضح هذا الاستشهاد جيدا، قيمة وحدود مشروع بارت.
لكن حينما تكلم بروست،عن ما وراء اللغة، فلم يقصد بالتأكيد هذا التجاوز.
يقول بارت صائبا :((لا توجد لغة تكتب بدون إعلانات)). بيد أن الإعلان، الذي
يتكلم عنه ذو طابع تاريخي يخرج ثانية من السوسيولوجيا وكل ما سميناه لهجة
،كي نميزه عن الأسلوب الذي يصنع حقا مجراه داخلنا،بصيغة أكثر عمقا.
تكمن أصالة بارت أولا في كونه تصور تاريخا سوسيولوجيا للكتابة، يلتقط
العادات والنماذج والصيغ، بل و بعض أشكال وأوجه الفن من خلال محيطها
التاريخي . لم يبق هيبوليت تين و موريس كروازي Croiset،في منأى عن هذه
الأسئلة. لكن لا يوجد بعد ،تاريخا منهجيا للكتابة، لأن مفهوم التاريخ الذي
يمارسه المؤرخ يحسم كل شيء بين ثنايا مشروعه : هكذا فإن مفاهيم الأوج
والانحدار إلخ، تصدرت عند الباحث كروازي، استقصاء من هذا القبيل.
غير
أن بارت الماركسي المقتنع، امتلك ميزة إسقاط مفهوم الطبقة الاجتماعية على
الكتابة، مما يعني أيضا أن الأمر يتعلق بمخطط للتاريخ موجه جدا.أثار، بارت
كذلك أسئلة جوهرية كثيرة،وسعى في إطار دروب مسدودة جد موحية، ستعترض سبيلنا
ونحن ننساب مع جدله، بغية التدرج قليلا نحو مخرج : لأن بارت، ينتقل بنا
على مضض، إلى تحليل نفسي حقيقي للأسطورة الماركسية للتاريخ. ولن يكون
عبثيا، الوقوف على أسلوب مفجع وعميق بشكل أصيل، يقود اللعبة خلف المجاهرة
بالإيمان التاريخي، لدى أحد العقول الأكثر تميزا في هذا العصر، والذي يبدو
أحيانا لامعا، وأحيانا ثانية ينقلب بغرابة إلى شخص موصول بقيود. ما يهم
بارت و لو قليلا ، أن رؤية تجاوزت الحدث ، عملت على تشظية التاريخ. هكذا
تتبدى فجأة ما يشبه ملحمة من الدم، ستغذي التأويل الماركسي للكتابة الثورية
.
حينما يتكلم عن مغالاة الكتابة في ظل الرعب، سيحيل بارت ذلك إلى :
((فعل الدم المنتشر، وبأنها تبلورت كي تجيب على مأساة معاشة، تلك المتعلقة
بالمقصلة اليومية)). هنا –لا أعرف طبيعة الارتجاف- نشعر أن الرؤية الكونية
لتضحية “جون دوميستير”، يمكنها أن تتأتى كي تخلق برعشتها الكبيرة ، اضطرابا
في هذه الرؤية الحكيمة حول لحظة صراع طبقي.
يكفي أحيانا،أن تدفع من
لاشيء العبقرية الماركسية لبارت، كي تلاقي عباقرة سيئين مؤثرين جدا في كل
الماركسيين إلى حد ما ، بحيث يستدلون بهم رغبة في تدمير تاريخ، يطمحون أن
يرجعوا إليه كل شيء بما في ذلك ورطاتهم الخاصة. لأنه ، ليس فقط ما تعلق
بالموت والدم ، أي القضايا التي يصعب جدا اختزالها إلى”التطورات
التاريخية”، سيتجاوز بارت أوضاعه المذهبية الخاصة، ويضيء لنا مأساة أكثر
عمقا.
حينما يتكلم عن كتابات سياسية،أشار أن الكلمة صارت معها إثباتا
بالغيبة وتخويفا في الآن ذاته،لأنه ينبغي أن نستنكر في نفس وقت الإظهار،
بمعنى محو المساحة بين التسمية والحكم. لذلك :((عندما نقول أن مجرما ، قد
ارتكب نشاطا ضارا بمصالح الدولة ، فهذا يقود إلى القول أن المجرم من اقترف
جريمة. سنلاحظ، أن الوضع، يتعلق حقا بتحصيل حاصل، ونهج مترسخ في الكتابة
الستالينية .هذه الأخيرة، لاتقصد أبدا في الواقع، إرساء تفسير ماركسي
للوقائع، أو عقلانية ثورية للأفعال ، بل تقديم الواقع في إطار صيغة حكم ،
تفرض قراءة فورية لتجليات الإدانة : إن المحتوى الموضوعي لكلمة انحرافي،
يتضمن طابعا جنائيا)).
غير،أن هذا التأويل للكتابة الستالينية ، يلزمه
مرة أخرى القليل كي يصير فعلا أكثر عمقا : لأن كتابة مثل هذه – كل حكم فني
وضع جانبا- تشهد على الهروب والخوف بين ثنايا عالم منغلق ،أبعد من تلك
الأداة السياسية المثيرة للسخرية والقاتلة أيضا، التي يكد بارت كي يغو ص
بها في التاريخ. إذا :((كانت الوضعية الحاضرة للتاريخ، تجبر كل كتابة
سياسية على تعضيد عالم بوليسي)) ، فإن أسلوب بارت نفسه يعكس أفضل حالاته
تراجيدية،فضلا عن منحاه البوليسي : تبدو الكلمات في ظله، كما لو أنها معلقة
، قاتمة بالغم، تستخلص نوعا من الامتلاء بانعزالها الأسود… .
مع سياق
تحليله كتابة الرواية، ستبدو مقاربات بارت أكثر اقترابا من تجاوز التاريخ :
ثم يعود الكاتب فجأة، كي يرسخ ثانية هيكل جدل مسعف للسلاح الماركسي ضد
القلق والعزلة أو العمق. هكذا، يبين بارت التواطؤ بين الرواية والتاريخ ،
بحيث يوظف الاثنان السرد، ويلعبان بالماضي البسيط، ويحتجزان السديم
والصدفة، مع سياق انتشار ضروري، يلغي كل صيرورة غير متوقعة، ويعمل ما في
وسعه كي يخضع الزمان ويوجهه، ثم يجمد الوقائع في صلب عقلانية غريبة، حيث
تعتبر القدرية ذاتها شخصية وتعزيما للعبث. من البديهي،أن هذا الاحتواء
للماضي، داخل ماض منسوج ومروَّض،ومهيأ لخدمة الإرشاد أو البناء، يمثل
انتصارا خاطئا وتآمرا لاواعيا على الزمان : ((يشكل، إذن الماضي الحكائي
جزءا من نظام لتأمين الأدب. إنه ،نفس فعل امتلاك المستقبل في ماضيه
وممكنه))كما يقول جان بول سارتر.
يلزم إذن القليل ،كي يلغي مفهوم كهذا
لقيم الكتابة، الهروب أمام شيء أكثر جدية من “تزوير التاريخ”،وأقصد الهروب
عن مواجهة الوضع التراجيدي. للأسف، بالنسبة لبارت، فهذه الكتابة/الهروب،
ليست غير الكتابة البورجوازية : ((نتيجة انبثاق لهذا النوع ،أمكن
للبورجوازية المنتصرة خلال القرن الماضي،أن تضفي على قيمها الخاصة طابع
الكونية)).
على النقيض ، يوجد نوع آخر من التاريخ، يمنحنا سلسلة
للتاريخ وتقوم معه شرعية استعمال الماضي البسيط :إنه التاريخ ، الذي ينظر
إليه باعتباره ارتقاء بالحقيقة. تاريخ، اكتشفته النظريات الماركسية
اللينينية. هنا،يستبعد مؤقتا، كل ما هو مأساوي. حيث يبدو وحده المجتمع
البورجوازي، تاركا الإنسان داخل عالم بلا قياس ،والزمان المقاس لا يقدم له
أي سند. يكتب بارت :((ماذا يعني الانتصار العقلاني للغة الكلاسيكية، غير
كون الطبيعة ممتلئة ومهيمن عليها، دون انفلات ولا ظل، خاضعة كليا إلى أفخاخ
الكلام؟ تختزل اللغة الكلاسيكية باستمرار، إلى محتوى مقنع… حيث الأفراد
ليسوا وحيدين، والكلمات ليس لها قط وزن الأشياء المرعب، والكلام لقاء دائم
بالآخر)).لكن بعد 1850، بدأت الكتابات تتضاعف : ((حيث شرعت حينئذ كل واحدة
تشتغل عليها، فجعلتها شعبية ومحايدة، يبتغي تكلمها الفعل الأصلي الذي
بواسطته يتحمل الكاتب وضعه البورجوازي أو يحتقره : هكذا، أسس فلوبير
الكتابة الحِرفية : ((يتعلق الأمر باقتراح الجملة كقيمة عمل،أي انتشالها من
التاريخ،وإظهارها كأداة فنية)).
تكمن باستمرار،الخطيئة الجوهرية لبارت
في زعمه الانفلات من التاريخ. هكذا، يتم تقديم النزعة الطبيعية لدى فلوبير
مثل مأزق .ثم انطلاقا، من أية لحظة، جعل الأخير هذا المأزق يتطاير
شظايا؟هنا، ستذهب مدام مانيMagny عند مستوى أبعد،حينما تكلمت عن رتابة
أسلوب فلوبير. مع ذلك،فموقف بارت صادق : انتقاده للأساليب الخاطئة ،نتكلم
هنا تاريخيا، ينطبق أيضا على الكتاب الماركسيين،بل إلى هؤلاء
الزملاء،سيتوجه نقده الأكثر عنفا .
يمكن الاستشهاد،بفقرة كهذه : ((هاهي
مثلا ،بعض السطور من رواية لغارودي :”نصف جسده الأعلى، منحنيا ومنكبا بكل
قواه على آلة مفاتيح حروف الطباعة … تتغنى السعادة بين عضلاته، وأصابعه
تتراقص رشيقة وقوية … بخار الأنتيمون المسمم يهز صدغه، ويضرب بشدة شرايينه،
مما يزيد في احتدام قوته وغضبه وكذا تحمسه”)) .نرى هنا،اشتغال كل شيء وفق
مجازات ،لأنه تنبغي إحاطة القارئ رويدا رويدا، أن “الكتابة الجيدة قد
تحققت” ، بالتالي ما يستهلكه هو الأدب. (…) ولكي يكون هناك أدب، ينبغي
توظيف “يطقطق”آلة الطباعة ،”تدق الشرايين” أو “يعانق أول دقيقة سعيدة في
حياته”.إذن ليس بوسع الكتابة الواقعية ،غير النفاذ على الحذلقة والتكلف.
يكتب غارودي :((مع كل سطر، ترفع اليد المتسلطة على آلة مفاتيح الحروف،
نقرها على المصفوفة المتراقصة… هذه اللغة الخاصة المحيلة على “ماديلون”
و”كاتوس”)).
لايمكننا المبالغة كثيرا،في التركيز على هذا النوع من
النقد، وكذا”الأصالة التاريخية” لأسلوب ما. هنا،تتمحور مختلف الحمولة
الايجابية لرولان بارت. لكن، ما الذي أقام الهوة بين فلوبير وغارودي؟ لماذا
هذا “الأسلوب الفني”الخاطئ ، والذي أبطله قبل ذلك فاليري، قد أضحى نوعا من
تجسيد العقم المطلق في الرواية العمالية الزائفة فترة القرن العشرين؟ .
لاتكفي،مبررات الصدق التاريخي. ويلزمك قصد الفهم،الاتصاف بحس مرهف حيال ما
وراء اللغة،التي ستبدو شيئا ثانيا،غير”ملصق” يشير إلى وضعية تاريخية
بعينها. الملصق في ذاته مخادع، بينما تمثل على الأقل سخرية “هيبيرت”
إعلانات حقيقية.غير،أن الخصام يتجلى فيما وراء الإعلانات : ماغاب حتما عن
غارودي،هو بالضبط كل بعد للغة خارج التاريخ. أفق لامسه فلوبير،على الرغم من
اللغة /الملصق .وضع،لا تفسره على الأقل، غير :(( سطحية غارودي المفرطة
))كما أشار بارت بشكل عابر.
لكن لنذهب أبعد من هذا المستوى : فرفض كل
بعد لا تاريخي للأسلوب، قاد بارت إلى تأكيد :((استحالة تبلور عمل أدبي رائع
خلال الحقبة المعاصرة)). لذلك : ((فهذه الكتابات التي تضاعفت))،تبقى
بالنسبة له مجرد انعكاس لتمزق الطبقات.إن الكاتب المعاصر، سواء :((أقر
بالطراوة الهائلة للعالم الحاضر)) ،لكنه لايمتلك غير :((لغة فخمة وميتة))
وعلامات قوية جدا،والتي تفرض انطلاقا من ماض غريب، كي تجعل الأدب تقليدا
وليس توفيقا.أما إذا ابتغى خلق لغة حرة ، فإنها :((تبعث إليه مصنوعة،لأن
الشيء الفاخر، ليس بريئا أبدا)).
هنا،نلج منطقة غريبة
للماركسية-الآدمية. يذعن الأسلوب قليلا، كي ينغلق ضمن التاريخ، حيث شرع
بارت يحلم بتاريخ لن يكون قط تاريخا، ومجتمعا فردوسيا بكيفية ما. نموذج
مدينة، لإله العلمانيين . وحده هذا المجتمع اللاواقعي، المستحيل
والرمزي،سيخول له الحلم بالأسلوب الحقيقي. مجتمع متخيل حُلميا، يبدو أنه
ستنمحي داخله الطبقات. يكتب بارت :((يبحث الكتّاب اليوم عن اللأسلوب،
الدرجة الصفر في الكتابة،قصد حدسهم حالة مجتمعية متجانسة كليا)) ،وبلوغ :
((لغة ترسم فتوتها، كمال عالم آدمي جديد، ينتفي معه استلاب اللغة)).التاريخ
مفسد جدا للأسلوب في ماهيته، بحيث ينبغي دفع التاريخ نفسه نحو وهمية
الآدمية، إذا لم نكن نريد،الوقوف في الأسلوب ذاته عن بعد يفلت من التاريخ .
إذن ، يظهر رعب التاريخ كأحد العقد الجوهرية للماركسية. هذا الرعب الجلي
جدا،وحدها القصيدة تخلصنا منه :((تفرض القصيدة المعاصرة ،الكلمة مثل شيء أو
في واقع الحال حيوية فوق التاريخ)). ثم ، تصير الكلمة ساحرة وطوطم يتجلى
بمادته نفسها.
إنه منعطف مهم جدا، ينبغي التركيز عليه قليلا : تعتبر
الأسطورة المتعلقة بتشظية التاريخ، بمثابة ثأر لهذا العمق الذي يمنع عن
الكلام. التاريخ، يضر بكل شيء بما فيها اللغة. هذه الكتابة المحايدة، التي
يتخيلها بارت داخل”مجتمع آدمي”وعالم “توفيقي”.تلك الحيوية (بنوع من
التشديد) المرتبطة بالكتابة البيضاء. ثم أخيرا،تتعفن بدورها،البراءة التي
يمكن أن تفرزها الماركسية المنقذة:((تتهيأ “الآليات “في نفس المكان الذي
توجد فيه أولا حرية، وشبكة من النماذج المتصلبة.ثم، تمنح أكثر فأكثر حيوية
أولى للخطاب. كتابة، تولد ثانية مكان لغة لانهائية. حينما، يصل الكاتب إلى
الكلاسيكي، يصير وريثا لإبداعه الأولي ويحول كتابته إلى نمط فيجعلها سجينة
لأساطيرها الشكلية الخاصة)).بقدر القول،أن القضية الجوهرية تكمن في النجاة
من التاريخ. كيف بالكاتب داخل مجتمع “متجانس” التخلص من الماركسية؟ربما،
بنفس كيفية فلوبير مع البورجوازية.
بيد أنه،حتى لو اقتضى الأمر من
المجتمع الماركسي مستقبلا، تحجير الكتابة المثالية، فقد استحوذ على بارت
هاجس خوف سري من التاريخ، تترجمه بالضبط الثورة ضد تعفن الكتابة. لكن لماذا
رعب التاريخ، إن كان الأخير يقودنا حقا إلى تصالح النوع الإنساني مع تحقق
لمدينة الإله؟. لماذا ،لا تصير الكتابة البيضاء حتى ولو هي متجمدة، مقبولة
أبديا بين أحضان عالم أضحى حقا آدميا؟.
نأسف، لعدم إمكانية تعميق
نظريات بارت، دون الانتهاء إلى تحليل نفسي للماركسية، يهمنا هنا طبعا بخصوص
قضايا الأسلوب. والحال،يلزمنا النظر جيدا، بأن الحلم الآدمي لبارت،
وإرادته كي يتخلص من تكلس الكتابة في التاريخ، قاده إلى تمثل نوع من
الحاضرة الإلهية،نسبت مختلف انحرافات التاريخ إلى المجتمع البورجوازي.
وانتقاد عنيد جدا،لكنه دقيق،لتناقضات مثل هذا المجتمع وأساطيره، ستحل محله
الكيفية المتعلقة بفضاء إلهي يعيش الناس داخله أخيرا في “توافق”.
لكن،متى يتجلى المأزق؟ونحن نلاحظ ،أن المدينة الإلهية أيضا في نهاية
المطاف، تم الكفر بها واتهامها بأنها لازالت تنتمي إلى التاريخ، بالتالي
تضلل بدورها طراوة وبراءة الكلام. إنها حركة يائسة وغير مستساغة، لدى أحد
أتباع القديس أوغسطين.
يؤاخذ بارت على الجنة إن صح القول، إفسادها للغة
الملائكة. هذه “الكتابة البيضاء” الشهيرة ،الفردوسية حسب المنى .سياق،غير
قابل للإدراك إلا إذا انتقد بارت اللغة البورجوازية باسم مدينة مثالية
،لايؤمن بها أبدا. مما يجعله، في وضعية موحية جدا أمام الكلام. لأنه أخيرا،
يمثل هذا الرفض الرائع بعدم تسييج اللغة في التاريخ حتى على ضوء منتهاه
الماركسي، أو بلغة مباشرة أين ستجد هذه الحرية مستقرها لدى رجل تشير أوضاعه
المذهبية الراسخة :أن الشخص لايعيش مطلقا خارج السياق التاريخي؟.
طبعا،يوضح بارت أن الكتابة والكلام “أفقيان” بينما الأسلوب”عموديا”، يتجذر
وسط عمق شاسع. لكنه،عمق يهرب منه على الفور.إذا كان الأسلوب : ((سابقا حقا
عن التاريخ))، فلأنه يفتقد لأي شرف آخر غير بيولوجي إنه : (( يمتلك شيئا
خاما)) و:((صيغة بدون قصد)).الأسلوب :((نتاج اندفاعة، وليس غاية. مثل بعد
عمودي ومتوحد بالفكر. إحالاته، ذات مستوى بيولوجي أو ماض لا علاقة له
بالتاريخ : الأسلوب “شيء”الكاتب وأبهته وسجنه. إنه عزلته)).
هانحن
ندرك، مفترق طرق خاص .ارتجاج عميق، وارتعاش ضمني يحضران كل يوم عند بارت
:هذا البعد البيولوجي للكتابة، الذي يشكل بالضبط الأسلوب ،سيتكلم عنه
بمحتوى غنائي كما لو كان مهيأ كي يعثر من خلاله على معطى يتجاوز الكتابة.
الأسلوب :(( بمثابة مسلك زخرفي لجسد مجهول وسري)) ،يشتغل :((بكيفية ضرورية
،كما لو داخل هذا النوع من الاندفاع المزهر، تبلور الأسلوب مجرد تعبير عن
تحول أعمى ومثابر، وجزء من لغة تحتية تتشكل بين حدي الجسد والعالم(…)،
معجزة هذا التحول، تجعل من الأسلوب شكلا لعملية فوق-أدبية، تنقل الإنسان
إلى عتبة القوة والسحر)).
لكن،ما إن يقع التسليم به حتى يُرفض. لن
يتجلى، الأسلوب فنيا لأنه محض بيولوجيا :((يتموضع خارج الفن، بمعنى الميثاق
الذي يربط الكاتب بالمجتمع)).لقد لاحظتم جيدا، صيغة تجلي الأسلوب خارج
الفن.
هاهي إذن عزلة الأسلوب، بما أنها تبعث على الخوف، قد استبعدت إلى
الحيوانية الخالصة ، ويجد الفنان نفسه ثانية تابعا للتاريخ : بارت
باعتباره ماركسيا قحا،رفض رؤية الفنان خارج وضعية تاريخية يفترض تعريفها في
المجمل.
يعتبر تعطش بارت المطلق نحو التعالي، مؤلما بل يائسا. فهذه
الحاضرة الإلهية للماركسية،التي ستشكل مقابلا مطلقا لرداءة المجتمع
البورجوازي،عجز أن يشكل حولها فكرة نسبيا دقيقة ومقنعة،لأنه كما رأينا بارت
وفي قيرورة لاوعيه غير مقتنع بذلك.
أولا، ولأجل التخلص من لعنة
التاريخ، يجدر تصورها وقد تجردت من كل الملامح الإنسانية الخاصة بالمجتمعات
بحيث استحوذ عليها”رجل أمين”،”جابه في نهاية المطاف الموضوعية”. لكن
ماهي”الموضوعية”الملائكية والعنيدة في الآن ذاته، التي باستطاعتها التماسك
داخل مجتمع أضحى مثاليا؟.
أخيرا،ولأن بارت رفض كل تجاوز للتاريخ من قبل
الأسلوب، سيرتقي بالتاريخ إلى المطلق مع نفيه كليا، مادام يفسد كل كتابة.
إذن بارت نفسه سيحتجز، الأسلوب مع الأدب وسط سجن غريب. الحاجة إلى المطلق،
ستثأر داخل هذه البيولوجيا حيث يكتشف الأسلوب نفسه ملقى به :
الكلمة-الموضوع، الكلمة-المعتمة، الكلمة المنزوية في القصيدة المعاصرة،
ستكون شبه مؤلهة في مادتها نفسها، بنوع من التوثين الغريب.
بعد، أن
مُنع عن الأسلوب كل تسام، هاهي حاليا القصيدة تبهر،تصير ساحرة تجذب
وتذهل.تتبدى مثل :((خاصية يتعذر تبسيطها، ولاتملك تركة(…).إنها
جوهر،بالتالي يمكنها جيدا التخلي عن العلامات، مادامت تحمل طبيعتها في
ذاتها، وليس لها غير إخبار الخارج بهويتها)).
نحن فعلا، بعيدين عن
التوفيق الكوني بين طيات تاريخ آدمي، حيث يجابه الكاتب”موضوعية العالم”
:((إنها الكلمة التي تغذي وتطفو، مثل انكشاف مباغت لحقيقة(…). تسطع، بحرية
لانهائية.الكلمة مشروع عمودي، كتلة، وركيزة تنغمس بين طيات حشد من المعاني
والانعكاسات والأضواء :إنها علامة منتصبة)).
خطاب خاص ! عموما، يكفي
منح بارت فرصة كي ينتشل اللغة من التاريخ – بالنظر إلى القصيدة- ويلقي
بالارتقاء الماركسي من فوق ضفة التعالي الفردوسي : ((كلمة شعر، تمثل هنا
فعلا بلا ماض مباشر ولا حدود)).
هذه اللغة السابقة عن التاريخ، مكنت
بارت كي يعلن في الأخير بأنها سلطة للأسلوب،بمعنى :((صلة قطعا حرة بين
اللغة وثنائيها الجسدي، يطرحها الكاتب كحيوية فوق التاريخ)).غير أن
التناقض، يستمر مع المنظور الماركسي المحض.المجتمع المستقبلي، مضى إلى
المطلق، لكنه مطلق حقا كئيبا ويائسا ب”موضوعيته” التي يبتغي”مجابهتها”
:ولأن الأسلوب قد أقصي إلى البيولوجيا، فيبدو أن الكاتب يكابد نموذجا من
الاختناق بناء على تاريخية بلا مخرج. تارة أخرى،يظهر حقا الأسلوب بمثابة
“حيوية فوق التاريخ” ،لكن دون عثوره أبدا على موقع في التاريخ الذي اختزل
إلى مجرد تشظي لكلمة شعرية معتمة وسحرية.
بين جانبي هذه الغشاوة،
الفردوسي والشفوي يتبلور قدر ذهني موحي، يشهد على طريق روحي مسدود مختلف
جدا، عن ما يظن بارت،أنه أخرجه إلى الوجود.طريق بلا منفذ، وفق هذه الحاجة
ذاتها للمقدس التي ظنها هيدغر أنها ربما تشكل القضية الجوهرية لحقبتنا.
كيفما جاء الأمر، بخصوص المستوى الذي يهمنا هنا، من الطبيعي أنه في اللحظة
التي ترتبط كل كتابة بالتاريخ ولا تفلت منه إلا بالكلمة العمياء والمبهرة،
الكلمة/الشيء في قطيعة متمردة مع الخطاب، وكل نقد قائم على القيم و
التراتبية . حينئذ،يصبح كل عمق مضاء مستحيلا.
لكن يبقى،أن بارت في
مقاربته للكتابة باعتبارها “ملصقا” عن وسط تاريخي معين، قد أظهر حقا دون
توخيه للأمر، ما ليس عليه الأسلوب :بمعنى سلوكا ونموذجا وصدى حتميا
للاجتماعي .
لقد اهتدى بالزاك بالأسلوب،إلى أبعد من الكتابة نحو التاريخ الذي يدركنا، مع ذلك اتصف بالوضوح.
أيضا ، يبطل بارت بقوة، كتابات تتسلل فتتوارى عن المأساة والعمق، معتقدا
أنه يبلّغ عن خيانات تجاه التاريخ كما الشأن مع الكتابة البورجوازية
والأسلوب الفني ومختلف أنصار النزعة التقليدية.
أخيرا، يظهر بارت
ماسيكلفه البحث عن تعال حيث لا يوجد : نرى هذا القديس الأوغسطيني اللائكي،
نبي الحاضرة المستقبلية،يعاني مرارة التنكر لها باستمرار خلال اللحظة ذاتها
التي يعلن عنها، ويرتعد أمام الكلمات السحرية التي أفرغت من معناها
واختزلت من مادتها. *هامش: مرجع النص :
Manuel De Diéguez : l écrivain et son langage ; Gallimard 1960 ; pp 133-147
موقع الدكتور مسلك ميمون